ولم يكن هناك مناص، فأرخص وسيلة هي عربة النقل، التي يملكها عباس الأعمش، والتي لا يقودها إلا في الليل خوفا من ضبطه بلا رخصة، وقد سقط في امتحان النظر ثلاث مرات، وإلى الطرق الفرعية المنحنية والمنحدرة، والصاعدة والهابطة، ينشال اللوري وينحط، ويميل، ويكاد ينهال في الترعة والمصرف، والعائلة مكومة في الكابينة، وعباس، يراه بعينيه - كلما نقل عصا الفيتيس - يلمس ركبة امرأته، وحتى ابنته ذات الأربعة عشر عاما؛ متعللا بعصيان العصا، والليل قد خلا إلا من جئير الموتور المنهك، وجعجعة الدبرياج، ولمسات الأعمش.
وأنيس أفندي يخرج من منزله في مريوط، مذعورا في منتصف الليل، يعتذر فهو لا يعرف عملا، لا يعرف مكانا للإقامة؛ زوجته مريضة، وابنه يعاني الحمى، وهو مدثر ببطانية، وأنا آسف يا حجاج، آسف؛ الظروف قوية، والعمل صعب، والمزارع والجناين قلت، ولماذا لم تبلعها يا أخي ؟
وحجاج يقول لنفسه: ولماذا - ما دام هذا هو المصير - كنت لا أخلع الحذاء، وأنهال به على الرأس الأصلع للكبش حتى أدميه، وعلى الأقل أخرج بكرامتي، ولكنه المصير الذي ينتظر أنصاف الغاضبين.
والليل قد خلا مرة أخرى، إلا من لوري ذي سائق أعمش، وعائلته تبحث عن عمل مأوى، أو عن مأوى عمل، والموتور يزأر، وعباس يغني في الليل لما خلا إلا من الشاكي، والنوح على الدوح ... وينسى بقية الأغنية ليمد يده إلى عصا الفيتيس، وإلى ما أصبح يصل إليه فوق الركبة، ثم يتذكر عباس الأغنية، ويجأر بصوته: للصابر الشاكي، والليل يمتد ويستشري، ومن بحر إلى محيط يصبح، والعربة بركابها تغرق فيه وتغرق، ولا حتى من نجمة قطب عند الفجر تشهد.
لماذا لم يقتله؟
لماذا لم يكب راكعا - وأمره إلى الله - ويقبل حذاءه؟!
اقتلها
الحياة التي يحياها الآن كأنما هي بالضبط ما أراده طول الوقت، دون أن يعي، والكرسي الذي يجلس عليه، والمنضدة الكائنة في الركن؛ ركنه المفضل، والكم الذي يجرعه من كوب الماء المثلج المضبب البارد، هو بالضبط ما أراده، بلا زيادة أو أقل نقصان، كل نزوة تعن له حتى، ولو تجاه امرأة يحيلها إلى نظرة فخطة، حتما تنتهي حسبما أراد لها! كانت مشكلته دائما أن يحقق، ومن أجل أن يحقق أصبح عليه الآن أن يقتنع. لا إيمان مطلق، لا تسليم. التحقيق هو الحياة، والعمر يمتد مسطحا أمامه أملس كالزجاج، يدحرج البلية، ويأمرها أن تقف، بالضبط حيث كان واقفا، عند الخشبة الثالثة بعد المكسورة من السور، بالضبط هنا قفي أيتها البلية، وحذار أن تتحركي، فمن الممكن وباستطاعتي أن أهدم الكون فوق رأسك.
في العادة حين نتذكر الشيء أو الحدث، نلتزم بالخط الواحد، مذ لم يكن الحدث قد كان، إلى أن كان، وبعد أن كان. هكذا تصنع بنا ذاكرتنا، فوهي تجذب الماضي وتضمه لحظات معا - غير قادرة على التشتت، إلا إذا كنا قد جننا - إما أن تتشتت وهي أعقل ما تكون وأثبت ما تكون، وإما أن ترتد عيناك لتصبحا ليستا نقطتين، ترى بهما ما أمامك، وإنما هي شريط بصري دائري يحيط بكل رأسك، وترى به أقصى زوايا الكون، وبأذنيك وقد امتدتا وتفرعتا ملايين «الإيريالات»، حتى ليسمعانك نبض الكون الأعمق، إذا عن لقلب الكون أن ينبض، إذا استعدت الزمان والصوت والمكان - وبلا حدود - واستحضرت الحدث بلا ذرة تتساقط منه وأنت تستعيده، وكل شيء وكأنه لا يتجمع الآن، ولكنه بقوة عظمى خافية يتحد، ويشكل من الماضي حاضرا في قلب الحاضر الدائر، بل ولأصبح باستطاعتك أن توقف أو تبطئ من دوران أيهما؛ الماضي أو الحاضر، والإسراع بالآخر لتصنع من الزمن عجينة، لها ما شئت من سمك، ومن المكان مساحة لها ما شئت من حيز، الذرة فيها في حجم المجموعة الشمسية، والمجرة فيها تستطيع أن تصغرها بأصبعيك إلى أقل جزيء ممكن.
حين تصنع هذا كله، أو يمكنك صناعته، فإما أن عقلك انتهى تماما، وإما أن عقلا آخر فيك بدأ يبرز، عقلك الأكبر، وويلك إذا انتهى عقلك وبقيت حيا! وويل وويلك إذا بدأ العقل الأكبر، وأنت لا تزال سجين وجودك الأصغر! وفي الحالين أنت في لحظة جحيم، واسمع سيدي.
Shafi da ba'a sani ba