202

حصار دمشق

وفي صباح اليوم التالي دعا فيليب ملك فرنسا رتشارد إلى لقائه، ولما التقيا أبلغ فيليب رتشارد بعد ديباجة طويلة من التقدير السامي لأخيه ملك إنجلترا، وفي عبارة غاية في الرقة، ولكنها جد صريحة لا يخطئ معناها السامع، أبلغه بعزمه المؤكد على عودته إلى أوروبا، وإلى شئون مملكته، لأنه يئس كل اليأس من النجاح في الغاية مما شرعوا فيه بعدما تضعضعت قواهم ودب النزاع بين صفوفهم، وعارضه رتشارد ولكن دون جدوى. ولما انتهيا من المقابلة، تلقى رتشارد بغير دهشة إخطارا من دوق النمسا وكثير غيره من الأمراء، يعلنون فيه عزما كعزم فيليب، وبعبارة ليس فيها شيء من التهوين، وقد عزوا ارتدادهم عن قضية الصليب، إلى أطماع رتشارد المفرطة وسيطرته وتحكمه؛ فضاع بعد هذا كل رجاء في متابعة القتال مع الأمل في الفوز بالنصر آخر الأمر، وتحدر الدمع المرير من رتشارد على خيبة آماله في الظفر والمجد، ولكنه تعزى قليلا حينما ذكر أن الفشل يرجع بعضه إلى المزايا التي منحها خصومه بسجيته المتعجلة وقلة رويته.

فقال لدي فو وهو في مرارة غضبه وحنقه: «إنهم ما كانوا ليجسروا على هجران أبي هكذا، وما كان العالم المسيحي يصدق أنهم يلفظون هذا القذف في وجه ملك حكيم مثله. أما الآن - وما أشد غفلتي! - فإني لم أيسر لهم الحجة لهجراني فحسب، بل لقد أعطيتهم كذلك سببا لإسناد الملامة على هذا الشقاق إلى نقائصي وعيوبي.»

وكانت هذه الخواطر شديدة الإيلام على نفس الملك حتى أن دي فو استبشر حينما وصل من صلاح الدين سفير حول تفكيره إلى مجرى آخر.

هذا الرسول الجديد كان أميرا له لدى السلطان احترام كبير، واسمه عبد الله الحاج، وهو ينتسب إلى أسرة كريمة، وكان يلبس عمامة كبيرة خضراء إشارة إلى نسبه، وقد أدى الحج إلى مكة ثلاث مرات فاتصف ب «الحاج»، ولكن عبد الله - رغم هذه المظاهر التي تدل على قداسته - كان في نظر الأعراب نديما يحب القصص المرح، وينزع عن نفسه الرزانة إلى حد يجترع معه كأس الخمر - وهو يطفح بشرا - إذا ما تخفى تخفيا يكفل له كتمان الفضيحة. وكان إلى ذلك سياسيا أفاد صلاح الدين من كفاءته في مفاوضات عدة مع الأمراء المسيحيين، وبخاصة مع رتشارد الذي كان يعرف «الحاج» معرفة شخصية ويستظرفه . وما إن علم رتشارد من رسول السلطان بإذعانه عن طيب خاطر لتقديم ميدان للنزال على أرض محايدة، ولقيادته كل من أراد أن يشهد المبارزة آمنا إلى هناك، مقدما نفسه ضمانا لصدقه، حتى امتلأ بالحياة، ونسي آماله المحطمة، وإيذان العصبة المسيحية بالانحلال، واسترسل في البحث الممتع الذي يسبق النزال في ميدان المبارزة.

وضرب المكان الذي يعرف ب «درة الصحراء» ملتقى للنضال، لأنه يكاد يتوسط بين معسكر المسيحيين ومعسكر الأعراب، واتفق على أن يظهر كنراد منتسرا المتهم ومؤيداه أرشدوق النمسا وكبير رجال المعبد هناك في اليوم الذي حدد للمبارزة، ومعهم مائة من الأتباع المسلحين ليس غير، وأن يحضر رتشارد ملك إنجلترا وأخوه سولزبري الذي يؤيد الاتهام ومعهما هذا العدد عينه من الرجال لحماية بطل الملك، وأن يأتي السلطان ومعه حرس من خمسمائة من خيار الأتباع، وهي فرقة لا ترجح - رغم عديدها - المائتي مسيحي من رماة الرماح. أما ذوو المكانة من الرجال الذين يختارهم أي الفريقين للدعوة لمشاهدة النزال، فكان عليهم ألا يصطحبوا سلاحا غير سيوفهم، وأن يأتوا بغير دروع للدفاع. وتعهد السلطان بإعداد الأماكن وشهي الطعام من كل لون لكل من يحضر هذا الحفل المهيب، وقد عبر في رسائله بكل رقة عن السرور الذي يرتقبه من الأمل في مقابلة الملك رتشارد مقابلة شخصية سلمية، وعن رغبته الشديدة في أن يجعل استقباله لائقا بقدر ما يستطيع.

وبعدما تم التمهيد، وعلم بذلك المتهم وأعوانه، دخل عبد الله الحاج في مقابلة خاصة استمع فيها لأغاني بلندل وانشرح لها صدره، وقد أخفى عن الأبصار أول الأمر عمامته الخضراء بكل عناية، واستبدلها بتقية إغريقية، ثم رد على موسيقى المنشد النورماندية بأغنية شراب فارسية، واجترع كأسا من نبيذ قبرص حتى ثمالتها كي يثبت أن فعاله تتفق ومبادئه. وفي اليوم التالي ظهر بمظهر الرصانة والصحو كأنه «مرجلب» الذي لم يشرب سوى الماء، وانحنى بجبينه إلى الأرض لدى موطئ قدمي صلاح الدين وسرد للسلطان بيانا عن سفارته.

وفي اليوم الذي كان يسبق اليوم المحدد للنزال فصل كنراد وصحابه عند مطلع النهار يقصدون المكان المعين، وترك رتشارد المعسكر في ذات الوقت ولنفس الغرض، ولكنه سلك في رحيله طريقا أخرى كما اتفق من قبل، وهي حيطة رؤيت ضرورتها لمنع إمكان شبوب النزاع بين أتباعهم المسلحين.

ولم يكن الملك الصالح نفسه على أهبة للقتال مع أي كان، وما كان ليزيد من سروره وتطلعه إلى المبارزة الدامية المستقتلة في ساحة النزال إلا أن يكون بشخصه الملكي أحد المتبارزين. واسترد بعض رضا النفس ثانية، وهدأت ثائرته حتى نحو كنراد منتسرا، وسار يترنح يمينا ويسارا، خفيف السلاح، نفيس اللباس، منشرحا كالعريس ليلة زفافه، إلى جوار محفة الملكة برنجاريا، مشيرا لها إلى المناظر العديدة التي كانا يتخللانها، ومدخلا بالقصص والغناء بعض البهجة على صدر القفر المجدب القاحل, وكانت الطريق التي سلكت الملكة من قبل في حجها إلى عين جدة على الجانب الآخر من سلسلة الجبال، فكان السيدات غريبات على هذا الجانب البادي من الصحراء، وكانت برنجاريا تعلم ميل زوجها حق الميل، وتحاول أن تظهر حبها لما كان يسره من قول أو غناء، إلا أنها - رغم ذلك - لم يسعها إلا أن تسترسل في بعض مخاوف نسوية، حينما ألفت نفسها في قفر بلقع مع قليل من الخفراء كانوا يبدون كذرة متحركة على صدر السهل، وحينما أدركت كذلك أنهم على مقربة من معسكر صلاح الدين، وأن هذا الوثني قد تبلغ به الخيانة أن ينتهز هذه الفرصة فيبعث بجيش قوي من فرسانه خفاف الحركة يباغتهم ويسحقهم في لحظة واحدة. ولكنها ما إن ألمعت إلى رتشارد بهذه الريب حتى درأها غاضبا مزدريا وقال: «إنه لشر من نكران الجميل أن نرتاب في صدق نية السلطان الكريم.»

ولكن هذه المخاوف والشكوك عادت أكثر من مرة لا إلى عقل الملكة الهيوب وحده، ولكن إلى نفس أديث بلانتاجنت كذلك، وهي أشد ثباتا وأكثر صراحة، ولم تبلغ بها الثقة في إخلاص المسلمين مبلغا تطمئن معه إلى هذا الحد، إن هي باتت في قبضتهم، ولو كان ما حواليها من أرض يباب يردد صدى النداء «بالله» على حين غرة ، ثم تنقض عليهم عصابة من فرسان العرب كما تنقض النسور على الفريسة، لكانت دهشتها من ذلك أقل من رعبها بكثير. ولم تفتر هذه الشكوك حينما أقبل المساء، ورأوا فارسا عربيا - يتميز بعمامته ورمحه الطويل - يحوم على حافة جبل ناتئ كالصقر يحلق في الهواء، وقد انطلق في الحال عندما ظهر الملك وأتباعه انطلاق الطائر حينما يشق الريح ويختفي وراء الأفق.

Shafi da ba'a sani ba