5
لي قبلهم جميعا رأسا حارا، كأني دفعت له ثمنا عاليا، ولآكلن منه التهاما، كأنه فرخ طري، ثم أرى ماذا يفعل الآخرون.» «ونفذ هذا الأمر المروع في حينه، وفي منتصف النهار دعي الضيوف ليغتسلوا على أنغام الموسيقى يعزف بها الخدم، ثم اتخذ الملك له مقعدا، وتبعه كبار ضباط بلاطه، عند المائدة العليا، واصطفت بقية الحشد لدى مائدة طويلة دونه؛ وعلى كساء الموائد وضعت مقادير من الملح على الأبعاد المألوفة، ولم يكن هناك خبز ولا نبيذ ولا ماء، فدهش السفراء لهذا النقص، ولكنهم ما برحوا من الخوف خليين، ولبثوا يرتقبون في صمت تقديم الغداء، وقد أعلنت مقدمه أصوات المزامير والأبواق والدفوف. ولشد ما كان رعبهم وفزعهم حينما رأوا وليمة غير معهودة يقدمها شيخ الحجاب وضباطه، وغلبهم التشوف، فثارت مشاعرهم بالتقزز والاشمئزاز، كما لبثت مخاوفهم مكبوتة فترة من الزمن، ووجهوا نحو الملك أبصارهم، وما تغيرت ملامحه قيد شعرة وهو يبتلع اللقمات متلهفا، كلما شرح الفارس قطعة وقدمها إليه.» «فتغامز
6
الرجال وقالوا إن هذا إلا أخو الشيطان، يقتل رجالنا ويأكلهم كما نرى!» «ثم وجهوا بعد هذا انتباههم مكرهين إلى الرءوس التي قدمت إليهم، وقد تصاعد منها الدخان؛ وأرادوا أن يتعرفوا من ملامح الوجوه المنتفخة المشوهة علائم الشبه بصديق لهم أو قريب حميم، فعرفوا من العبارات التي كانت تصحب الأطباق ما أكد لهم أن هذا الشبه لم يكن وهما ولا خيالا، فعرتهم الكآبة وجلسوا في صمت وجمود يترقبون قضاءهم، كما قضي على بني وطنهم من قبل، بينما كان مضيفهم الضاري، والغضب ملء عينيه، والظرف على شفتيه، يسيء إليهم بالإلحاح في دعوتهم إلى اللهو والمرح؛ وبعد لأي أزيل هذا السماط الأول، وجيء مكانه بلحم الغزال والكراكي، وغيرها مما لذ وطاب، مصحوبا بأطيب الخمور، واعتذر لهم الملك عما فات، وعزاه إلى جهله بذوقهم، وأكد لهم احترامه الديني لأشخاصهم كسفراء، واستعداده لأن يمدهم بمرشد يهديهم في عودتهم وهم آمنون، وكانت هذه المنحة هي كل ما رغبوا إذ ذاك في طلبه.» «ثم قال
7
الملك رتشارد إلى رجل عجوز، امض نحو بلدك إلى سلطانك وخفف من أحزانه، وقل له إنك جئتنا متأخرا، وإنك أخطأت تقدير الزمن فأبطأت، وإنا، قبل أن تأتينا، كنا قد طهينا اللحم، وأعده الرجال ليقدموه لي ولصحابي في منتصف النهار. قل له أن ليس وراء مسعاه من جدوى، حتى وإن حبس عنا طعامنا من خبز وخمر وسمك ولحم وحوت سليمان وثعابين البحر، فإن أحدا منا لن يموت جوعا ما دمنا نستطيع أن نسير إلى الحروب ونقتل الأعراب تقتيلا، فنطهو لحومهم، ونشوي رءوسهم. إني بعربي واحد أستطيع أن أطعم تسعة أو عشرة من خيار رجالي المسيحيين وأشبعهم. إن الملك رتشارد يشهد أن ليس هناك لحم من حجل أو قطقاط أو مالك الحزين أو الإوز العراقي، أو الأبقار والثيرة، أو الأغنام والخنازير، أكثر تغذية للرجل الإنجليزي من رأس العربي، فإنه سمين طري، ورجالي هزيلون نحيلون. ما دام فوق سوريا هذه عربي واحد حي فإنا لن نفكر في اللحوم، فعليه لننقضن سريعا، وكل يوم نأكل منه بقدر ما نستطيع، ولن نعود إلى إنجلترا حتى نأكلهم جميعا واحدا بعد الآخر» (من كتاب «أليس»، «أمثلة من القصص الخيالية الإنجليزية القديمة المنظومة»، الجزء الثاني، صفحة 236).
وربما تشوق القارئ إلى معرفة الظروف التي أدت إلى أن يختلط هذا الخيال الجامح - الذي يعزو أكل اللحوم البشرية إلى ملك إنجلترا - بتاريخ الملك. ويظهر أن المستر «جيمس»، الذي نحن مدينون له بالكثير مما هو عجيب غريب، قد وصل إلى أصل هذه الإشاعة العجيبة.
يقول هذا المؤلف «... وكان مع جيش الصليب كذلك جمهور من الرجال لا عمل لهم إلا الإفلاس، يسيرون حفاة ولا يحملون سلاحا، بل ويسبقون دواب الحمل في المسير، ويعيشون على الجذور والأعشاب، ويظهرون بمظهر تشمئز له النفوس وتشفق منه.» «واعتزم رجل نورماندي كان - كما روى - شريف النسب، ولكنه أضاع جواده فتابع المسير كجندي من المشاة، أن يضع نفسه على رأس هذه الشرذمة من المتشردين الذين رضوا به ملكا عليهم عن طواعية، وبات هؤلاء الرجال يعرفون بين الأعراب باسم «الظافرين» (ويترجمها جويبرت إلى
Trudentes )، وكانوا ينظرون إليهم برعب شديد، لأنهم كانوا جميعا يميلون إلى الاعتقاد بأنهم يعيشون على جثث أعدائهم، وهو نبأ كان يتحقق الحين بعد الآخر، وكان ملك «الظافرين» يعنى بتشجيعه، وهذا الملك المبجل كثيرا ما تعود أن يصف أتباعه واحدا بعد الآخر في خط واحد ضيق، ثم يأمر بالبحث فيما يحملون بحثا دقيقا، خشية أن يكون بحيازتهم ولو قليل من المال، فلا يجدر بهم أن يكونوا من رعيته، وإذا ألفى مع أحدهم دانقا واحدا أبعده في الحال عن مخالطة أبناء قبيله، وأمره بازدراء أن يشتري السلاح ويشترك في القتال.» «وهذه الكتيبة لم تكن بأية حال من عراقيل الجيش، بل لقد كانت خدماتها لا تعد؛ فهم يحملون الأثقال، ويأتون بالكلأ والمئونة والخراج، ويسيرون الآلات وقت الحصار، وفوق كل هذا، كانوا ينشرون الرعب بين الأتراك، وكان هؤلاء يخشون الموت من رماح الفرسان أقل مما يخشون هذا الفناء الشامل تحت أسنان «الظافرين».»
8
Shafi da ba'a sani ba