163

Tunis Mai Tawaye

تونس الثائرة

Nau'ikan

واعترف المقيم العام أيضا بأنه هو الذي كتب بنفسه الخطاب الذي أذاعه فيما بعد باسم جلالة الملك الرامي إلى تهدئة الخواطر، فقال: «لقد قرر الباي أن يوجه نداء للهدوء، ولقد سلمت له مشروع نص لينظر فيه حسب رأيه، وإني أؤمل كثيرا أن يكون لذلك النداء تأثير على الشعب.»

وظن «دي هوتكلوك» أنه انتصر النصر النهائي، وظهر باطنه وافتضح طبعه فأقام الحفلات والمآدب بقصر الإقامة العامة ببلدة المرسى، وأخذ ينشر في الصحف قوائم الطعام الذي قدمه لضيوفه وصنوف الجبن التي يميل إليها وأنواع الخمور التي سكر بها،

5

وكأنه انتشى بدماء الأطفال الرضع المقتولين دوسا بأقدام الجنود بجهة الدخلة، واستعذب صراخ الأيتام والأيامى بعد قتل الآباء والأزواج، وطرب لنسف المساكن والمساجد، وحرق البيوت على أهلها، وأخذته العزة بالإثم فأخذ يتذوق مع الطعام اللذيذ اللطيف ولحوم الضأن الطرية والحلوى الشهية عذاب عائلات وآلام شعب وأنات الأمهات ورعب العذارى وخوف الأولاد الصغار، فكان أصدق ممثل للاستعمار الفرنسي الذي لا تتم له لذة ولا يتطعم أكلا إلا إذا كان ملطخا بدماء الشهداء.

لقد ضل «دي هوتكلوك» وأضل حكومته وسعى في تضليل الرأي العام، مدعيا أن الأزمة التونسية انتهت، وأن المشكلة حلت - ولو بالقوة - وأن الهدوء ساد البلاد. والحقيقة أن الشعب ازداد اندفاعا في الكفاح واستماتة في الدفاع عن حقه، واستمر الإضراب من غير انقطاع في جميع أنحاء القطر، رغم استخدام القوات المسلحة لجبر التجار على فتح محالهم وإرغام العمال على العمل، ونزل الجند الفرنسي إلى الشوارع يطارد التونسيين، ويلقي القبض على المارة بالجملة. وخرج الشعب في مظاهرات متعددة متكررة مستمرة غير مبال بالسجن والموت، فقد كانت المظاهرات الصاخبة تملأ ميادين تونس وشوارعها منذ الصباح الباكر يوم 28 مارس، وكانت مظاهرة قد انتظمت أمام قصر جلالة الملك بحمام الأنف وتعالت منها الهتافات بحياة تونس حرة مستقلة، وحياة الحبيب بورقيبة، فهاجمتها قوات الجند والبوليس وألقت القبض على بعض أفرادها، وتجددت بعد الزوال المظاهرات بنفس الموضع احتجاجا على تكليف البكوش بتشكيل الوزارة، وكثر فيها النسوة اللائي أخذن يندبن ويصحن وهن لابسات الحداد.

واتسع نطاق الاضطرابات، وكثر النسف وانتشر بجميع المدن الكبرى؛ فقد نسفت في ذلك اليوم نفسه المراقبة المدنية بمدينة «سوسة» وحدث بها انفجاران عظيمان زلزلا المدينة كلها، وأحدثا أضرارا جسيمة في الجانب الشمالي من البناية، ثم التحمت القوات الوطنية مع قوات الأمن في معركة دامية على شاطئ البحر جرح فيها البطل «إبراهيم بن صميدة».

وأدلى دولة السيد محمد شنيق في منفاه ببلدة قبلي بقلب الصحاري بتصريح إلى مراسل الجريدة الأمريكية «نيويورك هيرالد تريبون» قال فيه: «إنني ما زلت الوزير الأول، ووزارتي هي وزارة تونس الشرعية.» وأضاف قائلا: «إن عزله بالقوة والعنف يخالف القانون، وفيه خرق بين لمعاهدة الحماية، فينبغي أن ترسل الأمم المتحدة لجنة للبحث عن الحوادث التي جرت بتونس، ويطلب الوزير الأول من الولايات المتحدة الأمريكية أن تتدخل بصفة فعالة.» (5) مجلس الأمن والأزمة التونسية

كان الشعب التونسي في تلك الأثناء ينتظر إثارة قضيته في مجلس الأمن عندما تنتقل رئاسته إلى الباكستان في شهر أبريل، وكان المقيم العام يحاول أن يتم تشكيل الوزارة التونسية قبل ذلك التاريخ، وأن يشرع في مفاوضات جديدة كاذبة لكي لا يبقى مبرر للهيئة الدولية في التدخل، وظن أنه نجح ولم يعلم أنه وقع، فأعلن إثر مقابلة الملك يوم 28 مارس في بلاغ رسمي أن الاتفاق قد تم مع جلالة الملك على الإصلاحات التي قدمها له، وأنه سيذيع فحواها على الرأي العام بعد أيام، وأن اللجنة المختلطة التونسية الفرنسية التي ستنظر في تلك الإصلاحات وتنتهي من أعمالها في أقرب وقت ممكن، قد تقررت.

ومن الغد ظهر «بونص» الكاتب العام للحكومة التونسية على مسرح السياسة التونسية ليلعب دوره في المهزلة الاستعمارية، وقد امتاز بعداوته وبغضه وحقده للتونسيين، كما امتاز بقصر النظر والتلاعب المكشوف واستخدام أرذل الوسائل في محاربة الحركة الوطنية، حتى قال فيه الكاتب الفرنسي «جيران»: «إن له ما له في تكوين عصابة اليد الحمراء الإجرامية وقتل الزعيم فرحات حشاد.» فصرح يوم 29 مارس أن الوزارة الجديدة ستشكل بسهولة تامة وأن التونسيين يتزاحمون على مناصبها، ولما عرض البكوش على عدد وافر من التونسيين تلك المناصب رفضوا جميعا، وبقي وحده يحاول ويفشل، وهو مطارد من الوطنيين حتى صار لا يدخل إلى قصر الملك أو إلى الإقامة العامة إلا من الأبواب الخلفية كالسارق الخائف والمجرم الجبان، فحاول إذ ذاك أن يحتمي بالحزب الحر الدستوري بإدخال الزعيم الهادي نويرة - وهو العضو الوحيد من الديوان السياسي الذي بقي خارج السجن - في تشكيلته. وتكرر العرض ثلاث مرات، وأخيرا دعا البكوش الزعيم نويرة يوم الأحد 30 مارس على الساعة الرابعة بعد الظهر، فاستطاع الزعيم نويرة أن يحمل البكوش على الاستقالة، وقد تمت المقابلة واتفق فيها على نشر البلاغ الآتي:

نظرا للصعوبات التي وجدتها في تشكيل الوزارة أرى من واجبي أن أقدم لجلالة الملك استقالتي من المنصب الذي كلفت به.

Shafi da ba'a sani ba