ولما رجعت تيوفانا القهقرى إلى الدير عند ذكر العرب جرت معها إيليا بيدها، وهي تقول: هلم بنا إلى الدير يا كيريه إيليا فإننا نخشى أن يقصد أحد منهم هذا المكان، ولكن رئيسة الدير لما سمعت من تيوفانا خبر وصول العرب هزت كتفيها غير مبالية، وقالت بتسليم ملائكي: لدينا جيش أقوى من جيش الروم والعرب وهو حماية الله، ثم رفضت قبول إيليا وأرميا رفضا قطعيا، وأدخلت إلى الدير تيوفانا وحدها.
فبعد إقفال باب الدير قال إيليا لأرميا: هل تذهب معي إلى المزرعة يا كيريه أرميا أم تبقى هنا للسعي كما ذكرت لك؟
فقال أرميا: كنت في هذا الصباح في المزرعة فلست أعود إليها، وقد سمعت فيها أن الجميع كانوا ينتظرونك؛ لتتناول معهم طعام العيد في الصباح، ولكن بعيشك قل لي ماذا يصنع كيريه سليمان إذا وصل العرب إلى مزرعته؟ فقال إيليا: سأسأله عن ذلك الآن. أما أنت فدبر شغلك كما أخبرتك.
ثم إن إيليا ودع أرميا، وأخذ في الانحدار عن الجبل لا من جهة المدينة، بل من جهة طريق وراء الجبل تؤدي إلى مزرعة كانت قائمة في الجهة الشرقية.
وبينما إيليا سائر نحو المزرعة يحسن بنا الآن أن نذكر شيئا من تاريخ حياته فقد آن ذلك، لا سيما وأن ما يلي متعلق بما تقدم. •••
كان إيليا ابن فلاح من الناصرة يكسب رزقه من حراثة الأرض، فربي إيليا بين النباتات والأزهار والحقول، وكانت أمه قد نذرته للعذراء، ورغبة منها في أن تخصه العذراء بعنايتها كانت في كل مساء يوم أحد تأخذه إلى البيت الذي قيل إنه كان منزل العذراء في الناصرة، والذي كان قد أقيم عليه كنيسة احتراما له، وهناك تجعله يفرق بين الفقراء المجتمعين حول الكنيسة أرغفة خبز تصنعها له أمه خاصة لهذا اليوم، وكان كلما ناول الصغير إيليا أحد الفقراء رغيفا وهو يبتسم ضاحكا بفمه الوردي كانت أمه تقول للفقير: «ادع لإيليا» فيقول الفقير متحمسا بالدعاء لذلك الولد اللطيف: «إن شاء الله سيصير بطريرك القدس» فكان إيليا يقرع كفا بكف من فرحه، والدموع تترقرق في عيني الأم من حنانها وتأثرها، وفي ذات يوم قدم الناصرة عالم عظيم من القسطنطينية؛ ليزور الأماكن المقدسة. فلما شاهد إيليا يفرق أرغفته الأسبوعية، وسمع دعاء الفقراء له أخذ العالم رأس الصبي بين يديه، وقال: «نعم يا بني، ستكون بطريرك أورشليم الجديدة».
وكان الناس في فلسطين يتزاحمون على هذا العالم من كل صوب؛ لأنه كان منجما عظيما، وكان تلميذ أسطفانوس الإسكندري الذي كان يلقب «معلم المسكونة» * والذي أقامه الإمبراطور في قصره في القسطنطينية مع اثني عشر عالما من العلماء؛ لتعليم الفلسفة والطب والموسيقى والهندسة وباقي فروع العلوم
1 * فلما سمعت أم إيليا نبوءة العالم وتنجيمه زاد اعتقادها بعظمة مستقبل صغيرها. فصرفته عن الأمور المعاشية إلى الوظيفة الدينية التي تجتمع فيها أعظم الأشياء وأشقها، أي الرئاسة والخدمة.
أما العالم القسطنطيني فإنه لم يتنبأ تلك النبوءة للصغير إيليا عبثا؛ بل كان له منها غرض أسمى من الغرض الذي فهمته أمه. فإنه كما تقدم الكلام كان قادما من القسطنطينية، وكان لا يزال يدوي في أذنيه ما رآه وسمعه فيها من المجادلات الدينية الفارغة والانقسامات السياسية وضوضاء المدنية البالغة حدود التهتك والإفراط، فلما رأى ذلك الصغير الناصري على أبواب الكنيسة يوزع الخبز على الفقراء مع أنه يكاد يكون فقيرا مثلهم شعر حينئذ بعظمة التدين الحقيقي؛ فقال في نفسه: إن هذا الطفل وأمه أقرب إلى الله من كل أصحاب تلك المجادلات والمشاحنات التي يدعون بها التقرب من الله، وأعجب بصدق العواطف الدينية في الشرق وبساطتها بإزاء القسطنطينية التي صارت فيها العواطف الدينية آلات للسياسة والرئاسة والربح. فقال حينئذ لإيليا ما قاله مشيرا إلى أن صنع الخير المجرد عن كل مصلحة خصوصية ونقاء العواطف وصدق الضمير وسذاجة القلب هذه هي المبادئ التي ستكون في المستقبل أساس أورشليم الجديدة، وإلا فلا يكون هنالك أورشليم.
أما أم إيليا فإنها لما بدأت تدفع ابنها في الطريق الإكليريكية صارت تجلب له الكتب لمطالعتها، فكانت لا تلقى رجلا من رجال الدين حتى تطلب منه كتابا، وكان إيليا يقرأ كل ذلك بلذة وصبر عجيب، وكانت أمه أمية لا تحسن القراءة، ففي ذات يوم لقيت في كنيسة الناصرة راهبا غريبا فطلبت منه كتابا لابنها، وأخبرته أنها ستدخله دير القدس. فقال لها الراهب: سأعطيه كتابا يعلمه، ويجعله أكبر من أكبر بطريرك. ففرحت الأم وقويت ثقتها بابنها، وكان عنوان الكتاب الذي أخذته من هذا الراهب الغريب: «ثلاثة في المسيح» فدفعته إلى ابنها دون أن تعلم بموضوعه، وكان ذلك الراهب نسطوريا، وموضوع هذا الكتاب تعاليم نسطوريوس وأوتيشيوس وآريوس الذين مذاهبهم في المسيح أقلقت الكنيسة وضعضعت المعتقدات فاضطر الإمبراطرة أن يجمعوا المجامع للحكم فيها تسكيتا للاضطراب الذي حدث في المملكة.
Shafi da ba'a sani ba