وكأن أستير شعرت حينئذ أنها شرعت في الدخول في دار الأبدية فاستجمعت قواها كلها، ومدت يدها إلى قميصها فأخرجت منها دفترا مطويا ثم دفعته نحو إيليا قائلة بصوت ضعيف متقطع لا يفهم كلامه إلا بصعوبة: هدية إلى إيليا من عزيزته. فتناول إيليا الدفتر بيمناه بينما كان يمسح دموعه بيسراه، ويظهر أن الفتاة المسكينة قد رأت وهي في حشرجة النزع دموع إيليا، فابتسمت سرورا بأن إيليا يبكي من أجلها. ثم أشارت إليه إشارة أن يتقدم منها. فتقدم إيليا. فاستجمعت أستير قواها وهي على أبواب الموت فقدرت أن تنطق بهذا الكلام: صل من أجلي بدل البكاء ... ادفنوني في المزرعة ... قرب القبر ... لكي أبقى قريبة منك أبدا ...
وهنا أطبقت الفتاة جفنيها، وأعادت روحها إلى باريها.
فيا أيها القارئ الكريم، نرجو منك أن تعفينا من وصف حالة إيليا وأرميا والشيخ والعجوز لما رأوا أمامهم أستير المسكينة جثة هامدة. فإن هذا الوصف يزيد أشجانك وأشجاننا، ويجفف ينابيع الدموع في عيوننا.
ولقد أنفذ الشيخ والعجوز وصية ابنتهما. فأذنا في دفنها في مزرعة الشيخ سليمان بجانب قبر الراهب ميخائيل، وقد صلى عليها أبوها، واشترك أهل المزرعة جميعا في جنازتها، والبكاء عليها؛ لأنهم عرفوها كما تقدم.
أما إيليا فسار في الجنازة كموجود غير حاضر، وقد نفد الدمع من جفنيه، وبقي طول ذلك النهار كمن مسه خبل في عقله، ولما غيب التراب في المساء جسم عزيزته أستير عاد إلى غرفته فأقفل الباب ثم انطرح على وجهه يتذكر ماضي أستير وتقلبات حياته، وبينما هو يتأمل في ذلك تذكر الهدية. فارتعد وجلس ليراها. فلما فتح الدفتر وتصفحه وجد أنه عبارة عن «يومية» كانت أستير تسطر فيه عواطفها كل يوم. فوضع إيليا شفتيه على الدفتر حيث كان خط أستير وعواطفها، وقبله مرارا وهو يبكي بكاء الأطفال. ثم ترك البكاء، وشرع في القراءة، فقرأ أولا ما يلي:
يوم الأربعاء
خرجت اليوم معه إلى الحديقة. فرأيته في النور أجمل منه في الظل، وشعرت بلذة الحياة في هذا العالم ... ولكن أواه إننى لم أولد لأعيش فيه ... وهذا شأن البشر الذين يعطيهم الله نفوسا حساسة أكثر مما يجب ... يا إلهي لا أعارض في أحكامك وحمدا لك ... لما تأملت اليوم في جمال الكون ولذة الحياة أسفت لأنني سأفارق الدنيا ... خصوصا بالطريقة الشنيعة التي عزمت عليها ... آه عفوك يا إلهي مقدما ... وإذا صدق الحلم الذي رأيته في هذا الليل اعتبرته نعمة منك ... فإنني رأيت رسولك جبرائيل هبط إلي وقال: أيها الفتاة إن الله تحنن عليك ورأف بك، ولذلك سيغنيك عن جناية الانتحار، وقد أرسلنى أستدعيك إليه في زمن قصير ... فانتبهت من النوم مذعورة، ولكنني سررت؛ لأنني سأموت موتا لا انتحارا، ولكن أصحيح هذا ... •••
يا لله يظهر أن الحلم سيصدق. فماذا حدث لي يا إلهي. نعم، كنت أشعر في الأيام الماضية بضعف وصداع وارتخاء في كل جسمي، ولكنني كنت أقدر على الجلوس والوقوف. أما الآن بعد عودتي من الحديقة فقد صرت عاجزة عن امتلاك حواسي. فهل هذا بدء الرحيل ... هل اقترب الملاك جبرائيل؟
إيليا إيليا. لقد شعرت الآن أنني منحدرة إلى هوة الموت ... آه، إنني أخافه وأتمناه. أخافه لأنه سيبعدني عنك، وأتمناه لأنني لم أعد أقدر أن أعيش بدونك ... ولا تقل احيي لأكون لك فإنني ذكرت لك في مقدمة هذا الدفتر الأسباب التي تحول دون ذلك. فأشفق علي وصل من أجلي. (فهنا مسح إيليا دموعه؛ لأنها صارت تستر سطور الدفتر عنه، وطلب المقدمة فقرأ فيها):
يوم السبت
Shafi da ba'a sani ba