كما كانت في عهد موسى. وتستطيع أن تسمي ذلك اليابس «ميتا» كذلك، كما تسمي البحر، فهو لا ينبت زرعا ولا شبه زرع، والهواء ذاته يخلو من كل ذات جناح، كأن الطيور قد نفرت من رائحة القار والكبريت، التي كانت تبعثها الشمس المحرقة من مياه البحيرة، فتنتشر في سحاب متكاثف كثيرا ما ينعقد على شكل الميازيب، كما كانت كسف من المادة الكبريتية الغرينية، التي تعرف بالنفط، تطفو مسترخية فوق الأمواج الهادئة الموحشة، وتمد تلك السحب المتدفعة بأبخرة جديدة، فتشهد شهادة قوية على صدق قصة موسى.
على هذا المكان المهجور أشرقت الشمس تتوهج توهجا لا يكاد يحتمل، وكأن كل كائن حي قد توارى عن أشعتها، اللهم إلا ذلك الشبح الذي كان يسير وحده يشق الرمال السوافي بخطى وئيدة، ويبدو كأنه المخلوق الفريد الذي يتنفس على سطح هذا الوادي الفسيح؛ وكان لباس هذا الفارس الراكب ومعدات جواده لا تليق البتة بالمسافر في مثل تلك البلاد. كان يرتدي سترة من حلق الحديد، طويلة أكمامها، وقفازا براقا، وصدرة من الحديد الصلب؛ ولم يكتف بهذا التسليح، بل كان يعلق كذلك على رقبته درعا ثلاثيا، ويحمل على رأسه خوذة من قضبان الصلب. يغطيها بقلنسوة وبنيقة من الحديد، يلف بها حلقه وكتفيه، وتشغل ما بين لباس رأسه وسترته؛ وكان يستر أطرافه السفلى، كما كان يستر جذعه، بحلق من الحديد سهل الالتواء. وهكذا كان يقي ساقيه وفخذيه، بينما كان يلبس على قدميه حذاء من المعدن اللامع، ينسجم مع شكله مع القفاز، وعلى أحد جانبيه سيف طويل عريض. مستقيم ذو حدين، له مقبض على هيئة الصليب، يتسق وخنجر غليظ على جنبه الآخر؛ وكان هذا الفارس يحمل كذلك رمحا طويلا، رأسه من الصلب، يرتكز على سرجه، ويستقر أحد طرفيه على ركابه، وهذا الرمح هو سلاحه السديد، يهزه إلى الخلف وهو ممتط صهوة الجواد، فيعرض العلم الصغير المعلق بطرفه، ويرفرف العلم مع النسيم العليل، أو يتدلى في السكون المميت. وفوق هذا الزي العسكري المعقد، كان صاحبنا يرتدي عباءة من القماش المزركش، نحل وبرها وبدت عليها آثار القدم، ولكنها كانت مع ذلك عظيمة النفع، إذ كانت تحمي سلاحه من أشعة الشمس، ولولا ذلك لشق عليه حمل السلاح من حرارة الشمس. وفي هذه العباءة كان الفارس يعلق هنا وهناك أسلحة تشوه ظاهرها، ومنها سلاح «النمر الرابض» وعليه هذا الشعار «إنني نائم فلا توقظني»، وعلى الدرع آثار من هذه العبارة عينها، ولكنها كادت تمحى من كثرة الطعان؛ أما خوذته الأسطوانية الثقيلة فكان سطحها مستويا، لا يجمله زخرف أو ريش، وكأن الصليبيين من أهل الشمال - باحتفاظهم بهذا السلاح القوي يدفعون به عن أنفسهم - كانوا يتحدون طبيعة المناخ والإقليم الذي جاءوا ينشبون فيه القتال.
ولم تكن عدة الجواد أقل صلابة أو قوة من زي راكبه، فلقد كان يحمل سرجا ثقيلا عليه طلاء من الصلب، يلتقي في مقدمته بدرع من الحديد، وفي مؤخرته سلاح يتقي به ويستر به خاصرته؛ ويتعلق بالسرج شيء كالفأس أو المطرقة أو العصا، والزمام موثوق بما يشبه السلاسل، ومقدمة العنان من الصلب المطلي، وبه خروق يطل منها الجواد بعينيه وأنفه، وفي وسطه شوكة قصيرة حادة، تبرز من جبهة الجواد كقرن الثور الوحشي المعروف في قصص الخيال.
ولكن هذا الفارس وجواده المقدام كانا قد تعودا حمل هذا السلاح الثقيل، حتى أضحت هذه العادة لهما طبيعة ثانية. نعم إن عددا عديدا من المحاربين من أهل الغرب، الذين خفوا إلى فلسطين، قد هلكوا قبل أن يعتادوا هذا الجو الملتهب، ولكن هناك قوما آخرين، بات هذا الجو خفيفا عليهم، مألوفا لديهم، ومن بين هذا العدد المجدود كان هذا الخيال، الذي كان حينئذ يقطع حدود البحر الميت فريدا؛ فإن الطبيعة التي صبت أعضاءه في قالب من القوة غير مألوف، وأعدته لأن يرتدي تلك السترة المصنوعة من حلق الحديد دون عناء - وكأن عيونها قد حيكت من نسيج العنكبوت - قد جادت عليه كذلك ببنية قوية كأطرافه، تتحدى كل تقلبات المناخ، وتقف دون الكلال وشظف العيش على مختلف الضروب؛ وكان له طبع يتصف بعض الشيء ببعض صفاته هيكله الجثماني، فكما أن لجسمه قوة عظيمة وقدرة على الاحتمال ممزوجة بالقدرة على الإجهاد العنيف، فإن في طبعه - تحت ستار الهدوء والاستقرار - الشيء الكثير من الحرارة والحماسة لحب المجد، وهما من أبرز صفات أبناء النورمان المعروفين، التي جعلتهم ملوكا في كل زاوية من زوايا أوروبا شهروا فيها سيوفهم الباترة.
ولكن الجد لم يجد بمثل هذا الجزاء الوافر
3
على كل أبناء هذا الجنس، ولم يكن حظ فارسنا هذا الفريد إبان السنتين اللتين قضاهما غازيا في فلسطين غير ذكر في هذه الدنيا، ومزايا روحية نشأ على الاعتقاد فيها؛ وكان حظه الضئيل من المال في ذلك الوقت قد تبدد، ولكنه - رغم ذلك - لم يعمد إلى الوسائل التي كان يلجأ إليها غيره من أتباع الصليبيين، الذين كانوا يعوضون ما نقص من أموالهم على حساب أهل فلسطين، فلم يبتز العطايا من الأهالي البائسين كي يطمئنهم على أملاكهم حينما كانوا يشتبكون مع العرب في الحروب، ولم يحاول أن يقتنص الفرصة ويجمع الثروة بفرض الجزية على الأسرى. وكانت تتبعه حاشية ضئيلة من مواطنيه، أخذت تتناقص شيئا فشيئا كلما قلت الموارد الضرورية للعيش، ولم يبق له إلا خادم واحد، كان إذ ذاك طريح الفراش، لا يستطيع أن يقوم بخدمة سيده، الذي كان يسير - كما رأينا - وحيدا فريدا. ولكن فارسنا الصليبي لم يأبه لذلك كثيرا، فلقد تعود أن يرى في مهنده الكريم خير حارس، وفي عقيدته في الله خير رفيق.
ولكن للطبيعة ضروراتها، فهي تتطلب الراحة والغذاء لكل جسم - حتى وإن كان من الحديد - ولكل طبع، حتى وإن صيغ من الصبر كما صيغ هذا الفارس، «فارس النمر الرابض»؛ ففي الظهيرة، والبحر الميت لما يزل بعيدا عن يمينه، استبشر الفارس بمرأى نخلتين أو ثلاث نمت على حافة بئر أراد أن يتخذه محطا له في منتصف ذلك النهار؛ وكذلك جواده الكريم، بعد أن كان يسير قدما بصبر وطيد كصبر صاحبه، رفع الآن رأسه، ومد أنفه، وسارع في خببه، كأنه اشتم على بعد ماء الحياة، حيث الدعة والانتعاش، ولكن الله قدر للجواد وراكبه أن يصيبهما بالعناء، ويحوطهما بالمخاطر، قبل أن يبلغا ذلك المكان الرغيب.
وذلك أن فارس النمر الرابض، الذي لم يفتأ يحدق، ويعير التفاته إلى جماعة النخل النائية، بدا له كأن شبحا يتحرك خلالها؛ ثم انفصل ذلك الشبح النائي عن تلك الأشجار التي كانت تخفي مسيره بعض الخفاء، وتقدم نحو الفارس مسارعا، وتبدى عن خيال على ظهر الجواد. ولما اقترب دلت عمامته وحربته الطويلة وقفطانه الأخضر الذي يرفرف مع الريح، على أنه فارس عربي؛ ويقول المثل الشرقي: «لا يلاقي الرجل صديقا في الصحراء.» ولم يأبه الصليبي البتة إن كان ذلك الكافر - وقد أقبل على حصان عداء، كأنه ولد على جناح نسر - عدوا أو صديقا، بل لعله، وهو بطل من الأبطال، الذين أقسموا يمين الولاء للصليب، ود لو أنه كان عدوا، فاستل رمحه من سرجه وأمسكه بيمينه ولبث به، وسنانه مرفوع إلى نصفه؛ وجمع العنان بيساره، واستحث همة الجواد بمهمازه، واستعد للقاء هذا الغريب بنفس مطمئنة، لا يملكها إلا رجل حداه الظفر في كثير من المعارك.
وأقبل العربي يعدو، كما يعدو الفرسان من بني جنسه، مالكا زمام جواده بأطرافه وبكل جسمه، غير معتمد على العنان الذي أرسله مرتخيا في يسراه بحيث يتسنى له أن يحرك درعه المستدير الرقيق المصنوع من جلد وحيد القرن المحلى بخيوط من الفضة، الذي كان يحمله على ذراعه ويلوح به كأنه يريد أن يصد به، على خفته، ما قد يصوبه نحوه ذلك الفارس الغربي من طعنات مروعة. أما نصله الطويل فلم يكن مسددا ولا مستقرا كنصل عدوه، وإنما كان يقبض عليه من سوطه بيمينه، ويهز به فوق رأسه على قيد ذراع. وهرول هذا الفارس العربي نحو عدوه، ولما دنا منه، كان يرتقب من فارس النمر أن يهم بجواده للنضال، ولكن الفارس المسيحي، وهو جد عليم بعادات جنود الشرق، لم يرض أن ينهك جواده الكريم بعناء لا طائل تحته، فوقف بغتة، وهو على يقين أن في سلاحه وفي عدة جوادة القوي ما يكفل له الغلبة - دون أن يسارع في عدوه - على العدو إن تقدم فعلا للنضال. وأحس الفارس العربي باحتمال هذه العاقبة، وأدركها كما أدركها زميله، فاقترب من المسيحي حتى لم يكن بينهما إلا قاب قوسين أو أدنى، واستدار بجواده يسارا بحذق لا يفوقه حذق، ودار حول عدوه دورتين، فالتفت الفارس الغربي وهو في مكانه، وجابه عدوه فخيب رجاءه، إذ كان يحاول أن يطعنه من الخلف، وحينئذ ود العربي لو أنه دار بجواده ورجع القهقرى إلى بعد مائة ذراع. ثم حاول الهجوم مرة أخرى وأقبل كالبازي على مالك الحزين، واضطر للمرة الثانية أن يتقهقر دون سجال؛ ثم اقترب ثالثة مهاجما كما هاجم في المرتين السابقتين، فأمسك الفارس المسيحي توا بمطرقته المعلقة بسرجه، وأراد أن ينتهي من هذه المراوغة التي قد ينهكه العدو فيها بحركاته، فصوب المطرقة بيد من حديد، وهدف لا يحيد، إلى رأس العدو الذي لم يخله إلا أميرا أو أرفع من أمير، وأدرك العربي هذه الضربة المروعة التي قصد بها فرفع درعه الرقيق وحال بين المطرقة وبين رأسه، ولكن الضربة كانت شديدة الوقع فهوت بالدرع على عمامته، وقد خففت العمامة من حدة الضربة، ولكن الرجل سقط عن جواده مغلوبا . وقبل أن ينتفع المسيحي من هذا الخذلان، خف عدوه وهب من مصرعه وجذب جواده - وقد خف إلى جواره - وامتطى صهوته دون أن يمس الركاب، واسترد كل ميزة حاول فارس النمر أن يسلبه إياها، ولكن الفارس كان بدوره قد تملك من مطرقته ثانية، فحاول الرجل الشرقي - وقد تذكر قوة عدوه وحذقه في إصابة هدفه - أن يأخذ لنفسه حذرها ويظل بمنأى عن منال المطرقة التي أحس بوقعها منذ حين، وأبان عن رغبته في المقاتلة عن بعد برمي السهام، فدك نصله الطويل في الرمال بعيدا عن ساحة الوغى، وشد بقوة قوسا قصيرة كانت إلى ظهره، ثم ركض بجواده ودار به دورتين أو ثلاثا أوسع مدى من دوراته السالفة، وفي خلالها أطلق النشاب ستا على المسيحي بمهارة لا تخطئ، ولولا زي متين يقي به المسيحي نفسه ما كان له أن ينجو من جراح ستة من طعن السهام، ثم أطلق العربي سهما سابعا فصادف من لباس العدو مكانا كان أقل من غيره صلابة، فسقط المسيحي سقطة شديدة من فوق الجواد. ولشد ما كانت دهشة العربي حينما نزل يتفرس حال صريعه فألفى نفسه على حين غرة في قبضة ذلك الأوروبي، الذي ما لجأ إلى تلك الحيلة إلا لكي يأتي بعدوه تحت مناله؛ ولكن العربي، وهو في هذه القبضة المميتة، استطاع أن ينجو بخفته وسرعة خاطره، فخلص نطاق سيفه من قبضة فارس النمر وأفلت من تلك اليد القاضية، وامتطى جواده الذي كان يرقب حركاته بذكاء كذكاء الإنسان، ثم انصرف؛ ولكنه فقد في هذه المعركة الأخيرة سيفه وجعبة سهامه، وكلاهما معلق بنطاقه الذي اضطر أن يخلفه وراءه، وفقد كذلك عمامته أثناء النضال، فرغبت هذه الخسارة هذا الرجل المسلم في المهادنة، فقارب المسيحي ومد إليه يمناه مسالما لا متهددا.
Shafi da ba'a sani ba