وهكذا توالت اعتداءات فرنسا على الإسلام في بلاد المسلمين، وهدمت النظم القائمة على أساس الشريعة الإسلامية الغراء، بغير مبالاة بما تحميه من مصالح عامة وما تصرف عليه من بيوت الله ودور العلم، وعادت إدارة الأوقاف من الفقر بحيث أصبحت عاجزة عن القيام بشئون المؤسسات العلمية والخيرية، فتهدمت المدارس والمساجد، وأصبح الكثير منها في حالة يرثى لها.
وبعد أن تم لها الأمر واستولت على كل أراضي الأوقاف الصالحة للزراعة، أصدرت بتاريخ 20 يناير سنة 1942 أمرا بإلغاء تشريع سنة 1798، وظنت أنها بذلك تخلصت من آثار الجريمة التي ارتكبتها بالاعتداء على عقيدة البلاد وشريعتها، وسلب أموال المسلمين، والقضاء على دور العلم والمساجد والمستشفيات.
والنتيجة لهذا العمل الذي وقفت عليه إدارة الحماية جهودها منذ أكثر من ستين سنة، هو أن أصبحت جميع الأراضي التابعة لأملاك الدولة، وما ألحق بها من أراضي الغابات، والأراضي الكلية، وأراضي الأوقاف، تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» التي أسست سنة 1898 لتنظيم توزيع الأراضي على «المعمرين» الفرنسيين.
ويقع التوزيع بطريق البيع الصوري بثمن زهيد يدفع أقساطا لمدة عشر سنوات، ولتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي صدر أمر بتاريخ 1 ديسمبر سنة 1892 أعقبه أمر ثان بتاريخ 25 سبتمبر سنة 1900، يتضمن تأسيس «صندوق الاستعمار»، وقد قدمت السلطة الفرنسية لهذا الصندوق من ميزانية تونس مليون فرنك ونصفا عند تأسيسه، ثم قدمت له سنة 1904 ثمان مائة ألف فرنك، وفي سنة 1905 سبعمائة ألف فرنك، وفي سنة 1907 خمسة ملايين اعتمدتها من قرض عقدته الدولة التونسية من فرنسا، وهكذا دأبت السلطة الفرنسية كل سنة على تخصيص اعتماد كبير لصندوق الاستعمار من الميزانية التونسية نفسها، وصارت تضيف إلى هذا الصندوق المال المتحصل من بيع أملاك الدولة للمعمرين، وتستعمل كل هذه الأموال لشراء أراض أخرى توزع على المعمرين وهكذا.
ولم تكتف السلطة الفرنسية بتأسيس هذا الصندوق لتسهيل اقتناء المعمرين للأراضي، بل وضعت تحت تصرفهم أموالا طائلة لاستثمارها، وأسست لهم خاصة بنوكا عديدة للاقتراض منها بدون «فوائد»، إلى غير ذلك من أنواع المساعدات التي تقدمها لهم تشجيعا على استقرارهم بتونس، حتى يصبحوا هم الأغلبية الساحقة في يوم من الأيام. (9) نتائج ومقارنات
وفي أول عهد الحماية ترك امتلاك الأراضي التونسية لمساعي الفرنسيين الفردية، ثم شرعت الإدارة الفرنسية في تنظيم الخطط وتقرير البرامج الواسعة لإقرار الفرنسيين بالأراضي التونسية، فكانت تضع تحت تصرف «إدارة الفلاحة والاستعمار» ما تنتزعه من الأراضي الزراعية من أيدي العرب لتوزعها على الفرنسيين مقابل أثمان صورية مقسطة على آجال، فمن سنة 1900 إلى 1914 سلمت هذه الإدارة من أراضي الشمال مساحات شاسعة بلغت 125 ألف هكتار، بينما منحتهم في منطقتي الوسط والجنوب مساحات قدرها 132 ألف هكتار، وقد ورد في الإحصاءات الرسمية أن مجموع الأراضي التي استولى عليها الفرنسيون حتى سنة 1914 يبلغ 757 ألف هكتار، من أخصب الأراضي التونسية.
وبعد الحرب العالمية الأولى وسعت فرنسا نطاق ما تمنحه من امتيازات لإقرار ألف عائلة فرنسية بالأراضي التونسية، فمن سنة 1919 إلى سنة 1938 وزعت 1191 قطعة أرض بمنطقة الشمال بلغ مجموع مساحتها 143560 هكتار و75 قطعة بالمناطق الوسطى والجنوبية بلغت مساحتها 53605 هكتار.
واستمرت هذه السياسة الرامية إلى إجلاء العنصر التونسي من الأراضي الخصبة وإقصائه إلى الأراضي القاحلة حتى يومنا هذا.
ومما يجدر ذكره أن عدد السكان الذين يعيشون من الزراعة يقدر بمليون وثمانمائة ألف نسمة، منهم 400 ألف يتصرفون في الأراضي المزروعة حبوبا و450 ألفا يتصرفون في الأراضي المغروسة بالأشجار، والبقية - وهم مليون نسمة - يمثلون طبقة العمال والفلاحين. وتحتل الأراضي الصالحة لزراعة الحبوب - وهي الأصل في الزراعة التونسية - مساحات قدرها 2934000 هكتار؛ أي 22,6٪ من مجموع الأراضي الصالحة للزراعة، وليس في أيدي التونسيين منها سوى مليون هكتار، والبقية بأيدي المعمرين الفرنسيين والأوروبيين، وعددهم خمسة آلاف نسمة.
وكان من نتائج هذه السياسة التي جعلت الفرنسيين يستولون على قسط كبير من الأراضي الخصبة، وجزء وافر من الإنتاج الزراعي، أن عم الفقر بين طبقات الفلاحين، وكثرت فيهم البطالة، وانخفض مستوى معيشتهم وأصبحت تغذيتهم ناقصة، وصاروا مهددين بالمجاعات التي تنتشر بينهم انتشارا سريعا بمجرد ما تحل أزمة من الأزمات.
Shafi da ba'a sani ba