على هذا النهج سار المؤلف في كتابة رسالته "التحفة "، وسلك فيها مسلكًا بعيدًا عن التنظير الفقهي والنصح المباشر والتسلية المفيدة كما كان شأن من سبقه؛ وتوسل إلى هدفه بعدة طرق أهمها: أولًا: الإقرار بشرعية الحكام غير العرب، بإبراز عدم صحة اشتراط القرشية في الإمامة العظمى، اختيارًا واستدامة، وممارسة لشؤون الحكم؛ومحاولة الإقناع بأن المذهب الحنفي الذي لا يشترط بعض فقهائه ذلك أصلح في هذا المجال. وممارسة الضغط بإبراز رأي المذاهب الأخرى المشترطة للقرشية، والتي تعتبر سلاطين الترك ذوي شوكة مغتصبين للسلطة بدون استحقاق، مبّينا أن الالتزام بالمذهب الحنفي والخضوع لأحكامه تثبيت للسلطة، وتوفير مهابة واحترام من قبل العامة للقائمين عليها، وترس ديني في مواجهة المعترضين والمحتجين والمخالفين والمتمردين. ثانيًا: إبراز المكاسب المادية والمعنوية التي يحققها السلطان بالتزامه المذهب الحنفي، في الميادين العملية، سياسة واقتصادًا واجتماعًا وحربًا وسلمًا، وهذه الغاية جعلت المؤلف يتصرف في النصوص والاجتهادات الفقهية المذهبية بعقلية انتقائية، ترجح المذهب الحنفي على غيره؛ متغافلًا عن حقيقة هو أكبر من أن تخفى عليه، هي أن لكل مذهب مطعنًا، ولكل مذهب مآخذ على غيره، وأن للمجتهد أجرين إِن أصاب، وأجرًا واحدًا إن أَخطأ. وقد ساعد المؤلف على أَسلوبه الانتقائي هذا سعة فقهه وتبحره في علم الخلاف، واطلاعه على دقائق المذاهب كلها. ثالثًا: تلقينه الحكام من خلال عرض المكاسب الموعودة، كثيرًا من القواعد العملية المنضبطة بأحكام المذهب الحنفي، في ميدان سياسة الحكم العادلة بما يقيد تصرفاتهم - إن هم امتثلوا - ويجعلها تحت رقابة الشرع وضابطيته، ويوفر للرعية مستوىً معقولًا من الحفظ لأنفسها وكرامتها وحقوقها. هذه الحقائق تبدو واضحة لمن يدرس "التحفة " بتأن وروية، وخلفية سياسية بعيدة الغور، بالرغم مما يحجبها من ملامح تعصب مذهبي فرضته طبيعة العصر والمرحلة، ولوازم الخطة التي تبناها المؤلف لإصلاح أولي الأَمر واستدراجهم إلى الكمين الفقهي الذي نصبه لهم. وهذا أقصى ما كان يطيقه فقيه أَعزل، يغار على أمته ودينه، في عصر تؤدي فيه الشبهة، وأحيانا المزاجية، إلى مختلف ضروب التعذيب الهمجي والقتل الوحشي. رابعًا: حرص على أن تكون "التحفة " بأسلوب يليق بكرامة العلماء، مترفعة عن التزلف والتملق والتذلل، فلم يقدمها قربة لسلطان، ولم يكتبها " بأمر من تجب طاعته " كما هو عرف لدى كثير من كتاب الأَحكام السلطانية. وإنما كتبها قيامًا بواجب النصح كما قال في المقدمة: (ورأيت من الواجب في هذا الزمان بذل النصيحة بقدر الإمكان)؛ وأشار في نفس المقدمة إلى أن بقاء الملك مرتبط باتباع الشرع والخضوع لأحكامه: (ولم أقصد بذلك سوى القيام بهذا الواجب، وحفظ نظام الملك لمن هو في اتباع الشرع راغب) . وقد قام بهذا الواجب لهدفين ذكرهما في المقدمة أيضًا، أولهما: (رجاء أن تلحق ملوكنا بالخلفاء الراشدين والأئمة المهديين، أو بما هو أعلى وأغلى من الأَمويين، اتباع سيرة عمر بن عبد العزيز ذي العز والتمكين) . وثانيهما: خشية أن ينسى طريق العدل في موضوع الحكم: (وقد يخشى أن ينسى هذا الطريق بعدم من يعظ الناس ممن أعطي خطاب التوفيق) . وكان أسلوبه في رسالته هذه كلها مستعليًا على الحكام، يخاطبهم من فوق رؤوسهم، ويشعرهم في كل آنٍ بأن مرتبة العلم ومكانة العلماء لا يدانيها عز الملوك والسلاطين. ولقد تحقق ما كان يرمي إليه المؤلف بعد وفاته بقليل؛ فقامت أول خلافة إِسلامية غير عربية، هي مملكة آل عثمان التركية (٧١) التي التزمت المذهب الحنفي. فهل تحقق ما كان يصبو إِليه من وراء ذلك. .؟ إن هذا موضوع آخر يحتاج إلى دراسة خاصة عميقة ومستقلة، وفي غير هذا السياق.
أهم القضايا التي تثيرها التحفة
كتب الطرسوسي تحفته، وهو في ريعان الشباب، قبل أن يعتبط بخمس سنوات، مليئًا بالحيوية والميل الفطري إلى الحق والعدل، متأثرًا بالبيئة العلمية التي احتضنته وربته ووجهته، كاشفا من خلالها واقع ذوي الجاه والسلطة من جهة، وما تعانيه الأمة من ظلم وعسف وتسلط وفساد من جهة أخرى؛ فكان ما كتب لحنًا نشازًا بين سلوكيات عصره، وكانت توجيهاته الفقهية والسياسية والإدارية والعسكرية التي تضمنتها التحفة احتجاجًا ضد تعفن الأجهزة الحاكمة، وتحللها من ضوابط العقل والدين. إلا أنه احتجاج لم يرقَ إلى مستوى التمرد والثورة أو الدعوة إليها، لأسباب عدة، منها ما هو راجع إلى طبيعة الثقافة الفقهية السائدة التي غذي بها مبكرًا، ومنها ما هو راجع إلى يقينه بأن موجة الفساد أكبر منه، وأن الجهود الفردية لا تجدي.ومنها ما هو راجع إلى اتعاظه بما عاناه بعض علماء عصره عامة، وعلماء أسرته خاصة. لذلك يلحظ المرء في كتابته نوعًا من الازدواجية، فهو عندما يتحدث عن وجوب طاعة الحكام وعدم اشتراط القرشية والعدالة والاجتهاد فيهم، يصرح بأن عصره خالٍ تمامًا من الحاكم العادل الكفء التقي، ويشعر قارئه بأن عبارات مجاملته للحكام لا تكاد تتجاوز تراقيه؛ وعندما يتحدث عن الظلم والفساد فإنما برنة تزخر بالصدق والاستنكار والتوجيه المباشر إلى التغيير والإصلاح. ولقد أثار في تحفته قضايا كثيرة، عقدية وسياسية، واجتماعية واقتصادية وعسكرية؛ درس كل ذلك ووجه إلى ما ينبغي أن يكون عليه السلوك القويم المبني على قواعد الإسلام. وسواءٌ وافقنا على اجتهاداته وآرائه أم لم نوافق، فلا بد أن نسجل أنه في كل ما كتب كان صادقًا مخلصًا، محاولًا شق طريق إلى الإصلاح، بمختلف ضروب الاستنباط الفقهي والحيل الشرعية المبنية على قواعد الاستنباط الأصولية. وبذلك كان منهج توجيهاته يتأرجح بين فقه العزائم من جهة، وبين فقه الرخص من جهة أخرى؛ وبين فقه الأدلة الأصلية كتابًا وسنةً وإجماعًا وقياسًا، وبين فقه الأمارات استحسانًا واستصحابًا وسدًا للذرائع؟ وهذا المنهج في الاستدلال متسع متشعب، مذاهب الخلاف فيه مشرعة.لذلك وجد فيه صاحبنا مجالًا واسعًا للانتقاء، ولنقد المذاهب المخالفة لمذهبه الحنفي. ففي المجال السياسي المتعلق بشرعية الحاكم، كان شعاره العمل بالرخص وسد الذرائع إلى الفتنة، وارتكاب الضرر الأخف دفعًا للضرر الأقوى، والحفاظ على تماسك الوضع الداخلي لدفع العدو الخارجي. وفي مجال " فقه البغاة " نجده يحاول التخفيف بوضوح من جنوح بعض الفقهاء إلى التشدد والقسوة وإراقة الدماء، فيميز بين الخارجين تظلمًا، والخارجين لخلاف سياسي، أو طلبًا للسلطة وصراعًا من أجلها. وفي مجال العقيدة نلفيه متشددًا في أمرها، سالكًا نهج العزيمة، معرضًا عن الرخص، وعن محاولة استيعاب مخالفيه في الرأي أو تجاوز أخطائهم. وفي الميدان المالي والإداري، مصادر للدخل، وتوجهات للإنفاق، وتوظيفًا ومحاسبة وتأديبًا، يحاول تأصيل منهج يعيد الأمر إلى مصادره في الكتاب والسنة، من أجل ضبط التصرفات، وتوزيع المسؤوليات بما يحفظ مصلحة الأمة، وهيبة أجهزتها، وسمعة شخصيتها الاعتبارية.
1 / 20