أستير ابنة جاسوس؟ يا للهول. ذلك المثال البديع للجمال وأدب النفس قد خرج من دم التجسس واللؤم؟ يا للهول. إذن أين يجد إيليا الطهارة والنقاء في العالم بعد اليوم؟ وما الذي يسليه بعد ذلك عن هذه الخسارة التي فقد بها أحلامه وآماله في هذه الحياة؟
إيليا خان وطنه وساعد الجواسيس عليه؟ يا للهول. نعم، إنه لم يكن شديد التعصب لوطنه ومملكته؛ لأن اليونان كانوا العنصر السائد المستبد فيهما، ولذلك قد يمكن أن يكون هذا الفتح مساعدا للأمة السورية المغلوبة على العنصر المستبد الغالب، ولكن من يضمن أن يكون العنصر الفاتح الجديد أقل استبدادا وأكثر إنصافا للأمة المغلوبة من العنصر الفاتح القديم. لا ريب في أن إيليا لم يكن يعتبر الدين جامعة قوية بل هو يضع فوقها الجامعة البشرية أي جامعة «العدالة المطلقة والإنصاف المطلق» ولكن من يضمن له أنه لا يكون في هذا الاستبدال كالمستعين من الرمضاء بالنار وكالمنتقل من نير إلى نير.
وقد بقي إيليا يفكر ساعة في موضوعه الجديد، وبعد أن برد هواء المساء جبهته التي كانت متقدة بهذه الأفكار قر رأيه على السفر دون أن يشاهد أستير ولا أباها. فانحرف عن خيمة ضرار وقصد خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب؛ ليستأذن منه بالرحيل، ويسأله رجلا يرافقه إلى خارج المعسكر، وكان غرضه من ذلك أيضا زيادة التقرب من هذا الأمير، لعله يستعين به على شيء يفيد بني وطنه إذا وقعت المدينة في أيدي العرب.
ولما وصل إيليا إلى خيمة الأمير عمرو بن معدي كرب وجده راجعا من خيمة أبي عبيدة. ذلك أن أبا عبيدة كان قد جمع أمراء الجيش ووجوه الجند؛ ليستشيرهم في طول الحرب، وما أصاب الجند من التعب والشدة للمطر والثلج والبرد.
3
فأجمع رأيهم على أنه لا سبيل لأخذ المدينة إلا صلحا أو يبرز الروم من وراء الأسوار للقتال وجها لوجه. لا سيما وأنه قد بلغهم أن الأرطبون مقدم الجند الذي فر من أجنادين ولجأ إلى بيت المقدس في أثناء الحصار معارض في الصلح كل المعارضة. فلما علم الأمير عمرو بن معدي كرب برغبة إيليا في الدخول إلى المدينة استغرب ذلك وسأله بواسطة الترجمان: أين أصحابه؟ وقد عني بهم أستير وأباها. فارتعد إيليا لهذا السؤال. أولا: لأنه ذكره أمره، وثانيا: لأنه تذكر أن أستير ستبقى بعده هدفا لميل ضرار وعمرو بن معدي كرب وأرميا.
ولما ودع إيليا الأمير قال له الأمير: سنلتقي في المدينة بعد بضعة أيام، فابتسم إيليا وشكر للأمير ما لقيه عنده من الكرامة وحسن الضيافة مدة الأسر. ثم سأله نصيحة لقومه يكون فيها فائدة للفريقين؛ فأطرق الأمير يفكر، ويظهر أنه بدا له أمر مهم ولذلك أشرق وجهه. فقال لإيليا: لقد استنصحتني أيها الشاب، وأنا أصدقك النصيحة. إن هذا الجيش إذا فتح مدينتكم هذه سيكون شديد الوطأة عليها؛ لأنه عانى في هذه الحرب مشقة شديدة، وها قد مرت أربعة أشهر والقتل فيه كل يوم، ولو كان المدد سيصلكم لوصلكم في أثناء هذه المدة الطويلة. فحرض قومك على الصلح إذا كنت نافذ الرأي عندهم وكنتم تحبون سلامة مدينتكم، ولكي تعلم صدق نصيحتي أوصيك أن لا تقبلوا بالصلح إلا على يد خليفتنا عمر بن الخطاب فإنه هو الذي يقدر وحده على كبح جماح هذا الجيش بعد عقد الصلح إذا رام الجيش انتقاما أو اغتناما.
وكان الأمير صادقا في هذه النصيحة، وإن كان قد قصد بها تعجيل الصلح لمنفعة قومه. فشكره إيليا وكرر توديعه وانصرف قاصدا أسوار المدينة، ومعه رجل من رجال الأمير ليوصله إليها.
وكان إيليا وهو سائر يتلفت نحو خيمة ضرار، ويتنهد كلما التفت إليها كما تنهد آدم وتلفت إلى الفردوس عند خروجه منه.
إلا أن ترك آدم فردوسه كان بكرهه، وترك إيليا فردوسه كان بطوعه اتباعا لصوت ضميره وكبريائه.
Shafi da ba'a sani ba