وهي على يقين من أن أبناء العصر وكتابه الأفاضل الذين يرومون تنبيه الشرق من سباته، وأن يمحوا عنه عار الاستسلام للسلطات المضرة، ويطلبون الحقيقة أينما وجدوها سينظرون إلى هذا الكتاب نظرا ينسي مؤلفه شيئا من التعب الذي عاناه في تأليفه؛ لأنه لو لم يكن على ثقة من رضاهم وتنشيطهم قياسا على ما مضى، لما وجد في نفسه القوة اللازمة للإقدام على كتاب كهذا الكتاب مع ما هو معروف في بلادنا عن بضاعة العلم والأدب، وما هو مشهور من تهشيم حرية الفكر ونزاهة النشر؛ تزلفا للسذج وذوي المصالح، خصوصا في الشئون الوطنية والمسائل الشرقية.
والمؤلف لا يدعي في هذا الكتاب فضلا أو مزية، ولكنه يصرح بأنه بذل جهده للجهر - بحرية تامة - بكل ما يجب الجهر به عند الاشتغال بمسائل مهمة خطيرة كالمسائل التي في هذا الكتاب، وطلب الحقيقة بين كل الأحزاب باستقلال تام كأن الكاتب غير منسوب إلى أحدها. فإذا كان إخواننا الرصفاء والقراء الكرام يرون بعد مطالعة هذه الرواية أن المؤلف قد قام بهذه الوظيفة، فهذا خير جزاء يريده منهم، وأفضل ثناء يقبله على الطريقة التي أقدم عليها مع معرفته صعوبتها في بدء الأمر في بلادنا الشرقية التي فيها سلطان الجبن والذل والمصلحة، أقوى من سلطان عزة النفس، وحرية الفكر، وجرأة المبدأ. •••
ويجدر بنا في هذه المقدمة أن ننبه القارئ الكريم إلى أمرين: (الأول) الطريقة الإنشائية التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب. فإننا عنينا هنا بما يسميه الإفرنج «جمال التأليف» عناية خاصة؛ لأن المجال في هذا الكتاب واسع لفكر المؤلف وقلمه ولا قيد يقيدهما ألبتة، وهذا الذي يسمونه «جمال التأليف» عليه المعول في كل الكتب الجليلة التي هزت نفوس البشر في الأرض ورقتها وأمالتها نحو الخير والكمال، وبدونه لا يكون للكتابة أثر في النفوس، ولا جاذبية تجتذب القراء للإقبال عليها، وتأليف جمهور مفكر يميز غث الأمور من سمينها وجميلها من دميمها، وهو ما يعبرون عنه بالرأي العام، وهذا الأسلوب الذي اعتمدنا عليه هنا يعتمد على عاطفة الجمال التي في نفس الإنسان، والتي بها يميز عن الحيوان حتى عرفوا الإنسان «بأنه حيوان يعرف الجمال ويشعر به»، ويقول كثيرون من علماء العمران: إن «الجمال» في الفنون والصنائع الجميلة «وصناعة القلم في جملتها» هو أساس نهضة أوروبا. فإن ارتقاء هذه الفنون الجميلة في إيطاليا كان ناشئا عن ارتقاء عاطفة «الجمال» فيها، وهذا الارتقاء لطف الأذواق ورفع النفوس وكبرها، ومن هنا نشأ الميل للحرية والارتقاء فسرى إلى أوروبا كلها، وبناء على أهمية عاطفة الجمال هذه ترى الناس يبتاعون صورة من صور المصور رفائيل مثلا بملايين فرنكات. فهم يبتاعون بابتياعها ثمار أرقى نفس؛ لأن عاطفة الجمال بلغت فيها أقصى درجات الارتقاء الممكن في الأرض. فإذا قابلنا بين هذه العناية «بالجميل» في بلاد المتمدنين، وبين اعتبار بعضهم عندنا الجمال في الكتابة وغيرها شيئا ثانويا، بل تخيلات وتصورات وأدبيات جاز لنا أن نأسف؛ لأننا في الشرق لم ندرك بعد ماهية الارتقاء الحقيقي لكوننا لا نزال نذم الورد على أسلوب ذلك الشاعر العربي الذي شبهه ذلك التشبيه المشهور.
1
ولكن من حسن الحظ أن عاطفة الجمال الطبيعية الموجودة في نفوس الناس في الأرض أقوى من أن تخنق إذا لم يفهمها بعض الناس، ولذلك ترى (جمال صناعة القلم) يؤثر في الناس في الشرق من غير أن يدروا به، وهذا سبب نهضة الشرقيين إلى الكتابة والمطالعة وتعلقهم بهما، وكلما ارتقت فيهم عاطفة الجمال، أي كلما ارتقت «نفسهم نفسها» ارتقى فيهم الميل إلى هذه الصناعة، وجميع الصنائع الجميلة على نسبة واحدة. فمقياس ارتقاء الأمم إذن إنما يكون بالنظر إلى ما تقدر على إبرازه من عاطفة الجمال هذه مقرونة بشقيقتها عاطفة الخير «لأن الجمال الحقيقي لا ينفصل عن الخير مطلقا» لا بالنظر إلى ما تقدر على تقليده من شئون غيرها، والفلاسفة يضيفون إلى «عاطفتي الجمال والخير» «عاطفة الحق» التي مقتضاها الجهر بالحقيقة، وطلبها باستقلال تام ونزاهة عن كل مواربة وجبن، ويقولون: إن هذه الثلاثة هي أغراض العلم العليا ومواضيع الفلسفة السامية، وهو قول حق؛ ولذلك نتمنى أن يكثر في بلادنا العزيزة كل ما ينمي هذه العواطف الثلاث؛ لأنها أساس كل ارتقاء ونزاهة وفضيلة، ومصدر كل شيء عظيم، والأمم التي لا تؤسس على هذا الأساس المثلث تتعب وتبني عبثا؛ لأنها لا تبني إلا على المصالح المادية والقابلية الحيوانية. (والأمر الثاني) الذي أحببنا التنبيه عليه أن الروايات التاريخية لا يقصد بها سرد وقائع التاريخ وأرقامه. فإن طالب هذه الوقائع والأرقام يلتمسها في كتب التاريخ حيث تكون قريبة المنال؛ لتجردها عما ليس منها لا في الروايات المطولة التي تشتبك وقائعها الخيالية بها، ولا يصبر طالب التاريخ البحت على مطالعتها، وإنما المقصود من الروايات التاريخية (فوق سرد الوقائع والأرقام، وتصوير الوسط المراد تصويره، وإبراز العواطف والأفكار التي كانت تختلج في هذا الوسط) تكميل التاريخ في جوانبه الناقصة.
ونعني هنا «بتكميل التاريخ» أن يضع المؤلف نفسه موضع الأشخاص التاريخيين الذين يتكلم عنهم، ويعبر عن أفكارهم وآرائهم في المواقف التي يصورها لهم، والتي لا أثر لها في التاريخ مستدلا على ذلك بما يعرفه عنهم، وهذا الأمر في روايات «ديماس» المشهور كان أهم الأمور. فكأنه به يحيي الأبطال الذين يتكلم عنهم، ويجعلهم يشعرون بالأمور التي كانت تنطبق على تاريخهم ومقاصدهم، ويكشف لك خبايا كانت مدفونة في صدورهم، ولقد سلكنا هذا المسلك أيضا في هذه الرواية. غير أننا خشينا أن يختلط التاريخ بما ليس هو في شيء منه فيضل القارئ، سيما القليل الاطلاع، فوضعنا علامات للتفريق بين التاريخ وبين التصنيف والاستدلال، وإليك هذه العلامات: «هذه العلامة * (أي النجمة) تدل على أن ذلك القول وارد في التاريخ، والعلامة (- تدل على عكسه أي أنه تصنيف أو استدلال من المؤلف لا أثر له في التاريخ، والكلام الموضوع بين قوسين هكذا « » أو ( ) أو فاصلتين ،، ،، ومعه نجمة * هو نص تاريخي بحرفه، وأما إذا كان الكلام بين هذه الأقواس بلا نجمة أو كان بلا أقواس ولا نجمة فليس هو من التاريخ في شيء، خصوصا إذا كان بين أشخاص الرواية الخياليين - هذا إلا إذا نبه عليه في الحاشية».
وسنتابع هذه الاصطلاحات في كل رواياتنا التاريخية؛ ليتسع لنا مجال الاستنباط والاستدلال التاريخي في أمثال هذه المسائل. إذ بدون هذه الاصطلاحات يشوه الكاتب التاريخ إذا حرص على الاستنباط والاستدلال، ويهمل أهم ما في التاريخ الروائي إذا أهملهما، والقراء في الشرق على الخصوص يعرفون أن الكاتب في شئون المسلمين والمسيحيين في بلادهم لا غنى له عن هذا الاحتياط؛ لحرج الموقف، وصعوبة الطريق.
أما المصادر التي اعتمدنا عليها في هذا الكتاب فهي عدة لمؤلفي العرب والإفرنج، وقد رجعنا في شئون العرب إلى كتب العرب، وفي شئون الروم إلى كتب الإفرنج كما يجب أن يكون ذلك؛ لأن كل قوم أدرى بتاريخهم، ولقد أشرنا في الحواشي إلى أكثر تلك المصادر.
هذا ما قصدنا ذكره في هذه المقدمة، والآن نأخذ بيدي القارئ الكريم؛ لنسيح معه في هذا الكتاب سياحة طويلة.
مدخل
Shafi da ba'a sani ba