1
وقد عرضوا ذلك على أهل الشام وأهل اليونان، وهم قوم غير محاربين؛ ولكنهم حينما التحموا بمسيحيي الغرب - الذين كانت قلوبهم تشتعل حماسة للدين، لا تقل عن حماسة العرب أنفسهم، والذين يتصفون بالإقدام والشجاعة التي لا تقهر، والذين إذا طعنوا أصابوا - أخذوا عنهم شيئا من أخلاقهم، وحذوا حذوهم خاصة في تقاليد الفروسية الكريمة التي كانت متأصلة في النفوس تأصلا استهوى عقول أولئك القوم الغزاة الشامخين؛ وهذا فضلا عن أن العرب كان لهم سجالهم، وكانت لهم ألعابهم في عرض الفروسية، بل وكان منهم «الفوارس» أو ما يشبههم في علو المرتبة، وكانوا إلى ذلك يراعون حدود دينهم مراعاة يخجل من دقتها أناس كأهل الغرب، لا يخلون بالهدنة إذا عقدوها بينهم وبين أمة غير أمتهم، أو بين بعضهم وبعض؛ وهكذا كانت الحرب - على أنها ربما كانت في ذاتها أعظم الشرور - تهيئ الفرصة لإظهار روح الإخلاص، وكرم الخلق والرأفة، بل وتبادل الود بين القلوب، مما لا يتوفر في فترات الهدوء، حينما تكمن في الصدور زمنا إحن الرجال الذين لاقوا المهانة، أو اشتبكوا في نزاع لم ينحسم في حينه وبلغ بهم نكد الطالع أن وقعوا فريسة لتلك الإحن.
أحس المسيحي والعربي بهذه العواطف الرقيقة التي تخفف من وطأة الحروب، وانطلقا بعدما سعى كل منهما جهده كي يقضي على أخيه، وسارا راكبين بخطى وئيدة نحو العين التي ينبت حولها النخيل، والتي كان يقصدها فارس النمر الرابض حينما باغته في مسيره ذلك العدو، الذي جاءه مسارعا والشرر يتطاير من عينيه، واسترسل كلاهما زمنا، كل في تأملاته، يتنفس الصعداء بعد نضال كاد أن يقضي على أحدهما أو كليهما؛ وكأن جواديهما لم يكونا أقل منهما استمتاعا بذلك الهدوء الذي ساد بينهما. أما جواد العربي فلم تبد عليه علامات الإعياء كما بدت على جواد الفارس الأوروبي، رغم أنه أجهد بالحركة إجهادا أوسع مدى وأشد عنفا، وتصبب العرق من أضلع جواد الفارس الغربي، بينما كان جواد العربي الكريم قد جف عرقه أثناء مسيره في تلك الفترة الهادئة، ولم يبق منه إلا أثر ضئيل كان يبدو على عنانه وعدته؛ وكانت الأرض التي وطئها الجوادان لينة، فازداد جواد المسيحي شقاء على شقاء؛ إذ إنه كان يئن تحت عبء عدته الثقيلة وعبء راكبه؛ فاضطر الفارس أن يقفز من فوقه ويقوده في تلك الأرض المتربة التي يغطيها الغرين، والتي أحرقتها الشمس فصيرتها أشد لينا من أدق الرمال؛ وهكذا استرد الجواد نشاطه على حساب صاحبه، لأن الفارس، لكثرة ما عليه من لبس الحديد، كان يتعثر في حذائه الصلب في كل خطوة، وهو يمشي فوق تلك الأرض الرقيقة التي لا تحتمل المقاومة.
ومذ انعقدت الهدنة بين العربي والمسيحي لم ينبس أحدهما ببنت شفة حتى قال العربي لصاحبه: «نعم ما فعلت، فإن جوادك القوي يستحق منك العناية، ولكن ماذا أنت فاعل به في الصحراء وهو يسيخ بأقدامه في كل خطوة، كأنه يريد أن يغرسها في باطن الأرض كجذور النخيل؟»
فأجاب الفارس المسيحي، وهو غير مطمئن إلى نغمة السخرية التي تحدث بها العربي عن جواده المحبوب، وقال: «حقا ما قلت أيها العربي، ولقد أصبت بمقدار ما لديك من علم وملاحظة، ولكن اعلم أن جوادي هذا قد حملني قبل اليوم في بلادي فوق بحيرة لا تقل سعة عن تلك التي خلفناها وراءنا، ومع ذلك، فلم تبتل منه شعرة واحدة فوق حوافره.»
فنظر إليه العربي مبديا شيئا من الدهشة على قدر ما يسمح به تأدبه، وارتسمت على شفتيه ابتسامة ساخرة خفيفة لم تكد تهز شاربه الكثيف العريض الذي كان يغطي شفته العليا؛ ولكنه سرعان ما استرد نظرة الجد التي لم تفارقه، ثم قال: «حقا ما قيل، إذا أصخت إلى الفرنجي لم تسمع إلا هراء.»
فأجاب الصليبي: «ليس هذا من حسن الذوق في شيء أيها المنافق، أفترتاب في كلمة ينطق بها فارس نال مرتبة الشرف؟ تالله لولا أنك تصدر عن جهل لا عن سوء طوية، لكانت هذه الآونة آخر ما بيننا من مهادنة، ولما يمض عليها إلا أمد قصير؛ أفتظن أنني أكذبك إذ أقول لك إنني أحد خمسمائة فارس مدججين بالسلاح؛ قطعت بجوادي الفراسخ فوق ماء كالبلور صلابة، ولكنه أقل من البلور هشاشة عشر مرات؟»
فأجاب المسلم قائلا: «ماذا تقول؟ إن ذلك البحر الداخلي الذي تشير إليه له خصيصة عجيبة، وذلك أن الله قد صب عليه جام غضبه، فهو لا يحتمل جسما يغيض في موجه، إنما يقذفه بعيدا ويرمي به على شطآنه؛ ومع ذلك فإن هذا البحر الميت عينه، بل والمحيطات السبعة التي تحوط الأرض، لا تحتمل وقع أقدام الخيل على سطحها أكثر مما احتمل البحر الأحمر مسير فرعون وجنوده.»
فأجاب الفارس المسيحي: «هذا هو الحق فيما تعلم أيها العربي؛ ولكن صدقني، إنني لا أحدثك حديث خرافة؛ في مناخكم هذا تتحول الأرض بفعل الحرارة إلى شيء كالماء غير مستقر؛ أما في بلادنا فالبرودة كثيرا ما تحول الماء إلى جسم كالصخر في صلابته؛ ولكن دعنا من هذا، فإن ذكر البحار في الشتاء، بهدوئها وصفائها ونقاء زرقتها، ليزايد من مفازع هذه الصحراء الحارة، حيث يخيل لي أن الهواء الذي نستنشقه إن هو إلا بخار يتصاعد من أتون، ماؤه يغلي كالحميم.»
فالتفت العربي حينئذ إلى صاحبه متنبها، وكأنه يريد أن يستوضحه ما يعني من قوله هذا، الذي ما إخال إلا أنه قد نزل من نفسه منزل السر الغامض أو الخداع؛ ولكنه اطمأن أخيرا إلى كلام رفيقه وعرف كيف يتلقاه فقال: «إنك من قوم يحبون الضحك، تتحدثون بالمستحيل وبما لم يقع في الحسبان، مازحين مع بعضكم بعضا أو مع غيركم؛ أنت أحد فرسان فرنسا الذين يتبارون في الخيال وأعمال الجن لاهين لاعبين، ولقد أخطأت يا صديقي إذ عارضتك في حديثك، فإن الزهو بالباطل أقرب إلى طبيعة نفسك من رواية الحق.»
Shafi da ba'a sani ba