2
وما كادوا يفرغون من أكلهم حتى رقصت عرائس الفنون في فم المنشد المطرب، فأرسل غناء سحر ألباب الناس، ورقى بها إلى أثير الآلهة في قبة السماء! لقد تغنى هذه الأغنية التي تنظم النزاع الذي شجر بين أخيل بن بليوس وبين أوديسيوس بن ليرتيس أثناء الوليمة الإلهية، والذي جاءت به نبوءة أبوللو (في دلفوس) حينما استوحاه أجاممنون عن يوم سقوط طروادة في أيدي اليونانيين.
وسكت المغني ودفن أوديسيوس وجهه الساهم في ذيل ثوبه الأرجواني الفضفاض خشية أن يلحظه أحد، وطفق يبكي، ويستخرط في البكاء، ثم كشف عن جبينه وسقى الثرى كأسا من خمر صلاة للآلهة، ثم عاد إلى بكائه حينما واصل المطرب غناءه، وكان يرسل عبراته في كسائه غير ملحوظ من أحد إلا من ألكينوس الذي عز عليه ما رأى وما سمع من عبرات ضيفه ومن تنهداته، فقال: «حسبنا يا سادة ما طعمنا وما سمعنا! هلموا جميعا نشهد الضيف الكريم بعض ألعابنا ليذكر في العالمين أن الفياشيين خير من يجري ومن يثب، أمهر الناس في اللكم والمصارعة.»
ونهض الملك ونهض في إثره كل أضيافه، وتقدم المنادي فقاد دمودوكوس وقصد الجميع إلى ساحة السوق الكبرى، حيث احتشدت مواكب الشجعان والشباب اليانع من ذوي القوة والفتوة والبأس الشديد، أتوا من كل حدب لهذا الحفل المشهود، وفي وسط الحلبة وقف الأبطال آكرون وأوكيال وألاتريوس ونوت وبرمنيوس، ثم وقف خلفهم الأبطال الخيال وأنابيسين وأرتميوس وبونت وبرور وأمفيال وتون، ثم نهض حليف مارس المهوب يوريالوس، ثم فخر شباب الفياشيين نوبوليد، وقف كل هؤلاء، ثم هب أبناء الملك الثلاثة؛ لوداماس ولده البكر ثم هاليوس ثم كليتون الأصغر، وشارك نفر من أولاء في سباق الجري، فأخذوا أهبتهم ثم انطلقوا يثيرون التراب في أثر كلبتون ابن الملك، الذي سبقهم جميعا وتركهم يتعثرون وراءه كما تتعثر الثيران في أثر البغال، وتلقاهم النظارة بالهتاف العالي والتصفيق الشديد، ثم كانت المصارعة التي برز فيها يوريالوس على كل أقرانه، كما برز أمفيال في الوثب الطويل، وألاتريوس في قذف القرص. أما في الملاكمة فقد تفوق لوداماس النبيل ابن ملك شيريا، وكان فوزه مسك ختام المباريات، ثم نهض لوداماس فقال: «والآن أيها الأصدقاء نسأل ضيفنا الكريم إذا كان يحذق شيئا يفخر به من هذه الألعاب، إنه لا يزال غريض الشباب بادي الفتوة مكتنز العضلات، عظيم منة الساقين والفخذين مفتول الساعدين، وإن له لعنقا أي عنق! كل ذلك بالرغم من بدوات الضنى وأمارات العناء ، وما حطم البحر من جسمه الخصب، وهل أهلك لجسوم الرجال من أجيال العباب؟»
وكأنما راقت هذه الكلمات البطل يوريالوس فطلب إلى لوداماس أن يدعو الضيف إلى النزال، فنهض لوداماس ثانية وقال: «هلم أيها الضيف فأرنا هل تجيد من هذه الألعاب شيئا؟ إنه ما استحق أن يعيش من لم يعمل بيديه ويسع بساقيه. هلم، حاول إذن فيم احترازك هكذا؟ إنا لن نؤخرك قط؛ فالسفينة معدة، والملاحون على أهبة.»
وقال أوديسيوس يجيبه: «أتتخذني هزوا حين تدعوني للعب يا لوداماس؟ أي لهو وأي لعب وأنا نضو أسقام وطريح آلام؟ لا أمل له إلا أن يعود إلى بلاده، وفي ذلك ما يضرع للملك وللناس.»
وهب يوريالوس يصد
3
ويقول: «كلا أيها الصديق، إني عذيرك؛ فسيماك لا تنبئ عن رجل رياضي، بل أكبر الظن من رجال الأعمال أو حفظة المخازن، أو - إن لم يخب حدسي - من أدلاء السفن في الثغور، ومن يدري؟ فقد تكون عيارا أو قرصانا.»
وعبس أوديسيوس وبسر، وانتشرت فوق جبينه ظلمات من الهم، وتهدج صوته فقال: «إنك لم تحسن كيف تتكلم أيها السيد، وإنك لم تبال أن تطلق في لسانك بهجر القول كأنني رجل لا اعتبار لي. على أن الآلهة - جلت وعلت - لم يتفق أن منحت أحدا من العالمين كل آلائها في وقت معا؛ بساطة الجسم، ورجاحة العقل، وقوة البيان؛ فقد يلوح لك هذا الرجل مهدما محطما في حين قد وهبه جوف بيانا متينا ولسانا مبينا حتى ليخلب ألباب سامعيه، وحتى ليرتفع في نفوس إلى مصاف الآلهة، وقد تنظر إلى ذاك الرجل كأنما تتدفق في عضلاته قوى السماء وهو لا يحسن أن يقول كلمة، مثلك، مثلك تماما؛ فلقد أوتيت بسطة في الجسم، حتى لتوشك في ذلك أن تكون مثالا تقيس عليه الآلهة إذا أردت أن تخلق ماردا جبارا، ولكنك وا أسفاه! لم تؤت بيانا ولا حكمة، فلقد أثرت ثائري بكلماتك الغلاظ العجاف، إني أيها السيد - كما ذكرت - لا أحسن من هذه الألعاب قليلا ولا كثيرا، ولكني كنت فتاها وفارس حلبتها أيام كنت شابا يافعا غض الإهاب ريان الشباب ... أما أنا الآن فوا أسفاه! إن حدثان الزمان لم يبق مني ولا علي، لقد ذبل شبابي في نقع الحروب وسوح الوغى، وفي هذا البحر اللجي يغشاه موج من خلفه موج كالجبال! بيد أنني، على الرغم مما ينقض ظهري من ويلات، سأثبت في سجل شجاعتكم قوتي، فإن لما هرفت به من قول السوء لأنيابا تعضني وتنهشني، أو أدل على قوتي وجبروتي.»
Shafi da ba'a sani ba