واختلطت الأشياء أمام عيني حميدو ، لم يكن ذلك لقصور في قدرته على الملاحظة، بسبب ضيق الوقت أيضا، فالوقت في مثل هذا اليوم الهام يصبح ضيقا، ووقع الحياة يصبح سريعا لاهثا، فلا يمكن لإنسان أن يتنفس التنفس الطبيعي ولا بد أن يلهث الجميع.
ولهث حميدو كغيره من البشر فلمحته عين، دائما هناك عين تلمح، ترقب الأشياء، وتدس أنفها بتطفل شهواني في حياة الغير أو موتهم، لا تترك الحي يستمتع بحياته، ولا الميت يستمتع بموته. وضم حميدو ساقيه باستحياء (كان قد اكتسب قدرا من الحياء)، وأفسح الطريق لموكب العربات، لكن الوقت كان ضيقا إلى حد أن ساقه اليسرى لم تجد متسعا من الوقت لتتحرك وظلت ممدودة في الطريق، حافية، أصابع القدم الخمسة منتصبة، تهتز بحركة مرئية بالعين المجردة.
توقف الموكب مشدوها أمام المشهد الذي لم يحدث من قبل ولا من بعد، لم تذكر كتب التاريخ حادثة من هذا القبيل، لكن ما يكتب في التاريخ شيء والذي يحدث في الواقع شيء آخر، وما حدث في الواقع كان يستحق أن يدخل التاريخ لجسامته، لكن التاريخ بطبيعته لا يفتح بابه للحوادث الجسيمة، خاصة إذا كان بطلها حميدو.
لم يشعر حميدو ببطولته رغم الزحام الذي أصبح حوله، أعداد هائلة من البشر تجمعت في لحظة خاطفة، وامتلأت المساحة الخالية بين العمارات بالأجساد، وانسدت الأبواب والنوافذ بالرءوس، وترك الناس مكاتبهم ودواوينهم وأغلقوا حوانيتهم واصطفوا صفوفا متلاصقة يستمتعون بالمشهد، لا أظن أن أحدا تخلف، صغيرا أو كبيرا، ذكرا أو أنثى، من الطبقة العليا أو من الطبقة الدنيا، فالكل يريد أن يستمتع، واللذة عامة، ومشروعة بشرط أن تكون في الخفاء.
وكان حميدو لا يزال في موقعه من الأرض، وعيناه مغمضتان بطبيعة الحال بسبب الموت، لكنه رأى (ورؤية الميت أشد حدة من رؤية الحي) رجالا كثيرين من حوله، عرف أنهم رجال بسبب رءوسهم الحليقة، وخراطيمهم المطاطة، وأزرارهم النحاسية، وآلات القتل الصلبة المتدلية بحذاء أفخاذهم.
حاول أن يفتح فمه ليدافع عن نفسه، ليحكي قصته منذ ولدته أمه، لكن سيده كان حاضرا، وفي حضور سيده يصبح الوقت ضيقا ، ولا يكون هناك متسع لأحد، والحكم بطبيعة الحال لا بد أن يصدر أولا، ويوقع عليه بالعلم، وينفذ، ثم يتسع الوقت بعد ذلك لأي شيء آخر.
وصدر الحكم ضد حميدو فوق صفحة كاملة من صفحات دفتر الأحكام، وكان القانون يقضي بأن يقرأ حميدو المحضر قبل أن يوقع عليه بالعلم، ولم تكن الحروف واضحة بسبب رداءة الخط والسرعة في كتابة المحضر، وأصبح من الصعب على حميدو أن يفك الخط ولم يكن حميدو قد تعلم القراءة.
لكنه استطاع أن يلتقط كلمة أو كلمتين من كل سطر، ودهش لقدرة رجال البوليس على تحويله من جندي مجهول إلى بطل، وأن تكون بطولته خارقة للعادة إلى حد أن حركة أصابع قدمه الحافية في وجه سيده أصبحت حركة تمرد، ولم يعد حميدو قادرا على كتمان زهوه، وراح يحرك أصابع قدمه حركة بطيئة مليئة بالكبرياء.
وارتفعت جميع الأكف بالتصفيق، وكان سيده في الصف الأول، فارتفعت كفاه أيضا بالتصفيق (حركة سيده كحركة التاريخ لا يمكن أن تتجاهل الجماهير)، وحينما تحركت ذراعاه إلى أعلى وهو يصفق، سقط فوق الأرض الساندويتش المحشو بلحم الشاة الذي كان يخفيه تحت إبطه، التقطه على الفور طفل كسيح كان يزحف بين الصفوف بأكياس اللب.
وابتسم حميدو رغم أنه لم يدرك شيئا مما يدور حوله، فالمشهد لا إرادي ولا فضل له فيه، وغير متقن أيضا، يفتقر إلى الخبرة، وتنقصه الثقافة الضرورية، والاطلاع على التراث، ولم يكن حميدو قد قرأ كتب التراث، وعلى الأخص قصص الحب العذري، حين كان الحب نظيفا والإنسان شريفا، لم يخلق له بعد أعضاؤه التناسلية.
Shafi da ba'a sani ba