Urjanun Jadid
الأورجانون الجديد: إرشادات صادقة في تفسير الطبيعة
Nau'ikan
54
فإذا ما أخذك الفضول وألححت عليه في السؤال عن براهينه على المبادئ أو القضايا الأولى فلن تجد من المنطق سوى رد واحد معروف جيدا، وهو أن يحيلك ثانية إلى الإيمان وقسم الولاء الذي ينبغي أن يؤدى لمبادئ كل فن على حدة.
لا تبقى هناك إلا الخبرة المحضة، والتي إذا جاءت بنفسها سميت مصادفة، وإذا جيء بها سميت تجربة، ولكن هذا النوع من الخبرة ليس أكثر من مكنسة بدون رباط (كما يقولون) مجرد تحسس، شأن أناس في الظلام يتحسسون حولهم عساهم أن يجدوا طريقهم الصحيح، بينما الأفضل لهم جدا أن ينتظروا ضوء النهار أو ضوء شمعة ثم يتقدموا، على النقيض من ذلك يبدأ النظام الصحيح للخبرة بإيقاد ضوء، ثم بكشف الطريق في هذا الضوء، منطلقا من التجربة الممنهجة المنظمة لا التجربة الملفقة العشوائية، ومنها يستنبط المبادئ، وعلى هذه المبادئ يؤسس تجارب جديدة، ذلك أنه حتى «كلمة الرب» لا تؤتي فعلها في الخليقة إلا بمنهج.
لذا فلا عجب للناس إذا كانت العلوم قد تعثرت عن إكمال الطريق، فلقد ضلت سبيلها إذا تركت التجربة وهجرتها تماما، أو أوقعت نفسها في شرك متاهاتها وجعلت تتخبط في حلقات مفرغة، في حين أن المنهج المنظم القويم يتخذ جادة آمنة خلال غابة الخبرة تفضي إلى رحبة المبادئ. ••• (83) ولقد زاد في تعقيد المشكلة بدرجة عجيبة اعتقاد أو تصور عميق الجذور على أنه متغطرس ومؤذ، مفاده أن مما يحط من قدر الذهن البشري أن يظل عاكفا ومكبا على التجارب وعلى الأشياء الجزئية التي هي موضوعات للحس ومقصورة على المادة، لا سيما وأن هذه الأمور تقتضي في العادة جهدا في البحث، وأنها لا تليق بالتأمل ولا بالحديث ولا بالممارسة، وأنها مفرطة في الدقة، وهكذا لم يعد الطريق الحق مهجورا فحسب بل معترضا ومغلقا، لم يقتصر الأمر على تجاهل التجربة وإساءة تطبيقها، بل تم نبذ التجربة وازدراؤها. ••• (84) إن توقير العصور القديمة ونفوذ الرجال الذين حظوا بمكانة كبيرة في الفلسفة والإجماع العام، كل أولئك أمور عاقت الناس عن التقدم في العلم، وأسرتهم إلى حد كبير، أما عن الإجماع فقد تناولته فيما سبق، «وأما عن الرأي الذي يرفع به الناس من قيمة القدم فهو رأي عقيم تماما ولا يكاد يتفق مع اللفظة؛ ذلك لأن كبر العالم وتقدمه في العمر هو ما ينبغي أن يعتبر «قدما» في حقيقة الأمر، وهذه هي الصفة المميزة لزمننا نحن لا للعمر المبكر للعالم في أزمنة القدماء، فإذا كان هؤلاء الأخيرون بالنسبة لنا قدماء مسنين فإنهم بالنسبة للعالم محدثون صغار، ولما كنا نتوقع من الشخص الأكبر معرفة أكبر بالشئون البشرية وحكما أنضج مما نتوقعه من الصغير - بفضل خبرة الكبير وبفضل كثرة وتنوع ما رآه وسمعه وتأمل فيه - فإن لنا أن نتوقع من عصرنا أمورا أعظم مما نتوقعه من العصور القديمة، ما دام العالم قد تقدم في العمر وازدادت ذخيرته واكتنزت بما لا نهاية له من التجارب والملاحظات، وينبغي أيضا أن نأخذ في اعتبارنا أن كثيرا من الأشياء الجديرة بأن تلقي الضوء على الفلسفة قد اكتشفت وأميط عنها اللثام بفضل الرحلات والأسفار الطويلة التي زخرت بها أيامنا، إنه ليكون مخزيا حقا للجنس البشري أن تستكشف أصقاع العالم المادي - الأرض والبحر والنجوم - وتستظهر على هذا النحو المذهل، بينما تبقى حدود العالم الفكري محصورة في الكشوف الضيقة للقدماء.»
أما عن السلطة فهي من الجبن بحيث تولي ثقة غير محدودة لمعلمين معينين بينما تغمط الزمن حقه، الزمن هو معلم المعلمين، ومن ثم فهو سلطة كل سلطة، فقد صدق من أطلق على الحقيقة «بنت الزمن» لا بنت السلطة، لا عجب - إذن - إذا كانت قيود القدم والسلطة والإجماع قد كبلت قوى البشر فصاروا عجزة (كما لو كانوا مسحورين) عن مقاربة الأشياء ذاتها. ••• (85) ليس الإعجاب بالقدم والسلطة والإجماع فقط هو ما أجبر جهود الإنسان على أن تقف قانعة بالكشوف التي تم تحقيقها، بل الإعجاب أيضا بالأعمال نفسها التي صارت بحوزة الجنس البشري، فمن يستعرض مختلف الأشياء والأدوات الرائعة التي جمعتها الفنون الميكانيكية وأدخلتها من أجل خدمة البشر، فمن المؤكد أنه سيكون أميل إلى الإعجاب بثراء الإنسان منه إلى الشعور بفقره، غير مدرك أن الملاحظات الأصلية وعمليات الطبيعة (التي هي أشبه بالروح أو المبدأ المحرك لكل تلك الأشياء) ليست بالكثيرة ولا العميقة، وأن بقية الأمر تعزى - ببساطة - إلى الصبر وإلى خفة ودربة حركة اليد والأداة، ولنأخذ صناعة الساعات كمثال: إنها بالتأكيد شيء حساس ودقيق، وتبدو تروسها محاكية للمدارات السماوية ولضربات قلب الحيوانات في حركتها الموصولة المنتظمة، ورغم ذلك فهي تعتمد على مبدأ طبيعي واحد أو مبدأين.
مرة ثانية، إذا تأملت الحذق المتبدي في الفنون الحرة،
55
أو حتى في إعداد الأجسام الطبيعية في الفنون الميكانيكية، وتأملت في أشياء مثل: اكتشاف الحركات السماوية في علم الفلك والهارمونيا في الموسيقى وأحرف الأبجدية (غير مستخدمة حتى الآن في الصين)
56
في النحو، ومنتجات باكوس وسيريس، أي تحضير النبيذ والجعة وعمل الخبز، أو حتى مشتهيات المائدة والتقطير وما إلى ذلك، وإذا تفكرت أيضا كم استغرقت هذه الأشياء من أحقاب (إذ إنها جميعا قديمة باستثناء التقطير) حتى بلغت الدرجة الراهنة من الكمال، وكم هي قليلة (كما في مثال الساعات) تلك الملاحظات والقوانين الطبيعية التي يمكن أن ترد إليها، وكم كانت بسيطة عملية اكتشافها (من خلال فرص مواتية وملاحظات عابرة)، إذا تأملت ذلك فسينقطع إعجابك للتو وسترثي لحال البشر، بالنظر إلى ضآلة المكتشفات خلال هذه الأحقاب الطويلة من الزمن، ولكن حتى المكتشفات التي ذكرناها كانت أقدم من الفلسفة ومن العلوم الفكرية؛ ولذا فإن شئت الحقيقة فمنذ أتت العلوم العقلية والدوجماطيقية إلى الوجود انقطع اكتشاف منتجات نافعة.
Shafi da ba'a sani ba