144

[143_2]

والناس على مراتبهم؛ فتكلم المأمون بكلام ذهب فيه كل مذهب. فلما فرغ من كلامه أقبل سهل على الجمع فقال: ما لكم تسمعون ولا تعون، وتشاهدون ولا تفقهون، وتفقهون ولا تتعجبون، وتتعجبون ولا تنصفون؟ والله إنه ليقول ويفعل في اليوم القصير، ما فعل بنو مروان في الدهر الطويل، عربكم كعجمكم، وعجمكم كعبيدكم؛ ولكن كيف يعرف بالدواء، من لا يشعر بالداء. فرجع المأمون فيه عن الرأي الأول؛ وفي ذلك أيضا من حسن المأتي، ولطف المدخل والمخرج، ما يعرفه المبتلى بعشرة الملوك والعظماء، ولا سبيل إلى الدخول على أكثرهم إلا بهذه الطرق من التلطف والتزلف، وإن لم يصدق ذلك من كل وجه على الرشيد والمأمون، وهما ما هما في العقل والعلم والعدل. وأخرى وهي أن سهلا بكلامه هذا، ضرب الحاضرين مجلس المأمون في الصميم، وأنزل من مراتبهم ليستأثر وحده بتلك الرتبة السنية، فنسبهم إلى السكوت في مواطن القول، وإلى القصور في ميدان الاستحسان؛ ومن قعدت به القريحة عن الانبعاث حين الحاجة، كان حريا أن لا يعاشر تلك الطبقة من الخلفاء، وهذا من دهائه الكسروي.

رجع المأمون عن رأيه في سهل، وعرف أنه الرجل كل الرجل في صورته وعقله، ومفاكهته وغنائه وأدبه، فقربه وأدناه على النحو الذي كان عليه في عهده والده، وكان سهل قد أسن بالطبع، ويعرف المأمون منذ كان طفلا عند الخليفة والده. ولكن المأمون يحترم الكبير وهو جد في جماع أموره. بيد أنه لم يقبل باصطفائه إلا بعد اختياره. وعندما وقع عنده على أمور تفرد بها، وقد لا يجدها فيمن كان اختارهم لعشرته من العلماء، وهم عشرة اختيروا لهم من مائة.

حياته العلمية:

كان المأمون مولعا بكتب القدماء والفلاسفة، وعد ذلك من آكد أعماله في إنهاض مستوى العقل العربي، فأنشأ دارا جمع فيها كل ما طالت يده إليه من كتب العلم

Shafi 143