صرخة ردد أصداءها الكهف، ثم رددتها الغيران والجبال المجاورة، وذعرنا نحن فلصقنا بالشقوق والزوايا، وراح الجني الجبار يخبط في ظلام العمى بعد أن انتزع الجذع المشتعل من عينه، وهرول كالجبل نحو الباب فوقف عنده، وطفق يولول ويهتف ويصيح ويدعو جميع إخوانه السيكلوبس كلا باسمه، فاجتمعوا إليه من كل فج عميق، وقال قائلهم: «ماذا دهاك يا بوليفيم حتى تروعنا هكذا في ظلام الليل، وحتى تقض مضاجعنا بصراخك الفظيع؟ هل خفت أن يستاق أحد قطعانك؟ أم خشيت أن يقتلك أحد بقوة أو غدر؟» وقال بوليفيم وهو يتصدع: «آه أصدقائي، إني أموت ولقد قتلني أوتيس.» فقال قائلهم: «إن كان أوتيس - الذي هو لا أحد - قد ألحق بك أذى فما صنع بك هذا إلا جوف؟ تجلد يا صاح، وادع أبانا نبتيون ليساعدك؛ يأتك من أعماق اليم.» ثم تركوه وانصرفوا لشأنهم، وضحكت أنا في سريرتي؛ لأني استطعت أن أعمي عليهم بهذا الاسم الملفق المفترى، وما برح بوليفيم يبكي ويعول ويهزه الألم والأسى، حتى زحزح الحجر الذي يسد الباب وجلس عنده مادا ذراعيه ليمنع أحدا منا أن يفلت، أو أن يذهب بعض أنعامه. إنه يحسبنا بلهاء مثله، وجلسنا نعمل الفكرة ونرسم الخطط تلو الخطط لنجاتنا. حتى تاحت لي فكرة حسنة أيقنت أنها تفلتنا من هذا السجن السحيق إن كان شيء مستطيعا أن يطلق سراحنا منه، لقد فكرت وفكرت، فبدا لي أن لدى السيكلوب كباشا كنازا تستطيع أن تحملنا إذا ربط كل منا تحت بطن واحد منها.
لقد كانت الكباش سمينة حقا ذات فراء كثة وقوة كبيرة، فقمت من فوري فجدلت من أغصان الصفصاف التي كان السيكلوب الشنيع ينام فوقها، وجعلت من كل ثلاثة حبلا واحدا، ثم ربطت كل رجل تحت بطن كبش كبير قوي جعلته بين كبشين لا يحملان أحدا، بل يكونان وقاية للكبش الذي يحمل رجلا بينهما. أما أنا فتعلقت بصوف الكبش الأخير وبقيت ساكنا صامتا، ومكثنا هكذا ننتظر الفجر المقدس الرهيب بعيون واكفة وقلوب واجفة ... حتى بزغت أورورا فهرولت الذكران كعادتها للمرعى، وبقيت الإناث لكي تحلب، وتهادت الكباش بالأثقال المعلقة تحتها وهي تكاد تنوء بها، وكان السيكلوب لا يزال يعول ويشكو بثه إلى غير سميع، وكان يلمس بيديه ظهور الكباش وهو لا يدري ما تحتها، حتى إذا برز كبشي زلزلت، وسمعته يقول له وهو يتحسسه: «يا كبشي الحبيب، ما لك استأنيت هكذا وكنت دائما سباقا إلى المرعى وعلى رأس القطيع تقضم الكلأ الحلو، سباقا إلى الغدير ذي الخرير تنهل من مائه السلسبيل ، بل كنت سباقا إلى مأواك هنا، في كل مساء؟ ويحك! ويحك يا كبشي الحبيب، لقد أسيت لي وحزنت من أجلي، وشعرت بما دهى صاحبك من التعس الرجيم أوتيس وأتباعه اللؤماء المفلوكين؛ أوتيس الذي سحرني بخمره، ويل له! إنه لن يفلت من الموت اليوم، آه لو كان قلبك مثل قلبي، وآه لو كان لي بصرك الحديد فيدلني أين اختبأ أوتيس التعس؟ إذن كنت أحطم رأسه فوق هذا الصخر، أوتيس الوغد! الذي اسمه لا أحد؛ فهو لا يساوي شيئا.»
ثم أفلته المغفل فانطلق الكبش في أثر رفاقه، حتى إذا كنا بعيدين من الكهف ومن صاحبه قفزت من مكمني، وعدوت فأطلقت سراح رفاقي، وسقنا نخبة من أحسن النعاج إلى حيث سفينتنا المختبئة في الجون الهادئ، في ظلال الحور والسنديان، وأبحرنا من فورنا، فوصلنا إلى إخواننا في الجزيرة الأخرى، الذين هنئونا بقدر ما ذرفوا الدموع على ضحايا بوليفيم، واعتزمنا الإبحار فاستعد كل في سفينته، وأقلعنا لا نلوي على شيء، حتى إذا كنا على مبلغ الصوت من الشاطئ نهضت وجعلت أهتف بالسكلوب بوليفيم هكذا: «بوليفيم، لقد بؤت بما صنعت يداك وكان جزاؤك وفاقا، أيها النذل الخسيس! لقد حسبت أنك تغتال رجال قائد لا سلطان له عليك، ولا قدرة على الانتقام منك، فرحت تغتذي كالوحش بلحم ضيوفك الذين لجئوا إليك وتفيئوا ظلك، فاهنأ الآن أيها الهولة بما حل بك!» وما كدت أصمت حتى ثار ثائره وغلت مراجله، وانتزع صخرا كبيرا من شعاف الجبل وقذف به في قوة وعنفوان ناحية الصوت، فهوى الصخر على مقربة منا، وكاد يهشم سكان السفينة، وقد انفرج البحر وانشطرت أمواجه، وارتدت السفينة نحو الشاطئ حتى لكادت أن تغوص في رماله وتتحطم على أواذيه، لولا أمسكت بالسارية الكبرى وجعلت أدفع، حتى عادت السفينة إلى مكانها في البحر ... وابتعدنا قليلا، وجاهد رجالي بمجاديفهم حتى كنا على مسافة هي ضعف المسافة الأولى، وهنا حاولت أن أصيح بالسيكلوب مرة أخرى، غير أن إخواني حالوا بيني وبين ذلك، وسمعت بعضهم يقول: «ويك أوديسيوس! لم تهيج الجني بكلماتك ، وقد كاد الحجر الذي قذفه إلينا يودي بنا جميعا ويحطم سفينتنا على الشاطئ؟! أما نحمد الآلهة التي أنقذتنا من ساعديه الجبارتين؟ وهو لو سمع ركزا من أحدنا لهشمنا جميعا قبل أن نغادر غارة؟» على أنني ما أصخت لهم، بل هتفت بالمارد الجبار أقول: «أيها السيكلوب الطاغي، إذا سألك أحد عمن عماك فقل له: أعماني أوديسيوس بن ليرتيس الإيثاكي!» وتأوه المارد حتى كاد يتصدع وقال: «ويلي منك! فقد صدقت النبوءة وتحقق ما قال تلموس يوريميد النبي الذي شب بيننا، وطالما تحدث إلينا معشر السيكلوبس عما خبأ القضاء في صحف الغيب لنا، لقد قال لي: إني سأفقد بصري على يد رجل من البشر يدعى أوديسيوس، فظللت أنتظره وكنت أحسبه مخلوقا طويلا عظيم الجسم بادي القوة، فإذا هو أنت أيها القزم «اللا شيء» الذي قهرتني أولا بالخمر ثم أذهبت بصري وأطفأت النور من عيني! أوه، ولكن عد إلي يا أوديسيوس وحل علي ضيفا من جديد أكرم مثواك، وأصل من أجلك لأبي نبتيون، الفخور بي، أن يمهد لك البحر، ويطامن من تحتك الموج حتى تصل إلى بلادك سالما؛ إنه وحده هو اللطيف بي، وليست قوة في الوجود غيره تستطيع أن تشفيني وترد علي بصري.» فقلت له: «بنفسي لو استطعت فقذفت بك من حالق إلى قرار جهنم فلا يقدر أحد على رد بصرك إليك، حتى ولا أبوك هذا.» وغيظ السيكلوب وحنق، ورفع كفيه إلى السماء يصلي لأبيه هكذا: «أبتاه المحيط بالأرض، اسمع دعائي، يا صاحب الشعر اللازوردي، إذا كنت حقا أبي، وإذا كنت حقا تفخر ببنوتي، فاحرم هذا القزم المدعو أوديسيوس بن ليرتيس الإيثاكي من العود إلى بلاده، إلا أن يكون هذا في الأزل فأقم العقاب في طريقه، وشرده طويلا في البحر وأغرق سفائنه، واقبر في الأعماق أصحابه، وأحوجه إلى ذل السؤال وطلب المعونة الناس ليمدوه بمركب يعود عليه، وإذا عاد فليلق الهم والغم مقيمين ببابه؛ آمين آمين.» ولبى نبتيون ورفع السيكلوب حجرا أضخم من الأول، وجعل يهوم به بكلتا يديه، ثم قذفه هائلة فذهب يرنق فوقنا، وسقط وراءنا بمقربة من السكان، فانشطر البحر فرقين كالطود العظيم، ثم انحسر الماء فجرت السفينة إلى الشاطئ مرة أخرى، ولكنها هذه المرة أرست على الشاطئ الآخر الذي أرست عنده سفائننا الأخرى، حيث أقام إخواننا يشهدون المعركة الهائلة ويجزعون، ثم إننا نزلنا إلى البر، وفرقنا الأنصبات من نعاج السيكلوب بيننا، وكان من نصيبي ذلك الكبش المفدى الذي نجاني، فذبحته على رمال الشاطئ قربانا لجوف المتعالي، وا أسفاه! إن أكبر ظني أنه لم يقبل قرباني؛ لأن أكثر سفائننا أغرقت فيما بعد، وأكلنا هنيئا وشربنا الخمر المعتقة، وانتظرنا مد البحر، ولكنه استأنى علينا فنمنا حتى نضرت أورورا جبين الشرق بالورد، ونهضنا، ونشرنا الشراع وأصلحنا القلاع، وأبحرنا بقلوب واجفة ونفوس نال منها الهلع لائذين بالفرار.
أبوللو ومارس.
أوديسيوس يروي قصته
(أ)
أيولوس وجعبة الرياح الأربع. (ب)
في جزيرة الجبابرة. (ج)
غرام سيرس.
وبلغنا جزيرة الأيوليين حيث يحكم الملك إيولوس بن هبوتاس حبيب الآلهة، وهي جزيرة تلوح طافية فوق العباب بسورها النحاسي الهائل، وأواذيها التي يتكسر فوقها الموج، ولقد زوج الملك أبناءه الستة من بناته الست، وهو يقيم معهم في قصره المنيف في فيء وارف من حب الملكة في بلهنية ورغد، وعيش واسع مخفرج، ونعمى طائلة ولذائذ شتى ... يقضون وقتهم في لهو بريء ومرح، ويأوون إذا أجنهم الليل إلى سرر موضونة وزرابي مبثوثة، وأرائك من حرير.
Shafi da ba'a sani ba