فركب إيليا وسار ينشد ضالته، وكان إذا مر بالطرق التي وقف فيها مع أستير أول أمس يقف عليها مبهوتا متذكرا، وما زال سائرا حتى أشرف على كوخ أرميا تحت الأرزة فلم يجد فيه أحدا. فقصد دير العذراء وسأل خدمته عن أرميا وفتاة معه فأجابوه أنهم لم يروا أحدا، وكان إيليا يرى من قمة الجبل حركات العرب حول سور المدينة فوقف متحيرا في ماذا يصنع. هل يهبط إلى المدينة ويستأذن العرب في الدخول إليها لمقابلة أبي أستير وأمها وسؤالهما عنها أم يذهب إلى بيت لحم. لا سيما وأنه كان خائفا على الفتاة من جنون أرميا، ولكنه بينما كان يفكر في هذين الأمرين، وإذا بشرذمة من فرسان العرب هاجمة على الجبل لارتياد ضواحي المدينة وطلب الزاد والميرة منها. فلما أبصرهم إيليا اصفر لونه وجمد على فرسه في مكانه ... أما الفرسان فلما رأوا ذلك الفارس على الجبل قصدوه جميعا. فشاهدهم إيليا يهجمون عليه دون أن يفر من وجوههم فرارا من عار الفرار. فقبض عليه فرسان العرب وأرسلوه أسيرا إلى قائدهم؛ لظنهم أنه رسول أو جاسوس، وهكذا أصبح إيليا المسكين في همين؛ هم أستير وهم نفسه.
الفصل الخامس عشر
حصر بيت المقدس
فلنترك إيليا الآن أسيرا في خيام العرب، ولنعد إلى المدينة وحاصريها لنرى ماذا حدث فيها. «أقام جند العرب على بيت المقدس ثلاثة أيام لا يبارزهم حرب، ولا ينظرون رسولا يأتي إليهم، ولا يكلمهم أحد من أهلها. إلا أن أهل بيت المقدس حصنوا أسوارها بالمجانيق والطوارق والسيوف والدرق والجواشن والزرد الفاخر.»
1 * «فلما كان اليوم الرابع قال رجل من البادية لشرحبيل بن حسنة:
2
أيها الأمير، كأن هؤلاء القوم صم فلا يسمعون أو بكم فلا ينطقون أو عمي فلا يبصرون. ازحفوا بنا إليهم. فلما كان اليوم الخامس وقد صلى المسلمون صلاة الفجر كان أول من ركب من المسلمين من الأمراء لسؤال أهل بيت المقدس يزيد بن أبي سفيان
3
فشهر سلاحه، وجعل يدنو من سور المدينة، وقد أخذ معه ترجمانا (يعرف اليونانية والعربية) ليبلغه عنهم ما يقولون. فوقف بإزاء السور بحيث يسمعون خطابه وهم صامتون وقال لترجمانه: «قل لهم أمير العرب يقول لكم: ماذا تقولون في إجابة الدعوة إلى الإسلام والحق وكلمة الإخلاص وهي كلمة لا إله إلا الله محمد رسول الله، حتى يغفر لكم ربنا ما سلف من ذنوبكم وتحقنون بها دماءكم، وإن أبيتم ولم تجيبونا فصالحوا عن بلدكم كما يصالح غيركم ممن هو أعظم منكم عدة وأشد منكم، وإن أبيتم هاتين الحالتين حل بكم البوار وكان مصيركم إلى النار.» * فتقدم الترجمان إليهم وسألهم من المخاطب عنكم * فكلمه قس عليه مدراع الشعر * وقال: ماذا تريد؟ فأبلغهم الترجمان أن أمير العرب يدعوهم إلى إحدى هذه الخصال الثلاث: إما الدخول في الإسلام أو أداء الجزية وإما السيف. فبلغ القس من وراءه ما قال الترجمان، وكان فوق السور جمع غفير من الروم، ووراءهم والي المدينة، وقائد الحامية، والبطريرك. فضحك بعضهم، ثم عادوا إليه بالجواب أنهم يختارون السيف؛ لأنه خير الحاكمين * فعاد يزيد بن أبي سفيان إلى معسكر العرب، وأخبر الأمراء بجوابهم. ثم قيل لهم: «ما انتظاركم بهم. فقالوا: إن الأمير أبا عبيدة ما أمرنا بالقتال ولا بحرب القوم بل بالنزول عليهم، ولكن نكتب إلى أمين الأمة (يعني أبا عبيدة) فإن أمرنا بالزحف زحفنا. فكتب يزيد بن أبي سفيان إلى أبي عبيدة يعلمه بما كان من جواب القوم فما الذي تأمر». *
وفي ليلة إرسال هذا الكتاب كان بين خيام جند يزيد بن أبي سفيان خيمة غاصة بنساء العرب وهن مجتمعات حول فتاة غريبة في نحو العشرين من العمر، وكانت أسيرة في الخيمة، وكان النساء يخاطبنها بالعربية وهي لا تفهم لغتهن. فلما أعياهن أمرها قالت إحداهن وكانت هي خولة بنت الأزور الفارسة المشهورة أخت ضرار بن الأزور الفارس المعروف: هل ترين يا أخواتي أن أبا عبيدة ينهانا عن قتال أهل بيت المقدس حرمة للمكان، والله إنني لأود أن أكون أول المقاتلين والداخلين إلى بلد الأنبياء. فقالت خولة بنت ثعلبة الأنصارية: هل نظرت قبل اليوم صخرة بيت المقدس يا خولة؟ فأجابت خولة: وهل دخلنا بيت المقدس قبل اليوم. فقالت كعوب ابنة مالك بن عاصم: وهل سمعت بصفتها؟ فأجابت خولة: «كانت صخرة بيت المقدس في السماء اثني عشر ميلا، وكان أهل أريحا يستظلون بظلها وأهل عمواس مثل ذلك، وكان عليها ياقوتة حمراء تضيء لأهل البلقاء، وكان يغزل في ضوئها أهل البلقاء.»
Shafi da ba'a sani ba