خرجت إلى الصالة، وحانت مني نظرة إلى حجرة جاري، كان بابها الزجاجي مغلقا، ولمحت ظله من وراء الزجاج ويده تخبط عليه بعنف، ووجدت مفتاح الباب ملقى على الأرض. تناولت المفتاح ووضعته في الباب وفتحته له، وقال لي وهو يبكي إنه نسي المفتاح عندما دخل وإنه يخبط لي منذ ساعة. وقالت أختي يجب أن تزور حسنية وسترى خطيبها. وذهبنا، ورحبت أمها بي، وقالت يجب أن تستقر. وقالت لأختي: زوجيه وهو يهدأ. وجاء خطيب حسنية وقال إنه نظم مكتبه في الوزارة تنظيما رائعا؛ فهناك لوح من الزجاج السميك يغطيه، وعلى اليمين أجندة فخمة من الخارج، وفي الوسط محبرة من العاج لا يوجد مثيل لها الآن، وإلى اليسار بعض الملفات العاجلة، وفوق رأسه علق لفظ الجلالة. وقلت إن الشمس أوشكت أن تختفي ويجب أن أنصرف. وتركتهم وأسرعت إلى المنزل، وقابلت العسكري على السلم. وقال: تأخرت. وأخرجت علبة السجائر لكنه هز رأسه وقال: من الممكن أن تقضي هذه الليلة في الحبس. وأخرجت عشرة قروش، وصحبني إلى الشقة فدخلت وأحضرت الدفتر، ووقع فيه وانصرف. وخلعت ملابسي في بطء، وغسلت وجهي، ثم أعددت فنجانا من القهوة، ورتبت المكتب ومسحت الغبار الذي تراكم فوقه، وأمسكت القلم لكني لم أستطيع أن أكتب. وتناولت إحدى المجلات، وكان بها مقال عن الأدب وما يجب أن يكتب. وقال الكاتب إن موباسان قال إن الفنان يجب أن يخلق عالما أكثر جمالا وبساطة من عالمنا. وقال إن الأدب يجب أن يكون متفائلا نابضا بأجمل المشاعر. وقمت واقفا وذهبت إلى النافذة وتطلعت إلى نافذة الأمس، لكنها كانت مغلقة، وأغمضت عيني. تصورت فتاة الأمس بجسمها الأبيض أمامي على الفراش، ممتلئة وشعرها طازج، وأنا أقبل كل جزء منها، وأمر بخدي على فخذها وأسنده إلى نهدها، وامتدت يدي إلى ساقي، وجعلت أعبث بجسمي. وأخيرا تنهدت، وارتميت على مقعدي متعبا وأنا أحدق في الورقة بنظرة فارغة. وبعد قليل قمت وعبرت في حذر فوق الآثار التي تركتها على البلاط أسفل المقعد، وذهبت إلى الحمام وغسلت جواربي وقميصي وعلقتها في النافذة. وأطفأت النور بعد أن تركت باب الحجرة مفتوحا لأسمع العسكري عندما يأتي، وأشعلت سيجارة وتمددت على السرير، ونمت. وفي الصباح ذهبت إلى منزل أخي، وكانت التجاعيد قد زحفت على وجهه وامتلأ جلده ببقع بيضاء، وقال: تلف كل شيء منذ أصبح العمال في مجالس الإدارات. وقالوا نصعد إلى الطابق الأعلى لنرى ابنته الكبرى. «وكان أخي قد بنى الفيلا منذ خمس عشرة سنة، وقال إن زوجته هي التي اشترت الأرض. وكانت أول مرة يعلم أن معها نقودا. وكان أبي وقتها حيا، وكان يأتي كل يوم ليراقب البناء، وكنا نسكن في حجرة ضيقة. وأكمل أخي البناء، وأجر الدور الأول وسكن في الثاني، ثم زوج ابنته الكبرى وأجر لها الدور الثالث. وعندما تزوجت ابنته الصغرى أخلى الدور الأول وأجره لها، وظل في الوسط مع زوجته. وفي البداية كان يقضي ساعة كل يوم في الحديقة يقص أعشابها وهو يدخن البايب.»
وسألتني عما إذا كنت أقرأ لزوجها، وقال زوجها إن الشيخ عبد الباسط قال له: إن الصلاة في المسجد الأقصى تحسب بألف ثواب. وقالوا ننزل إلى الطابق الأسفل لنرى الابنة الصغرى. واستقبلتنا على الباب وهي تحمل طفلها على ساعديها، وكانت عيناه قريبتين من بعضهما، وقالت: أليس ابني جميلا؟ وضحكت، ومدت في ضحكتها لتثير زوجها، وكان يقف بجوارها وهو يداعب نجوم بذلته العسكرية بأصابعه. وقال إن العسكري إذا فتح فمه لطمه على وجهه فيصمت. وقال: آن لك أن تتزوج. وقال: افعل مثلي. المهم في البنت هو الأصل. وأداروا التليفزيون، واعتدل أخي في عباءته وابتسم وقال: شوفوا هذا الفيلم. وكان يروي قصة فتاة تركت شابا في سنها وأحبت كهلا. وعندما انتهى الفيلم تطلع أخي إلينا مزهوا، وأخذني إلى حجرته، وأغلق الباب، ثم أخرج عدة ملفات قديمة، وجلس إلى المكتب وأشعل البايب، وأراني قصصا كتبها وقصصا ترجمها، ومقالات بعنوان «لك يا سيدتي» وكتابا له عن بناء الأجسام وآخر عن معارك الحرب العالمية الثانية، وثالثا عن الأمير عمر طوسون، وصورة قديمة له بالقبعة والبايب في حديقة المنزل، وصورة أخرى مع فتاة ألمانية، وقال إن ذلك كان في أيام اقتراب روميل من الإسكندرية، وكان قد بدأ يتعلم الألمانية. وأراني صورة ثالثة في مكتب شركة أمريكية، وصورة رابعة في شركة استيراد مصرية، وقال: نفسي في فتاة صغيرة. وقال إنه لم يحب أبدا. وقال إنه بالأمس أراد أن ينام مع زوجته، لكنها رفضت لأنه كان قد جعلها تشتري الفاكهة من نقودها وعندما أعطاها جنيهين فتحت له ساعديها. وجمع الأوراق المصورة وأعادها إلى ملفاتها، وقال: أنا الآن انتهيت. سأربي أرانب. ونادوا علينا لنأكل، ثم خرجت وذهبت إلى المجلة وقابلت سري، وقال لي إنه يريد أن يساعدني لكن الظروف لا تمكنه. وقال: هل قرأت مقالاتي؟ أنا الوحيد الذي يكتب هذا الآن. وقال: فؤاد رجل تافه، تصور أنه قال عني إني تلميذه. وتركته وذهبت إلى حجرة سامي في آخر الممر، وفي هذه المرة وجدته، وقال لي: ليست عندي أي فكرة عما كتبته. ووقفت بجوار مكتبه وهو يكتب، ورفع رأسه إلي فجأة وقال: ما نعطلكش، مر علي بعد يومين. وخرجت إلى الشارع، ومشيت إلى المترو، ورأيت فتاة رائعة الجمال من زجاج شركة الطيران. وركبت المترو إلى البيت ولم أجد مقعدا خاليا لي، ووقفت أتأمل الناس من حولي. وفي حجرة السيدات لمحت جانبا من وجه امرأة، كانت تطل من النافذة، وكانت ترتدي فستانا أبيض بغير أكمام، وتبدو نظيفة جدا، ولا شك أنها استحمت قبل أن تخرج. وكان شعرها طويلا ناعما، ولا يمكن أن تكون قد فردته عند الحلاق، ولمحت بجوارها طفلة. واضطرب صدري عندما تحولت بوجهها كله ناحيتي ورأيت سمارها الخمري، وكان وجهها بلا كحل أو أصباغ، وألفيت نفسي فجأة في مواجهة عينيها، كانتا واسعتين صافيتين، وللحظة ضعت. «كانت عيناها نجمتين في فضاء ساكن، وكنت سابحا في الفضاء، ضائعا، وكان بالليل عندما التقت عيوننا، وكانت عيناها تلمعان في الضوء، رأيت صورتي في بياضهما الواسع ورأيتها في سوادهما العميق. وكان ساعدها عاريا بجواري، وبشرتها مشربة بالحمرة وتبدو ساخنة. واشتقت أن أمد إصبعي وألمس ساعدها عند استدارته الممتلئة قبل الكتف. وكانت بلوزتها بيضاء خفيفة، ولم تكن ترتدي مشدا؛ فقد كنت أرى نقطتي ثديها على البلوزة، في المكان الذي تستريحان فيه على الحرير. وكانت بشرة وجهها ناعمة، وشفتاها ممتلئتين، والسفلى دائما منفصلة قليلا عن العليا ومقوسة، داكنة اللون كأنها ملتهبة من شيء ما. وعندما كانت تنظر إلي وتبتسم، كانت نظرتها تتعلق بي وأحار، وعندما احتضنتها أول مرة سكنت لحظة ثم أبعدتني عنها، وكنا نجلس في الظلام، ثم مدت يدها إلى رأسي وجعلت تعبث بشعري، ثم تسللت يدها إلى حافة قميصي، ثم ظهري، وجعلت تتحسسه بكفها؛ عندئذ احتضنتها ودفنت رأسي في رقبتها، واستمتعت لحظة بنعومة جلدها على خدي وجعلت أتشمم رائحتها النظيفة، ثم رفعت رأسي قليلا وقبلتها في فمها، ودخت. وعندما أردت أن أعيد الكرة دفعتني عنها، وتعلمت أن أكتشف فيها أشياء أخرى، عندما تزم شفتيها وتركن إلى الصمت مهما حدث، وأكاد أجن لأعرف لماذا. وعندما تبدو أحيانا رقيقة حانية وأعبدها، وعندما أجلس أمامها وعيني على وجهها ويديها وساقيها وأكاد أبكي من الرغبة. وعرفت الألم عندما كنت أنظر إلى عينيها اللامعتين وخديها الشهيين، وعندما كانت أصابعي تتسلل إلى ساعديها وساقي تقترب من ساقيها وترفضني. وفي آخر مرة كنت سأجن، كنت قد بدأت أوقن، وأخذتني بين ساعديها، وسمحت لي أن أتحسس صدرها ويديها وأقبل خديها وشفتيها، لكنها كانت باردة.»
لكنها لم تلبث أن حولت عينيها بعيدا، ولم تلتفت نحوي أبدا بعد ذلك. ونزلت أمام البيت واشتريت طعاما، ودخلت المنزل، ووجدت الحجرة الخشبية التي يستخدمها خال حسنية مضاءة، وبابها مفتوحا، وعندما نظرت خلاله وجدته معتمدا برأسه على كفيه يتأمل صورة فتاة في إطار مذهب على مائدة صغيرة أمامه، وكانت الصورة لحسنية، وكانت عيناها في الصورة واسعتين رائعتين. وابتعدت قبل أن يحس بي. وصعدت إلى غرفتي، وخلعت ملابسي، وأدرت الترانزيستور، فلم أجد أغاني أو موسيقى وجعل يخروش. وجلست أحاول الكتابة، وعلى الأرض ظهرت بقع سوداء من أثر لذتي. وجاء حسن وقلت له لا بد أن نأتي بامرأة الليلة. وقال سأحاول. وخرج، وعاد بعد نصف ساعة، وقال: أخي على السلم ومعه فتاة. وقال: اختف قليلا لأننا قلنا لها إننا اثنان فقط. وقال: لا تخش شيئا فلن تستطيع أن ترفضك ما دامت ستأخذ الثمن. وذهبت إلى المطبخ وأعددت الشاي، وجاء حسن، وقال إن شقيقه والفتاة في حجرتي الآن. وحملت الشاي إلى الصالة ووضعته على المائدة، وجلست بجوار المائدة، وأشعل حسن سيجارة وجعل ينقر بأصابعه على المائدة. وفتح باب الحجرة بعد قليل وخرج أخوه، وصافحته ولم أكن رأيته من قبل، وكان ضخما في الأربعين. ودخل حسن الحجرة، وقدمت الشاي لأخيه، وقال لي: كيف الحال؟ قلت: عال. وقلت وأنا أشير بإصبعي إلى الحجرة: كيف هي؟ وهز كتفه وقال: لا بأس. وقال: لقد طفنا بكل الشوارع بالسيارة لكننا لم نجد غيرها لأن الوقت متأخر. وخرج حسن وقال لي: دورك. وأخذته جانبا وقلت له: لن أستطيع. ونظر إلي بدهشة: كيف؟ قلت: لا أدري. ليست لدي رغبة. وهزني وقال: لكن يجب أن تدخل. هذه مسألة مهمة، وقلت له إني أدرك ذلك لكني لا أستطيع. قال: تعال. ودفعني نحو الباب، ودخلت. أغلقت الباب ورائي، وقال لي أخوه من وراء الباب: الجراب على المكتب. أشعلت سيجارة وقدمت لها واحدة، وكانت جالسة على السرير بملابسها الداخلية. وكانت ترتدي قميصا مخرما رخيصا، بمبي اللون، مثل قماش أبيض غمس في الدم ثم غسل عدة مرات فاحتفظ بلون الدم الباهت، وكانت ساقاها عاريتين. وعلى المكتب استقر فستانها مطبقا في عناية، وقالت: لا أريد أن أدخن، هيا بنا، وقلت: نشرب السيجارة أولا. ما اسمك؟ وقالت: أريد أن أنتهي. ومدت يدها إلى ساقي وفكت زرار البنطلون، ونحيت يدها ببطء، وقلت: نامي معي الليلة وانصرفي الصباح. وضحكت: كده. وجذبتني نحوها وحاولت أن تقبلني، ونحيت فمي عن وجهها، وقمت واقفا. وخلعت بنطلوني وسروالي الداخلي، وتناولت الجراب وجعلت أرتديه، لكنه تمزق. بحثت عن واحد آخر فوق المكتبة فلم أجد. وقالت الفتاة: أنا نظيفة. وفتحت الباب وناديت على شقيق حسن وقلت: أريد واحدا. وأعطاني واحدا من جيبه، ولبسته وارتميت فوقها، وحاولت أن تقبلني فأبعدت وجهي. وقمت أخيرا وارتديت ملابسي، وأخذاها وخرجوا. وبقيت جالسا، وأشعلت سيجارة. وجاء رمزي وقلت له إني لم أستطع أن أنام مع الفتاة. وسخر مني؛ فقد استطاع هو. قابل فتاة في الشارع واصطحبها إلى البيت، وأطفأ النور، وظل معها عشر دقائق، ثم أعطاها خمسة وعشرين قرشا، وتطلع بعدها إلى وجهه في المرآة فوجده أحمر، وقال إنه لا يوجد شيء يساوي أي شيء. وانصرف. وجاء العسكري بعد قليل، وأطفأت النور، ونمت. وفي الصباح خرجت، وأفطرت في الشارع ولم أشتر الجرائد، وعدت إلى الحجرة. وقالت أختي إن عمي عاد من الإسكندرية وإنه مريض جدا ولا بد أن أذهب لاستقباله. وخرجت وركبت المترو إلى المحطة، ونزلت من المترو وعبرت الميدان، ثم سور المحطة الخارجي. وعلى الرصيف وجدته يقف، وكانت حالته عادية وزوجته إلى جانبه تحمل شمسية في يدها. وأسرع أولاده يحضرون تاكسي، وركبوا وقالوا لي أن ألحق بهم في المنزل. وركبت المترو وذهبت إلى منزلهم، ووجدته جالسا على كنبة مرتديا بيجامته، وبدا جسمه صغيرا قد انكمش عن ذي قبل. وتأملت كتفيه اللذين تضاءلا في فانلته، وعينيه الصغيرتين اللتين أوشكتا أن تختفيا خلف نظارته السميكة. وكان بنطلون البيجامة ملوثا ببقعة صفراء كبيرة فوق الكيس الضخم بين ساقيه، وقال إن كل شيء بدأ فجأة برعشة وسخونة. واستدعوا الطبيب فقال إنه لا يوجد شيء البتة، وقال إن الحرارة ارتفعت في المساء وظن أنه سيموت، وأرسل إلى الطبيب على الفور، فجاء وقال له: «تاكل مسلوق وتحلل.» وقال عمي إنه نفذ أوامر الطبيب يوما واحدا فقط. وفي اليوم التالي قال لهم آكل فرخة. وقمنا لنأكل، وأقبل على اللحم يلتهمه في شراهة، وقال: أعطوني من الكبدة. وتركتهم وخرجت، وركبت إلى منزل ابنة عمتي، وقلت إني سأعرف المنزل من نوافذه الزرقاء. لكني عندما اقتربت منه اكتشفت أنها ليست كما كنت أتخيل، كان الزجاج عاديا بغير لون، إنما السماء هي التي كانت تعطيه زرقته أحيانا، وكانت ألواحه مشروخة، وواجهة المنزل صفراء متسخة. وكان باب الحديقة مفتوحا ومائلا على الحائط، والحديقة نفسها مهجورة، والبلاط الملون في ممراتها قد اقتلع في أكثر من مكان. وسرت في الممر المؤدي إلى باب البيت، وكان هناك براز كلب بجوار الحائط. وصعدت السلم الذي تآكلت درجاته، وطرقت الباب، وفتحت لي ابنة عمتي. ولم أعرفها في مبدأ الأمر؛ فقد كان شعرها منكوشا تتخلله خصل رمادية كثيرة، وكانت عيناها منطفئتين، وجلد وجهها بنيا. وفي الصالة رأيت الحجرة القبلية، ومشيت إليها وقلت لها: أين مكنة الخياطة التي كنت تضعينها هنا؟ وقالت: ألا زلت تذكر؟ «أجل، لا زلت، كان ذلك في الشتاء، بعد الغداء، وفي الحجرة البحرية جلس أبي مع عمتي خلف زجاج الفراندة يرقبان القصر، وذهبت إليه وأردت أن أجلس على ساقيه، لكنه نحاني عنه قائلا إني لم أعد صغيرا . وغادرت الحجرة إلى الصالة، وعبرتها إلى حجرة ابنة عمتي، وكانت تجلس أمام مكنة الخياطة، وجلست أرقبها وهي تدير المكنة بساقها، وقالت لي: تصور .. انقطع الخيط من أول دورة. إنه شيطان الذي ركب هذه المكنة. وانحنت على المكنة بعد أن رمقتني بنظرة سريعة. وحولت بصري إلى النافذة وأنا أشعر بأذني ساخنتين وكنت لا أزال أرى وجهها الأبيض الرقيق والحمرة الشاحبة على خدها وأنا أتطلع إلى النافذة المغلقة. الزجاج فقط هو الذي كان مغلقا، ومن خلفه ظهرت السماء، وخلاله تدفقت أشعة الشمس الباهتة .. وتحت في الحديقة كانت أشعة الشمس تضيء فوهة البئر السوداء. وبعد ساعة سيأتي الصبية وأنزل معهم ونرفع الماء بالمضخة، وسنسرق الزهور ونهز شجر المانجو بلا فائدة، ونجري في البدروم والسراديب. وهذه المرة سأختبئ منهم في الحجرة المتطرفة التي تفتح في رمضان ليقرأ فيها المشايخ كل ليلة. وعندما ننصرف بالليل ستودعنا عمتي إلى الباب، وتضيء نور السلم، ونهبط درجاته البيضاء العريضة، ونخرج إلى الممر، ونمضي فوق بلاطه الملون، ثم نفتح باب الحديقة فيئز، ثم نغلقه تماما، وننطلق إلى الشارع العريض الهادئ بلا صوت، وعندئذ أجمع الياسمين من أسوار الحديقة .. وقالت صديقة ابنة عمتي شيئا. كانت تقف على مقربة أمام مرآة الدولاب وهي تمس شفتيها بإصبع الروج، لكني لم أنظر ناحيتها، كانت طويلة وعيناها خضراوين، ولم تخاطبني إلا بكلمة واحدة: إزيك. قالتها عندما دخلت الغرفة، ثم وجهت كل اهتمامها إلى ابنة عمي، لكن ابنة عمتي كانت تكلمني أنا عندما قالت: تصور. كان دولابها الصغير خلفي، تعلو مصراعيه الخشبيين مرآتان بيضاوان كالعينين، وتتدلى من منتصفه عند ثقب المفتاح مطرقة صغيرة من النحاس تحدث رنينا جميلا عند فتح الدولاب. وفي داخل الدولاب أدراج مغلقة، ودون أن أحرك عيني عن النافذة استطعت أن أرى أصابعها تلمس مقبض المكنة في خفة، فتدور العجلة في ضجة. وانحنت تتابع حركة القماش تحت الإبرة فسقطت ضفيرتها على صدرها، وقالت لها صديقتها: ألن تنتهي أبدا؟ تأخرنا. ورفعت ابنة عمتي رأسها والتقت عيناها بعيني وهي تتطلع إلى صديقتها وقالت: خلاص آخر خط. وأغمضت عيني، وسمعت بعد برهة رنين مطرقة النحاس الصغيرة.»
وجاءت أختي وقالت: المجاري في البلد طافحة . ودخل قريب عجوز لابنة عمتي، وكان يلهث في قوة، ولم يكن يرى جيدا من خلف نظارته، وتجهم وجه ابنة عمتي، وقال العجوز: أعطني شلنا بعدما أشرب القهوة. وخلع طربوشه ووضعه بجواره على الكنبة. شرب القهوة وظل جالسا، ودخلت ابنة عمتي حجرتها ثم عادت وسألتني إذا كانت معي فكة، ولم تكن معي فكة. وأرسلوا الطباخ ليفك عشرة قروش إلى شلنين، وجلسنا ننتظره صامتين حتى عاد. وأعطت ابنة عمتي الشلن للعجوز، فقام وارتدى طربوشه وسلم علينا وخرج، وقالت ابنة عمتي: هذا العجوز ماكر، يلهث فقط عندما يدخل علينا. وقالت أختي إنه يقيم مع ابنه المتزوج، وإن زوجة الابن تحرض أطفالها على تمزيق ملابسه وإخفاء حذائه، وتترك غرفته قذرة. وقالت ابنة عمتي: سيشرب بالشلن خمرا. وقالت أختي: عندما يذهب إلى ابنته تتركه في الصالة وتدخل حجرتها وتغلق الباب عليها. وقالت ابنة عمتي إنه يقضي النهار كله في الخارج يشرب الخمر ويدور على أقاربه يشحذ منهم. «في نفس هذه الصالة منذ أعوام بعيدة كانت عمتي تجلس على الكنبة بطرحتها البيضاء وهي تدخن. وبجوارها أبي لا زال يلهث من السلم والحر وهو يجفف بمنديله رأسه الأصلع الذي يدور به شعر أبيض. وجاء الطباخ وأخرجت عمتي كيس نقودها وأعطته جنيها، وانصرف الطباخ. وقال لها أبي شيئا، فهزت رأسها بالرفض .. وقام أبي فعبر الصالة إلى الحجرة البحرية وخرج إلى الفراندة وجعل يدخن.»
وقالت أختي إن نهاد خطبت إلى مدير في القطاع العام. ورويت لابنة عمتي كيف سألتني قريبة نهاد عما إذا كنت ابن أبي الشوارب الواقفة، وضحكنا. وقالت أختي إن جدة نهاد مريضة وإنهم لا يطيقونها. وقالت ابنة عمتي: قبل أن تموت أمي ظلت شهورا في الفراش لا تغادره، وكانت تتبول فيه. وقالت أختي إن زوجة ابن عمي سقطت في شهرها السادس. وقلت: هذا أحسن لها. وغضبت أختي واتهمتني بأني لا أحس. وقالت إني الوحيد الذي لن يتمكن من حضور زواجها لأنه سيكون بعد الغروب. وقالت إن صديقتها حسنية ستتزوج بعدها بأسبوع، وسيعود خالها إلى منزله. وقالت إن خال حسنية كان يقيم عندها طول الوقت بعد أن هجر امرأته. وقالت إن امرأته لا تخلع السواد أبدا، وإنه يقول إن ملابسها الداخلية كلها سوداء. واقترب مني كلب ابنة عمتي وهو يهز رأسه، ومددت يدي أداعبه، فنام على ظهره في الحال، وانثال بوله في الأرض، وقالت إنه أصبح هكذا أخيرا؛ فما إن ينام هكذا على ظهره حتى يبول. وانصرفت إلى حجرتي، وخلعت ملابسي، وأعددت كوبا من الشاي، وجلست أقرأ في كتاب عن فان جوخ. ولا بد من أني غفوت؛ فقد رأيت أني التقيت بأبي، وكان يبدو متعبا، وجلس متربعا على سريره، متجهما، ولم أعرف ماذا أقول له وأنا لي مدة لم أحاول أن أراه، كان موجودا طول الوقت ولم أفكر في الذهاب إليه. واستيقظت على صوت جرس الباب، وقمت أفتح، وكان العسكري، فعدت أحضر الدفتر ووقع وانصرف. وعدت إلى الحجرة فأطفأت النور وأشعلت سيجارة، واستلقيت على السرير أفكر في أبي. «كان ذلك بالليل، وكان أبي يصرخ من الألم، وكنت أريد أن أنام. وعندما أخذوه إلى المستشفى بقيت بمفردي في البيت، وكنت سعيدا. وعندما ذهبت إليه اصطدمت بعينيه، وكانتا واسعتين جزعتين، وسألني لماذا تأخرت، ولم يكلمني بعد ذلك أبدا. وقال: أقرأ لي. وجلست بجواره على مقعد، وأعطاني ظهره، وأمسكت بمجلة وقرأتها له. وبعد لحظة ملت عليه لأرى عينيه، وكانتا مغلقتين، فتوقفت عن القراءة، لكنه فتح عينيه وقال: لم أنته بعد. وعدت أقرأ، وأخيرا قال: يكفي هذا، يمكنك أن تنصرف. وخرجت مسرعا وأنا أتنفس الصعداء. وبعدئذ لم يطلب مني شيئا، ولم أر الرعب الذي كان في عينيه. وعندما أعادوه إلى البيت حملوه من السيارة إلى السرير. وفي بيت أخي استبدلوا أغطية المقاعد بأخرى داكنة، ولم أفهم. وعندما أخرج دماء من فمه نزل أخي يبحث عن وعاء، وعاد ينهج ويقول: دخت ولفيت. وارتمى على الكنبة يلهث وهو يتطلع إلينا. وأخيرا رقد أبي على ظهره في صورة مستقيمة، وغطوا جسده كله، ووجهه بملاءة بيضاء، وساووا جسده، وقالوا إنه لم يسأل عني. ورفعت الملاءة عن وجهه ولكن عينيه كانتا مغلقتين.»
ونمت. وفي الصباح ذهبت إلى الشقة الجديدة التي ستنقل إليها أختي في المساء. كان البيت كله جديدا، لا زال العمل يجري في بعض طوابقه. ووجدت باب الشقة مفتوحا وخطيب أختي يقف أمامه. وصحبني إلى الداخل، وعبرنا الصالة إلى حجرة الصالون. وأراني صورة كبيرة على الحائط لبيت أوروبي على شاطئ وأمامه قارب. وقال بزهو: إنها رسم أخي. ثم انتقلنا إلى حجرة النوم، وفتحنا أبواب الدولاب الأربعة، وجلسنا على السرير واهتززنا فوقه، وتحسسنا أغطيته ووسائده بأيدينا، ثم خرجنا إلى الصالة وفتحنا الثلاجة ثم أغلقناها. وقادني إلى الباب وأشار إلى مصباح فوقه وقال: بمجرد أن أفتح الباب يضيء هذا المصباح من تلقاء نفسه، ثم ينطفئ عندما أغلقه. وقال: انتظرني هنا حتى أذهب وأجيء بالسخان والفرن، وخرج. وجلست في الصالة المظلمة وأشعلت سيجارة، وقمت وضغطت على زر النور، لكن الكهرباء لم يكن قد تم توصيلها بعد، وتأملت غطاء المصباح الذي كان على شكل قمر صناعي. وعدت فجلست إلى المائدة وجعلت أدخن وأنا أتأمل حواف مقاعدها اللامعة بلا أي خدوش. ووصل السخان بعد قليل لكن خطيب أختي لم يأت. انتظرته مدة أخرى وأنا أدخن، ثم قمت إلى النافذة، ووجدت الشمس تغيب، ثم رأيته يسير في الشارع بمفرده في اتجاه المنزل، ولم يكن هناك أحد غيره في الشارع. وصعد بعد قليل، وصافحته قائلا: مبروك. وغادرت المنزل إلى حجرتي، فأضأت نورها، ووضعت الدفتر في جيبي، وجلست في مقعد وظهري إلى الباب، وأمسكت بكتاب. وبعد قليل قمت وأدرت المقعد بحيث يكون الباب أمامي، وعاودت القراءة. وبعد لحظة تطلعت إلى الباب من فوق حافة الكتاب، وكانت الشقة غارقة في الظلام، وحاولت عبثا أن أواصل القراءة. وقمت وخرجت إلى الصالة، وأضأت نورها، وكانت حجرة جاري مظلمة، وانتقلت إلى المطبخ فأضأت مصباحه، وعدت إلى حجرتي، وأمسكت بالكتاب مرة أخرى. وطرق الباب فجأة، وقمت لأفتح، وتذكرت أختي، وكانت تقول إنها تشعر عندما يطرق الباب أن أحدا سيدخل ويضربني. فتحت شراعة الباب أولا فوجدت العسكري أمامي. فتحت له الباب، وتناولت الدفتر من جيبي وقدمته إليه، فوقع ثم انصرف. وعدت إلى حجرتي، وحاولت أن أقرأ من جديد، لكني لم أستطع، وأخذت أتمشى في الحجرة، ووقفت في النافذة، كانت كل النوافذ أمامي مغلقة. وخلعت ملابسي وارتديت البيجامة ثم أغلقت باب الحجرة، وتركت النور مضاء في الصالة والمطبخ، وأشعلت سيجارة واستلقيت على الفراش، وعندما انتهت السيجارة قذفت بها من النافذة، وأعطيت وجهي للجدار ونمت. واستيقظت فجأة وأنا أشعر بصداع حاد وعطش شديد. وغادرت الفراش، وكان الليل لم ينته بعد، وفتحت الباب وذهبت إلى الحمام، وانحنيت على صنبور الماء فشربت، ثم أغلقت الصنبور، واكتشفت أن أرض الحمام غارقة في الماء. وعدت إلى حجرتي، وكان هناك إصبع موز على المكتب فتناولته ونزعت قشرته ثم أكلته ووضعت القشرة على المكتب، وعدت إلى فراشي. واستيقظت مرة أخرى، وكانت الشمس تملأ الحجرة، وظللت ممددا، ثم قمت وأخذت فرشاة الأسنان والصابونة وذهبت إلى الحمام، ووجدت المياه قد ملأت أرضه وتسللت إلى الصالة، وكان الصنبور تالفا. ووقفت وسط الماء وغسلت وجهي وأسناني، وعدت إلى الحجرة تاركا آثار أقدامي المبللة في كل مكان. وارتديت ملابسي، وغادرت الشقة ونزلت إلى الشارع، وركبت المترو إلى نهايته، وسرت على الكورنيش، ثم عبرت الكوبري وولجت أول كازينو صادفني، واخترت مائدة منعزلة على النيل وجلست. وجاءني الجرسون فطلبت قهوة، وجعلت أتأمل المياه أمامي. وتابعت ببصري قاربا به شاب عاري الصدر يجدف، وفجأة سقط منه أحد المجدافين وابتعدت به المياه. وأدار الشاب دفة القارب محاولا اللحاق بالمجداف الضائع، وكان يعمل الآن بمجداف واحد وينقله كل لحظة إلى أحد جانبي القارب. لكن المياه كانت تعاكسه، وكلما أفلح في الاقتراب من هدفه ابتعد عنه. وبدأ يجدف بحركات محمومة، وبدا اليأس عليه. وترك المجداف فجأة وضم راحتيه أمام فمه، وصرخ لزميل له في قارب بعيد طالبا النجدة، لكن زميله لم يرد عليه وربما لم يسمعه. ولم تكن القهوة قد جاءتني، وناديت على الجرسون فلم يلتفت ناحيتي، فقمت وغادرت الكازينو، ومشيت إلى الكوبري وركبت الأتوبيس. ونزلت في أول سليمان، وجلست في أول مقهى صادفني، وشربت القهوة، ثم أشعلت سيجارة. وقمت فسرت إلى شارع توفيق، ثم انحدرت في التوفيقية ووقفت أمام سينما كايرو، وكانت تعرض فيلما كوميديا. وابتعدت في اتجاه شارع فؤاد وعبرته، وانحنيت في شارع شريف، وواصلت السير فعبرت شارع عدلي ثم ثروت، ومضيت في اتجاه شارع سليمان، ثم سرت فيه حتى الميدان، وكانت مياه المجاري تملأ الأرض، والمضخات منصوبة في كل مكان تحملها من داخل الحوانيت إلى الشارع، وكانت الرائحة لا تطاق. والتقيت بشخص أعرفه، وقال إنه استيقظ منذ ساعة فقط هو الآخر. وكان يمد ليلحق موعدا، وأسرعت بجواره وقلت: سأمشي معك حتى موعدك. لكنه قال إننا يجب أن نفترق الآن. وتركني، وعبرت الشارع وعدت في اتجاه الميدان، ثم انطلقت في شارع قصر النيل حتى وصلت السينما. تفرجت على الإعلانات التي قالت إن هذا العالم مجنون. واتجهت إلى شباك التذاكر وكان كاملا، ووجدت شباكا للحجز والمقاعد كاملة في حفلتي المساء، والناس تحجز للغد وبعده. غادرت السينما وعدت أسير في اتجاه الميدان مرة أخرى ثم شارع سليمان. وفي هذه المرة سرت على الناحية التي لم أسر عليها في مجيئي. وعندما وصلت سينما مترو وجدت بها فيلما كوميديا هي الأخرى. وتجاوزتها، ووقفت أمام الأميركين مترددا. وكانت سينما ريفولي على يساري وأمامها زحام شديد، وتذكرت سينمات شارع عماد الدين. وعبرت الشارع، وواصلت السير في شارع فؤاد حتى عماد الدين، فانحرفت فيه، وسرت على اليسار وكان هناك زحام هائل أمام كل السينمات، ولا تعمل قبل ساعة ونصف. ووصلت إلى نهاية الشارع، فمضيت في شارع رمسيس واتجهت إلى باب الحديد. وخيل إلي أن أحدا يتتبعني، ثم قارنت ساعتي بساعة المحطة، واتجهت إلى مقهى في الميدان عند بداية شارع الجمهورية، فجلست في الخارج. واختفت الشمس فجأة، وساد لون رمادي، وتذكرت هذه المنطقة منذ عشرين عاما، ودخان القطارات الآتي من باب الحديد واللون الرمادي في كل مكان؛ في السماء والطرقات والبيوت. وقلت أقوم أبحث عن ذلك المنزل القديم؛ فربما كانت أمي لا تزال هناك . وقمت بسرعة قبل أن تعود الشمس، كنت أريد أن أقترب من المنزل في الغيام. وعبرت شارع كلوت بيه، وتركت شارع الفجالة، واخترقت الشوارع الصغيرة التي تصله بالميدان. وأحسست أني أقترب من مكان البيت، وأن بوسعي أن أخترق عدة شوارع جانبية فأصبح بجواره. لكني قررت أن أقترب منه من ناحية شارع الفجالة كما كنا نفعل أنا وأبي. «وكنا نأتي بالترام، ونأخذه من الميدان قبل أن يتحول إلى شارع الظاهر. وكنت أحب هذا الشارع الهادئ لأنه كان مليئا بالأشجار التي تتعانق أغصانها فوقه، في المنتصف، فتحجب عنه الضوء. وكنت أحب صوت السنجة وهي تشق طريقها بصلابة بين فروع الأشجار. ومع ذلك كان الترام ينطلق بأقصى سرعة، فنترك وجوهنا لهواء العصر، ويضع أبي يده على طربوشه كي لا يطير، ثم ينتهي الشارع، وينحني الترام دالفا إلى الميدان الواسع ويبطئ من سرعته، ثم يتوقف أمام الجامع. وأتطلع إلى الحديقة الكبيرة التي تنحدر إلى أسفل حتى تختفي عن أنظار الجالس في الترام. وخلال الأقواس الحجرية الكبيرة في جدران الجامع أرى الأردية الحمراء والزرقاء للأولاد والبنات الذين يلعبون في الحديقة، وتظل عيناي عليهم، والترام يعاود السير ويدور حول الجامع، ثم يختفي الجامع بحديقته مرة واحدة، ويضع أبي يده القوية على ركبتي العارية ليحميني عندما يستدير الترام في حدة، ونعبر شارع الخليج الضيق. وأتمنى لو كان الترام الذي نركبه هو ترام الخليج لنمضي بين جانبي الشارع المتقاربين. ويمد أبي يده فيكاد يلمس جدران المنازل، ثم نهبط في الفجالة، ويمسكني أبي بيده اليمنى حتى نعبر الشارع، ثم ننطلق في طريق ضيق، ونمشي إلى جوار جدار أبيض عال تتدلى فوقه أغصان الأشجار. ويظلم الشارع فجأة رغم أن الشمس لم تختف بعد، وأدرك السبب عندما أتطلع إلى أعلى وأرى سحب الدخان الكثيف تتجمع بسرعة ثم تتبدد بعد لحظة، ويقول أبي إنه دخان القطارات قادما من باب الحديد. وينتهي الشارع، ويظهر المنزل الذي نقصده، ويجلس أبي على دكة البواب، بينما أصعد السلم الطويل مارا بأبواب تتصاعد منها رائحة الزيت المقلي. وفيما بعد نعود أنا وأبي من نفس الطريق الضيق، سائرين إلى جوار الجدار الأبيض، وعندئذ ألمح الأجراس الضخمة من خلفه. ويكون الشارع قد أظلم تماما وخلا من المارة، وتتبدى في نهايته بقعة من الضوء، سرعان ما تتكشف عن حانوت سجائر. ونقف في المدخل الذي تسده فاترينة كبيرة عالية، وألصق وجهي بزجاجها الذي أعتمت بعض أجزائه. وأحدق في علب الحلوى والشيكولاتة، وبجوار رأسي ألمح يد أبي تمتد إلى الجيب العلوي لبنطلونه فتخرج نقودا ثم تدحرجها فوق الزجاج، عند رأسي تماما، ثم نترك الحانوت ونعبر الشارع إلى موقف الترام. وأشعر بالبرد، فألتصق بأبي، ويبسط هو ياقة سترته ليغطي صدره. ونقف وحدنا على رصيف المحطة، ثم يأتي الترام فنصعد إلى العربة الخلفية المكشوفة، وننكمش في ركنها وقد أمسك أبي ركبتي العارية بيده الدافئة. وينطلق الترام في رحلة العودة، ولا نلبث أن نعبر شارع الخليج، ثم ينحرف الترام فجأة إلى اليمين، ويختفي صف المنازل الذي كان يجري معنا على الشمال، وينبسط أمامنا فضاء واسع مظلم أخاف أن أقع فيه، فأتشبث بأبي. وبعد لحظات تألف عيناي الظلام، فأتبين الميدان الكبير وكتلة الجامع وسطه، ويدور الترام حول الجامع ونتخطى سينما مغلقة كنا نذهب إليها في الصيف مع أمي، ثم نندفع في شارع الظاهر المليء بالأشجار، وأسند رأسي على الحاجز الخشبي لأستمتع بسرعته الخارقة هنا، وألمح أبي يغلق عينيه في مواجهة الهواء الذي يهاجمنا بعنف.»
ومشيت مع الترام حتى الكنيسة، ودخلت الشارع المجاور لها، وكان مزدحما مليئا بالضجيج. وانتهى الشارع، وانحرفت إلى اليمين، كان البيت الذي أذكره عاليا جدا، له بلكونات خشبية عريضة، ألقت أمي بنفسها من إحداها ذات مرة، فسقطت في البلكونة التالية. وطفت بعيني بين البيوت، كانت كلها واطئة، لكن واحدا منها فقط كانت له بلكونات خشبية، وقلت لا بد أن يكون هو، فاقتربت منه في بطء. كانت البلكونات صغيرة والمدخل ضيقا، والمدخل الذي أذكره عريض. واجتزت المدخل وصعدت السلم في بطء، وانتهيت من السلم بأسرع مما توقعت، وكانت هناك حجرة صغيرة في قمته. طرقت الباب ، وسمعت صوتا نسائيا يقول: ادخل. ودفعت الباب، ووقفت في المدخل. كانت هناك ثلاث سيدات متشحات بالسواد تربعن على سرير في الركن، وقامت واحدة منهن وأسرعت ناحيتي وهي تقول: مين؟ وعرفت فيها جدتي، وقلت لها اسمي في صوت خافت، فاحتضنتني وقبلتني في خدي، وقالت: اجلس. وجلست على مقعد خشبي في مدخل الحجرة، وأشارت جدتي إلى أصغر السيدتين وقالت: هذه خالتك. وتقدمت خالتي مني وقبلتني في خدي. وقالت جدتي: وهذه خالتي أنا. وأشارت إلى السيدة الأخرى. وقمت، وحملت المقعد، واقتربت منهن، ثم وضعته بجوار السرير وجلست فوقه. وقالت خالة جدتي: مسير الحي يتلاقى. وقالت جدتي: ساعة ما شفتك حسيت .. وقالت خالتي: لسه كنا بنقول يمكن بنقابلهم في الأتوبيس من غير ما نعرفهم. وتناولت جدتي الترانزيستور وقالت: جاء ميعاد الرواية. وأعلن صوت رصين في الراديو عن إحدى حلقات الشبح الأسود. وبدأت الحلقة بصبي يسأل في صوت باك: كيف يستطيع الحياة بعد أن علم أن أباه هو القاتل. وجلست أستمع في صمت، وأبصارهن جميعا معلقة بالراديو. ومضت ربع ساعة، وانتهت الحلقة، وقامت جدتي لتصلي. وجاء أطفال صغار، وقالت لهم خالتي: هذا ابن خالتكم الله يرحمها. ونظرت إلي بطرف عينها، ولم أتكلم. كنت أريد الآن أن أعرف متى ماتت أمي على وجه التحديد وأين. وفرغت جدتي من الصلاة، وجاءت فجلست بجواري، قلت لها: متى ماتت أمي بالضبط؟ وقالت: غدا يكتمل أول أسبوع عليها. وقلت: أين، قالت: عند أبيها. وأشرت إلى رأسي وقلت: وكيف حالها؟ وقالت خالة جدتي: كانت تقرأ الصحف وتتحدث عن كل شيء أحسن منا، وتتنبأ بكل ما يحدث، ولم تكن تثور. وقالت جدتي: ثم مرضت فجأة ورفضت أن يراها الطبيب، أو أن تأخذ دواء ما، وأخذت تهزل شيئا فشيئا، ثم امتنعت عن الطعام نهائيا. وقالت خالتي: وفي آخر يوم طلبت كوب ماء، وعندما شربته سقطت ميتة، وتطلعت في ساعتي، كان موعد العسكري يقترب، وقمت واقفا ، وقلت يجب أن أذهب الآن. وودعتهن، ونزلت السلم، وغادرت البيت، واخترقت الشوارع الجانبية حتى ميدان رمسيس، ثم اتجهت إلى محطة المترو.
مصر الجديدة
1965م
الثعبان
Shafi da ba'a sani ba