فقال الملك وهو يضحك ضحكا مرا ويلين للقوة التي لم يستطع لها ردا: «إنما أنت يا دي فو ممرض غشوم، ولكنك محب للملك، وإني لأظن أن تقية الممرض تليق بمحياك الخافض كما تليق بي تقية الطفل، وإنا لنصلح أن نكون رضيعا ومرضعته يروع بهما البنات.»
فأجاب دي فو: «كنا في زماننا نروع الرجال يا سيدي، وإني لآمل أن نعيش حتى نروعهم مرة ثانية. ما نوبة حمى حتى لا نستطيع أن نحتملها بصبر جميل كي نخلص منها في سهولة ويسر؟!»
فتعجب رتشارد وأجاب مندفعا: «نوبة حمى! قد ترى - وأنت غير مخطئ فيما ترى - أنها ليست إلا نوبة حمى حلت بي، ولكن أتظنها كذلك مع الأمراء المسيحيين قاطبة، مع فيليب ملك فرنسا، ومع ذلك النمساوي البليد، ومع رجل منتسرا، ومع الإسبتارية، ورجال المعبد؟ ماذا عسى أن تكون مع هؤلاء جميعا؟ استمع إلي أخبرك، إنما هي فالج بارد وفتور مميت، إنما هي مرض يمنعهم عن الكلام والحركة، هي قرحة تأكل كل ما في قلوبهم من نبل وفروسية وفضيلة، وتجعل منهم خونة لكل عهد نبيل يقسم الفوارس على حفظه، وتجعلهم لا يأبهون لذكراهم ولا يذكرون الله.»
فقال دي فو: «وحق السماء لتهونن على نفسك يا مولاي، وحذار أن يسمعك أحد خارج هذا السرادق حيث تجري على الألسنة أمثال هذه الأحأديث بين عامة الجند، تولد الشقاق والنزاع في صفوف المسيحيين. واعلم أن مرضك يحول دون مواصلتهم ما شرعوا فيه، وإذا أمكن أن يتحرك المنجنيق بغير لولب أو رافع، تحرك جيش المسيحيين بغير الملك رتشارد.»
فقال رتشارد: «أنت تداهنني يا دي فو.» ولكنه مع ذلك أحس بأثر الثناء وقوته، فمال برأسه إلى الوسادة وهو يحاول جهده أن يستقر، محاولة لم يبدها من قبل، ولكن توماس دي فو لم يكن من ندماء الملوك، وقد اندفعت إلى شفتيه عبارة الثناء التي فاه بها من تلقاء ذاتها، ولم يعرف كيف يواصل هذا الحديث المعسول، حتى يروي هذه الرغبة الدفينة التي أثارها، ويشبعها؛ فلزم الصمت حتى سأله الملك محتدا بعد أن استرسل في تأملاته الكئيبة وقال: «يا إلهي! هذا حديث شهي سائغ لرجل مريض، ولكن كيف أن عصبة من الملوك، وجمعا من الأشراف، وحشدا من فرسان أوروبا بأسرها، تخور قواهم من أجل رجل واحد قد وهن، حتى وإن يكن هذا الرجل هو ملك إنجلترا؟ ولم يوقف مرض رتشارد أو موت رتشارد مسير ثلاثين ألف رجل، كلهم كمثله بسالة وإقداما؟ أفئن خر زعيم الأياييل صريعا تشتت القطيع لمصرعه؟ إذا أصاب البازي كبير الكراكي تقدم غيره الرهط يتصدره. لماذا إذن لا تجتمع القوى وتنتخب من بينها رجلا تعهد إليه بقيادة الصفوف؟»
فأجاب دي فو قائلا: «وايم الحق لقد نما إلي أن القادة الملوك قد عقدوا المجامع يتشاورون في مثل هذا الغرض، ولعل هذا يرضي جلالتكم.»
فصاح رتشارد متعجبا، وقد تحركت الغيرة في نفسه وتوجه بنزق عقله وجهة أخرى وقال: «ها! إذن لقد نسيني أحلافي قبل أن أتناول العشاء الرباني الأخير؟ أفيحسبونني قد قضيت؟ ولكن، كلا! كلا! لقد صدقوا؛ ومن هذا الذي وقع عليه اختيارهم ليكون لجيش المسيحيين قائدا وزعيما؟»
فأجاب دي فو: «الرفعة والعزة تشيران إلى ملك فرنسا.»
فأجاب ملك الإنجليز: «أي نعم، فيليب ملك فرنسا ونافارا، ونيس منت جوا، صاحب الجلالة المسيحية العظمى! يا لها من كلمات تمتلئ بها الأشداق! ولكن هناك خطرا واحدا أخشاه، وذلك أن يتخذ شعاره «إلى الخلف» لا «إلى الأمام» ويعود بنا إلى باريس بدلا من أن يتقدم بنا إلى بيت المقدس؛ فلقد علمته حكمته السياسية حتى الآن أن الجور على أمراء الإقطاع، وسلب حلفائه أجدى له من مقاتلة الأتراك في سبيل القبر المقدس.»
فقال دي فو: «وقد يختارون أرشيدوق النمسا.» «ماذا تقول! ألأنه ضخم الجسم، كبير الحجم، مثلك يا توماس؟ نعم إنه قرينك في الخرق والغباء، ولكنه ليس كمثلك سهلا لا يبالي بالمخاطر، مستهترا لا يأبه للضر والأذى، صدقني أن النمسا ليس لها في هذه الكتلة اللحمية من دبيب الحياة إلا بمقدار ما في الزنبور الصاخب من جرأة، أو العصفور الصغير من إقدام، تبا له تبا! أفيكون قائد الفرسان إلى عمل مجيد! أعطه إبريقا من نبيذ الرين يحتسيه هو ورجاله الأدنياء من قتلة الدببة ورماة الرماح.»
Shafi da ba'a sani ba