كنت أستطيع دائما أن أميز حميدة من بين الأطفال، فالمريلة من الدمور، ولونها سمني فاتح، عليها بقعة من الخلف كانت حمراء من أيام، حين تسربت نقطة دم من سروالها الصغير إلى المريلة وهي جالسة في الفصل، أمها كانت تنبهها دائما لتحتاط للأمر، وأن تضع الفوطة الدمور بعناية بين فخذيها، فهي لم تعد طفلة صغيرة، وكثيرا ما سمعت أمها تقول: «في مثل سنك تزوجت ولم يكن ثدياي قد ظهرا بعد.»
خجل كالعرق كان يندي جبهتها المستقيمة الصغيرة حين تستدير وترى البقعة فوق المريلة، فتجري على أطراف أصابعها وتخلع المريلة وترتدي الجلباب الطويل، وتجلس إلى الطشت، وتغسل مريلتها الوحيدة، ثم تنشرها على الحبل في الشمس لتجف قبل اليوم التالي.
وذات يوم أصبحت المريلة ضيقة، بصعوبة أدخلت فيها جسمها، وبالذات من الأمام، عند بطنها، واستقرت عينا أمها على بطنها بنظرة غريبة لم ترها من قبل، ومخيفة إلى حد أن رعدة خفيفة سرت في جسدها الصغير، والتفت أصابع أمها الكبيرة حول ذراعها النحيل وصاحت: اخلعي المريلة.
خلعتها وارتدت الجلباب، وجلست في الشمس بجوار الحائط، كانت أمها تناديها لتساعدها في العجين أو الخبز أو الطبخ أو كنس الدار، أو كان أبوها أو خالها أو عمها يرسلها إلى الدكان لتشتري دخانا، أو كانت خالتها أو عمتها تناولها طفلها الرضيع لتحمله عنها حتى تعود من الحقل، أو جارتها كانت تناديها من فوق السطح لتملأ لها الجرة من البحر، أو أخوها أو خالها كان يلقي إليها بجوربه وسرواله القذرين لتغسلهما، وعند الغروب يلتف حولها البنات والصبيان من أولاد الجيران فينزلون إلى الشارع ويلعبون «المساكة» أو «عسكر وحرامية» أو «الثعلب فات فات» أو «حبة ملح»، أو «حميدة ولدت ولد».
أي شيء من ذلك لم يحدث في ذلك اليوم، وتركوها وحدها جالسة في الشمس، ولم تجد بدا من التحديق في قرص الشمس طويلا، وحينما غابت الشمس ظلت جالسة مكانها في الظلام، جسدها الصغير يرتعد، شيء ما تحسه ولا تعرفه، شيء ما رهيب يحدث من حولها، في الظلام، وفي الصمت، وفي العيون، كل العيون، حتى الدجاج الذي كان يلتف حولها، لم يقترب منها، والقط الأسود الكبير الذي كان يتمسح بها أصبح واقفا بعيدا عنها، يرمقها بنظرة وجلة من عينيه الواسعتين، وبانتصابة من أذنيه الطويلتين المدببتين.
سقط رأسها فوق ركبتيها وهي جالسة، وربما غفت لحظة أو عدة ساعات، أفاقت بعدها على أصابع طويلة تمسك ذراعها، انتفضت مذعورة، وكادت تصرخ، لولا أن يد أمها أصبحت فوق فمها، وصوتها الخافت أصبح كالفحيح: تعالي ورائي على أطراف أصابعك.
الليل مظلم بغير القمر، والشفق لم يطلع بعد، وكل شيء في القرية ساكن نائم في تلك اللحظة الساقطة ما بين آخر الليل وأول النهار قبل أذان الفجر، وقدما أمها الحافيتان الكبيرتان تنتقلان فوق الأرض المتربة بسرعة كبيرة، توشك أن تجري، وحميدة خلفها تكاد تلمس طرف ثوبها.
أرادت أن تفتح فمها وتسأل أمها عن السبب، لكن أمها توقفت عند سور صغير يفصل الطريق الزراعي عن قضبان القطار، وراء هذا السور كانت تختفي حميدة حين يلعبون المساكة، ناولتها أمها طرحة سوداء.
وضعت حميدة الطرحة على رأسها فانسدلت فوق عنقها وكتفيها وصدرها وبطنها وظهرها وأصبحت تشبه نساء القرية، فتحت فمها لتسأل، لكن صفارة القطار جعلت جسد أمها يرتعد رعدة عنيفة هزت الأرض من تحتها، وبعنف أيضا اندفعت قبضتها الكبيرة في ظهر حميدة، وقذفت بها ناحية القطار، وصوتها الهامس المنخفض كالفحيح: القطار لا ينتظر أحدا، اهربي!
اندفعت حميدة نحو القطار، لكنها استدارت لحظة قبل أن تركب، ورأت أمها واقفة في مكانها، متسمرة في الأرض، ثابتة لا تتحرك، والطرحة السوداء فوق رأسها وكتفيها وصدرها ثابتة أيضا، فلم يكن صدرها في تلك اللحظة يتحرك، ولا شيء فيها يتحرك، ورموشها ثابتة متجمدة، كتمثال حقيقي منحوت من الحجر.
Shafi da ba'a sani ba