The State of Islam in Al-Andalus
دولة الإسلام في الأندلس
Mai Buga Littafi
مكتبة الخانجي
Inda aka buga
القاهرة
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: دولة الإسلام في الأندلس (الجزء الأول)
تأليف: محمد عبد الله عنان
العصر الأوَّل - القسم الأوَّل
من الفتح إلى بداية عهد الناصر
_________
الناشر: مكتبة الخانجي بالقاهرة
الطبعة: الرابعة، ١٤١٧ هـ - ١٩٩٧ م
1 / 1
حقوق الطبع محفوظة للناشر
الطبعة الرابعة
١٤١٧ هـ = ١٩٩٧ م
رقم الإيداع: ٨٩٨٨/ ٩٠
الترقيم الدولي: ٤ - ٠٨٢ - ٥٠٥ - ٩٧٧
مطبعة المدني المؤسسة السعودية بمصر ٦٨ شارع العباسية. القاهرة. ت: ٤٨٩٧٨٥١
1 / 2
نموذج من صفحات الجزء المخطوط من تاريخ ابن حيان المحفوظ بمكتبة جامع القرويين بفاس
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
مقدمة
تصدر اليوم الطبعة الرابعة من كتاب " دولة الإسلام في الأندلس "، وقد أتيح لنا بعون الله وتوفيقه، أن نكمل تاريخ الأندلس منذ بدايته إلى نهايته، وأن تظهر عصوره الأربعة على النحو الآتي:
العصر الأول - ويشمل تاريخ فتوح إفريقية والأندلس، وعصر الولاة، ثم تاريخ الدولة الأموية الأندلسية منذ قيامها في ظل الإمارة، ثم قيام الخلافة الأموية، وانحلالها على يد الدولة العامرية، ثم انهيارها وسقوطها، وبدء قيام دول الطوائف الأندلسية: ٢٢ - ٤٥٠ هـ (٦٤٣ - ١٠٥٨ م).
وهذا العصر، هو الذى نقدمه اليوم إلى القارئ في طبعته الجديدة.
العصر الثاني - " دول الطوائف "، ويشمل تاريخ الأندلس منذ قيام دول الطوائف الأندلسية، في أوائل القرن الخامس الهجرى، حتى سقوطها على يد المرابطين في أواخر هذا القرن: ٤٢٥ - ٥٠٢ هـ (١٠٣٣ - ١١٠٨ م).
العصر الثالث - " عصر المرابطين والموحدين في المغرب والأندلس " ويشمل تاريخ هاتين الدولتين المغربيتين العظيمتين، منذ بدايته حتى نهايته، وتاريخ الأندلس الكبرى في ظلهما، ثم انهيارها عقب انهيار سلطان الموحدين فى الأندلس، في أوائل القرن السابع الهجرى: ٥٠٠ - ٦٦٨ هـ (١١٠٦ - ١٢٦٩ م).
العصر الرابع - " نهاية الأندلس وتاريخ العرب المتنصرين "، ويشمل تاريخ مملكة غرناطة آخر دول الإسلام في الأندلس، منذ قيامها حتى سقوطها، ثم تاريخ الأمة الأندلسية المغلوبة تحت نير اسبانيا النصرانية، بعد أن غدت طائفة الموريسكيين أو العرب المتنصرين، وما نزل بها من محن التنصير المغصوب، ومختلف ضروب الاضطهاد المفجعة، حتى إخراجها نهائيا من
1 / 5
الأراضي الإسبانية، وذلك في بداية القرن السابع عشر الميلادى: ٦٣٥ - ١٠١٩ هـ (١٢٣٧ - ١٦١٠ م).
وقد أتيح لنا إلى جانب هذه العصور الأربعة من تاريخ الأندلس، أن نصدر في نفس الوقت مؤلفا خاصا عن الآثار والنقوش الأندلسية الباقية، في شبه الجزيرة الأندلسية، وذلك بعنوان " الآثار الأندلسية الباقية، في اسبانيا والبرتغال ".
وتشغل هذه العصور الأربعة تسعة قرون من حياة الأمة الأندلسية، زاخرة بالأحداث والعبر والمآسي المشجية، لم نأل جهدًا في سردها، وتحليلها، وإسنادها إلى مصادرها الوثيقة.
وقد أنفقت في كتابة هذه العصور الأربعة، من تاريخ الأمة الأندلسية، خمسة وعشرين عامًا، قمت خلالها بست عشرة رحلة في اسبانيا والمغرب، لم أدخر خلالها وسعًا في البحث والتنقيب، وتقصى مختلف المصادر والوثائق، ودراسة المخطوطات العربية، والوثائق القشتالية، في مختلف مواطنها.
ولقد كان لهذا التجوال المتكرر، في ربوع الأندلس القديمة، والزيارات المتعددة للقواعد الأندلسية الذاهبة، ولاسيما القواعد الكبرى مثل قرطبة وإشبيلية، وبلنسية، وشاطبة، ومرسية، وسرقسطة، وطليطلة، وبطليوس، وماردة، وأشبونة، وباجة وغرناطة، وألمرية، ومالقة، وغيرها، وهذه الدراسات المستفيضة لآثارها ونقوشها الأندلسية الباقية، وهذه المشاهدات لطبائع الإقليم، والبقاع، والأوساط التي حلت فيها الأمة الأندلسية، وعاشت عدة قرون، ووضعت أسس حضارتها العظيمة - كان لذلك كله في نفسي أعمق الآثار، وقد أمدني بكثير من الحقائق والفكر الجديدة.
وأود أن أنوه هنا، بأنه فضلا عن استيعاب المصادر القشتالية واللاتينية القديمة، والمصادر الغربية الحديثة، إلى جانب المصادر العربية المختلفة العامة والخاصة، قد أتيح لي أن أنتفع بكثير من المصادر المخطوطة الهامة، مما عثرت عليه خلال بحوثي في المجموعات الإسبانية (ولاسيما مجموعة الإسكوريال ومجموعة أكاديمية التاريخ)، والمجموعات المغربية في الرباط وفاس، وأن أنتفع في هذا القسم من تاريخ الأندلس، بوجه خاص، بثلاث قطع مخطوطة نادرة
1 / 6
من مؤلف ابن حيّان القيم في تاريخ الأندلس، وهو كتاب " المقتبس في تاريخ رجال الأندلس " أو " المقتبس في أخبار أهل الأندلس ".
القطعة الأولى - وتشمل حوادث سنى ١٨٠ - ٢٣٢ هـ، أعني عصري الحكم ابن هشام وعبد الرحمن بن الحكم، وتقع في نحو مائة صفحة (ص ٨٨ - ١٨٩) من القطع الكبير، وهي عبارة عن بداية السفر الثاني من كتاب " المقتبس ": ويرجع الفضل في انتفاعي بهذا القسم، إلى صديقي العلامة المرحوم الأستاذ ليفى بروفنسال، وكان قد عثر عليه في مكتبة جامع القرويين بفاس، وقد اختفى الآن هذا القسم ولا نعرف مكان وجوده.
القطعة الثانية - وهي تأتي مباشرة بعد القطعة الأولى، وتشمل حوادث سنى ٢٣٣ - ٢٦٧ هـ، أعني بقية عصر عبد الرحمن بن الحكم، ومعظم عهد ولده الأمير محمد، والبوادر الأولى للثورة الكبرى، وتقع في ٩٥ لوحة أعني مائة وتسعين صفحة من القطع الكبير، وهي عتيقة بالية كثيرة الخروم، متساقطة الحوافي، مكتوبة بخط أندلسي قديم، وقد كتب في نهايتها " كمل السفر الثاني بحمد الله تعالى، يتلوه الثالث، مبتدأ نجوم عمر بن حفصون كبير الثوار بالأندلس ". وهي تحتوى على تفاصيل ومعلومات هامة عن بلاط قرطبة وأحواله في هذا العصر، وعن الصقالبة والوزراء والعمال. وقد عثرت على هذه القطعة في مكتبة جامع القرويين بفاس، وحصلت منها على صورة فتوغرافية، وانتفعت بها منذ الطبعة الثالثة من الكتاب انتفاعًا عظيما، وذلك بالرغم من صعوبة المراجعة في هذه المخطوطة البالية (١).
ويتلو هذا القسم المخطوط الذى يشتمل على السفر الثاني من " المقتبس "، السفر الثالث، الذى قام بنشره المستشرق الإسباني الأب الأوغسطيني ملشيور أنتونيا عن مخطوطة المكتبة البودلية بأكسفورد (باريس سنة ١٩٣٧)، وهو يشتمل على عهد الأمير عبد الله بن محمد، وحوادث الفتنة الكبرى من سنة ٢٧٥ إلى سنة ٢٩٨ هـ، قبيل عهد الناصر بعامين.
القطعة الثالثة - وهي تتعلق بأعظم اكتشاف من نوعه من كتاب " المقتبس "،
_________
(١) وقد قام صديقي الدكتور محمود علي مكي أخيرًا بتحقيق هذه القطعة ونشرها، وسوف تظهر قريبا.
1 / 7
وهو العثور على " السفر الخامس " منه المتعلق بعهد عبد الرحمن الناصر.
إن هذا الاكتشاف يتعلق بأعظم قطعة مخطوطة عثر بها البحث حتى اليوم من هذا المؤلف الكبير. وقد تم العثور عليها منذ أعوام قلائل بين موجودات الخزانة الملكية بالرباط، وقد كان من حسن الطالع أن أتيح لنا الاطلاع عليها ودراسة محتوياتها دراسة وافية.
وهي عبارة عن جزء ضخم من كتاب " المقتبس " يقع في مائة وخمسة وثمانين ورقة كبيرة تضم ٣٧٠ صفحة، ولا يحمل المخطوط عنوانا لأنه ناقص من أوله. ولكن لا يصعب على من يعرف منهج ابن حيان التاريخي وأسلوبه النقدي، ومصادره التي يقتبس منها، أن يدرك لأول وهلة أنه أمام جزء كبير من المقتبس. ومن جهة أخرى، فإنه مما يقطع بصحة هذا الاستنتاج، ما قرأناه في حوادث سنة ٣٢٧ هـ، عن موقعة الخندق، من قول المؤلف خلال حديثه عمن قتل من المسلمن في الموقعة "وفشا القتل فيمن سواهم من المستنفرين والمحشودة، فافترطنا فيهم إلى جدنا حيان الأمثل طريقة أبا سعد مروان بن محمد بن حيان ﵀".
ويضم هذا المجلد الضخم السفر الخامس من كتاب " المقتبس "، وذلك حسبما ورد في ختامه. وهو يتعلق جميعه بعصر عبد الرحمن الناصر. ومن ثم كانت أهميته البالغة، بيد أنه مع ضخامته لا يشمل عصر الناصر كله، وهو يبدأ من سنة ٣٠٠ هـ وينتهي في سنة ٣٥٠ هـ. بل تنقص هذا السفر الخامس من " المقتبس " في البداية نحو ستين صفحة، وهو يبدأ بحوادث سنة " سبع وثلاثمائة "، وينتهي بحوادث سنة ٣٣٠ هـ وإن كان يتناول أحيانا بعض الحوادث التي وقعت قبل ذلك أو بعد ذلك حتى سنة ٣٤٠ هـ.
والمخطوط قديم، ومكتوب بخط أندلسي جميل، ولكنه لا يحمل تاريخ كتابته (١).
وقد قضينا في دراسة هذا المخطوط والنقل منه فترات طويلة، وانتفعنا
_________
(١) هذا وقد كتبت عن هذا الاكتشاف بحثا مفصلا، نشر بمجلة معهد الدراسات الإسلامية بمدريد في المجلد الثالث عشر (سنة ١٩٦٥ - ١٩٦٦). ثم ألقيت بعد ذلك عنه محاضرة بالإنجليزية بمدرسة الدراسات الشرقية والإفريقية بجامعة لندن في ربيع سنة ١٩٦٧.
1 / 8
بمحتوياته أعظم انتفاع، في هذه الطبعة الرابعة من كتابنا، وما نقلناه منه يرى الضياء لأول مرة.
وتوجد إلى جانب ذلك قطعة مخطوطة أخرى من تاريخ ابن حيّان في مكتبة أكاديمية التاريخ بمدريد (مجموعة كوديرا)، تقع في ١٣٦ صفحة صغيرة، وتشتمل على حوادث سنى ٣٦١ - ٣٦٤ هـ، وهي أواخر عهد الخليفة الحكم المستنصر بالله، وتحتوي على معلومات هامة عن الشؤون المالية والإدارية في هذا العصر.
فإذا ذكرنا بعد ذلك كله، ما نقله الكتاب والمؤرخون اللاحقون مثل ابن بسام صاحب الذخيرة، وابن عذارى صاحب البيان المغرب، وابن الخطيب، في الإحاطة، وأعمال الأعلام، والمقّري في نفح الطيب، من الفصول والشذور العديدة، من تاريخ ابن حيان، أدركنا أننا قد ظفرنا في الواقع بقدر كبير، وربما بمعظم محتويات هذا التاريخ العظيم الجامع، الذي يعتبر بحق من أقيم مصادر التاريخ الأندلسي، وأكثرها اتزانا، وأقواها من حيث الروح التحليلية والنقدية، ولا سيما فيما يتعلق بحوادث سقوط الخلافة الأموية، وأوائل عهد الطوائف، وهو العصر الذي أدركه ابن حيان وعاش فيه، وشاهد أحداثه المثيرة، وترك لنا عنها أبدع الصور وأقواها.
ونكتفي بهذه الإشارة إلى المصادر المخطوطة، وهي عديدة ذكرت في مواضعها، وكذلك المصادر الأخرى من عربية وقشتالية وغيرها، فقد ذكرت كذلك في مواضعها، وسوف نثبتها جميعا في نهاية الكتاب في ثبت خاص.
وأما المصادر والنصوص والوثائق اللاتينية والقشتالية، فقد راجعت معظمها في مدريد، في المكتبة الوطنية، وقسم المحفوظات التاريخية، وكذلك في مكتبة معهدنا المصرى بمدريد، وهي تضم مجموعة نفيسة من مصادر التاريخ الأندلسي.
* * *
ولا بد لي أن أكرر هنا ما سبق أن ذكرته في مقدمة الطبعة الأولى، وهو أني بذلت في كتابة هذا المؤلف الذي يمتزج فيه تاريخ الشرق والغرب، والإسلام والنصرانية، جهدًا خاصا لتمحيص الروايات والنصوص العربية والإفرنجية، واستخراج الرواية الراجحة، وتكوين الرأي المستقل مهما يكن هذا الرأي
1 / 9
ومما تجدر ملاحظته أن تاريخ الأندلس كتاريخ الحروب الصليبية، يمتاز في كثير من الأحيان بتباين واضح بين الرواية الإسلامية والرواية النصرانية، وقد تتأثر هذه الرواية أو تلك، بالمؤثرات القومية أو الدينية؛ ولكن الرواية الإسلامية فيما يتعلق بتاريخ الأندلس، تبدو على العموم أقل تحاملا، وأكثر دقة واعتدالا.
وأما الرواية النصرانية فكثيرا ما يشوبها الإغراق والتحامل، وينقصها الإنصاف والدقة. ويرجع ذلك إلى أن الروايات النصرانية الأولى، التي كتبت عن تاريخ اسبانيا المسلمة، كانت من تصنيف بعض الأحبار المتعصبين، وإلى أن مؤرخي اسبانيا المحدثين، لبثوا حتى أواخر القرن الثامن عشر يكتبون تاريخ اسبانيا من ناحية واحدة، ويرجعون إلى المصادر النصرانية دون غيرها، ويجتنبون كل بحث أو تنقيب في المصادر العربية، وذلك بالرغم من أن تاريخ اسبانيا المسلمة يشغل أعظم مكانة في تاريخ اسبانيا في العصور الوسطى، ويكون صفحة من أمجد صفحاته. وقد نعى النقد الإسباني الحديث نفسه هذا المسلك على مؤرخي اسبانيا النصرانية، فمثلا يقول العلامة المستشرق الإسباني جاينجوس في مقدمة ترجمته لكتاب نفح الطيب: " إن ماريانا وأكابر المؤرخين الإسبانيين تحدوهم عاطفة بغض قومي عميق، أو نزعة تعصب ديني، أبدوا دائما أبلغ الإحتقار لمؤلفات العرب .. فكانوا يرفضون وسائل البحث التي تقدمها لهم الوثائق التاريخية العربية الكثيرة، ويهملون المزايا التي قد تترتب على المقارنة بين الروايات النصرانية والإسلامية، ويؤثرون أن يكتبوا تواريخهم من جانب واحد. وقد ترتب على هذا الروح الضيق الذي يطبع كتاباتهم أثر واضح. ذلك أن تاريخ اسبانيا في العصور الوسطى، ما يزال بالرغم من كل ما أفاض عليه النقدة المحدثون، معتركا من الخرافة والمتناقضات ".
وقد أرسل العلامة جاينجوس هذه الصيحة منذ نحو قرن. ومع ذلك فإن فريقا من المؤرخين والمفكرين الإسبان، ما زال حتى عصرنا يعتبر تاريخ الأمة الأندلسية صفحة بغيضة من التاريخ القومي، وأن القضاء على الأمة الأندلسية وعلى حضارتها إنما هو نصر قومي باهر، وأن مطاردات ديوان التحقيق المروعة لبقايا الأمة المغلوبة، إنما هي عمل إنقاذ وسلام. وينسى هذا الفريق أو يتناسى كل المزايا، وكل الجهود الإنتاجية، وكل التراث الحضاري، وكل التقدم الإنسان الذي
1 / 10
حققه المسلمون في اسبانيا؛ بل نجد في العصر الحديث عالما إسبانيا مثل المستشرق سيمونيت، يبرر، بل ويمجد العمل الوندلي الذي ارتكبه الكردينال خمنيس مطران طليطلة، بجمع الكتب العربية من المسلمن بعد سقوط غرناطة بقليل، وقد بلغت زهاء مائة ألف أو تزيد، والاحتفال بإحراقها أكداسا في ميادين غرناطة، لكى تحرم الأمة المغلوبة بذلك من غذائها الروحي والفكري.
على أن البحث الغربي الحديث، استطاع أن يستدرك كثيرًا من شوائب هذا النقص، الذي يكتنف تاريخ اسبانيا في العصور الوسطى، فدرست الكتب والوثائق العربية منذ أوائل القرن الماضي، وتبوأت المصادر الإسلامية مكانها إلى جانب المصادر النصرانية، وترجم البعض منها إلى اللغات الأوربية، وظهرت طائفة كبيرة من الكتب والبحوث النقدية بمختلف اللغات الأوربية ومنها الإسبانية، تكشف للغرب عن كثير من الحقائق المتعلقة بتاريخ الأندلس، وأحوال المجتمع الإسلامي في اسبانيا، وتكشف بالأخص عن القسط البارز، الذي ساهمت به المدنية الإسلامية بالأندلس، في بناء الحضارة الإسبانية الحديثة، وحضارة عصر الإحياء الأوربي.
هذا وقد راعيت في سائر فصول هذه القصة الأندلسية المشجية، أن أسلك سبيل التبسط المعتدل، بعيدًا عن الإيجاز المخل، بعيدا في الوقت نفسه عن الإسهاب والتفاصيل الكثيرة، إلا ما دعت إليه المناسبات الهامة أو المواقع الحاسمة، حريصا خلال ذلك كله على أن أبرز الحوادث والشخصيات والصور في إطارها النقدي، الذي تدعمه الوثائق والنصوص والقرائن، بعيدا كل البعد عن التأثر بالعاطفة أو الأهواء أو الاتجاهات القومية أو الدينية من أى نوع، وإني لأرجو أن أكون قد وفقت في ذلك، إلى تأدية رسالة الحق والصدق والاعتدال، في كتابة هذه الصفحات المشرقة المؤسية معا من تاريخ الأمة الأندلسية.
وقد حرصت إلى جانب تاريخ اسبانيا المسلمة، أن أكتب في نفس الوقت تاريخ اسبانيا النصرانية، فاستعرضت منذ البداية نشأة المملكة النصرانية الأولى، ثم تاريخ الممالك النصرانية اللاحقة، ثم تناولت تاريخها تباعا في عصورها المتعاقبة، وعنيت بعد ذلك بتتبع أحداث المعركة الأبدية المضطرمة، التي نشبت بين الأندلس المسلمة وبين هاته الممالك النصرانية، وهي التي غدت فيما بعد محور التاريخ الأندلسي
1 / 11
كله، ثم تحولت من جانب اسبانيا النصرانية إلىَ ما يسميه المؤرخون الإسبان " معركة الاسترداد " La Reconquista، وانتهت إلى نتيجتها الطبيعية المحتومة، أعني إلى القضاء على دولة الإسلام في اسبانيا.
وهذه الطبعة الجديدة من " دولة الإسلام في الأندلس " تتضمن بعض الإضافات والنصوص الجديدة، التي استطعنا أن نقتبسها بالأخص من " السفر الخامس " من تاريخ ابن حيان، وهو الذي يتضمنه مخطوط المكتبة الملكية الذي سبق ذكره، وقد كنا لحسن الطالع، أول من وفق إلى مراجعته والانتفاع به. وقد نقلنا منه كثيرا من النصوص والوثائق الهامة، ولا سيما كتاب الناصر عن فتنة ابن مسرة، وكتابه عن موقعة الخندق، وغيرهما من الوثائق الرسمية التي ترى الضياء لأول مرة في البحوث الأندلسية. كما تتضمن هذه الطبعة فصلين جديدين ينشران لأول مرة، الأول عن نظم الحكم والأوضاع السياسية والعسكرية والاقتصادية في عصر الإمارة والخلافة، والثاني عن الحركة الفكرية الأندلسية. هذا إلى ما تتضمنه هذه الطبعة أيضا من النصوص والتعليقات الكثيرة، المستمدة من المصادر النصرانية والقشتالية، وهو أثر من آثار المراجعة المستمرة التي عكفت عليها في مدريد، خلال رحلاتي المتوالية إلى شبه الجزيرة الإسبانية.
ولقد تمنيت في ختام مقدمة الطبعة الأولى لهذا الكتاب، أن يكون صدوره " بداية مشجعة تبعث إلى اهتمام الباحثين بهذه الصفحة المجيدة من تاريخ الإسلام في الغرب ". وإنه لما يدعو إلى الغبطة، ما يلاحظ من تقدم الدراسات الأندلسية وانتعاشها في العهد الأخير، وذلك سواء في ميدان الكتابة والتصنيف، أو ميدان نشر الآثار الأندلسية المخطوطة، وهو نشاط تساهم القاهرة في قسميه بأوفي نصيب.
القاهرة في المحرم سنة ١٣٨٩
الموافق مارس سنة ١٩٦٩
محمد عبد الله عنان
1 / 12
الكتاب الأول
فتوح العرب في إفريقية والأندلس وغاليس وعصر الولاة في الأندلس ٢٢ - ١٣٨ هـ: ٦٤٣ - ٧٥٥ م
1 / 13
الفصل الأول
فتوح العرب في إفريقية
الصراع بين الدولتين الإسلامية والرومانية. اتجاه الفتوح الإسلامية نحو الغرب. غزو برقة. جرجير حاكم إفريقية الروماني. موقعة سبيطلة وهزيمة الروم. فتح سبيطلة عقد الصلح. إفريقية وقت الفتح الإسلامي. أحوالها في ظل الحكم الروماني. انتقالها إلى الدولة الشرقية. فتحها على يد الوندال. كلمة بربر مدلولها. إستعادة الدولة الشرقية لإفريقية. ضعفها وانحلالها. وقف الفتوح العربية واستئنافها على يد الدولة الأموية. موقعة حصن الأجم. إفتتاح سوسة وحصن جالولاء. ولاية عقبة بن نافع الفهرى لإفريقية. افتتاحه لأقطار المغرب. بناؤه لمديئة القيروان. ولاية أبي المهاجر الأنصاري. ولاية عقبة الثانية. مسيره ثانية إلى المغرب. ثورة البربر وقيام كسيلة بن لمزم. هزيمته المسلمين واستيلاؤه على القيروان. ولاية زهير البلوى. زحفه على القيروان. مقتل كسيلة وافتتاح القيروان. هجوم الروم من البحر على برقة. هزيمة العرب ومقتل زهير. مسير حسان بن النعمان إلى إفريقية. غزو العرب لقرطاجنة واستيلاؤهم عليها. فقدهم إياها ثم استردادهم لها. ثورة البربر وقيام الكاهنة. القتال بين العرب والبربر. هزيمة العرب ارتدادهم إلى برقة. عود حسان إلى غزو المغرب. انصراف البربر عن الكاهنة وهزيمتها. تنظيم حكومة إفريقية وتجديد القيروان. عزل حسان وولاية موسى بن نصير. نشأة موسى وحياته الأولى. الخلاف على تاريخ توليته لإفريقية. عود البربر إلى الثورة. هزيمتهم وسحق ثورتهم. فتح موسى لطنجة. ولاية طارق بن زياد لها. إنشاء موسى للأسطول. غزو العرب لجزائر البليار وصقلية وسردانية.
كان الصراع الذي نشب بين الدولة الإسلامية الناشئة، وبين الدولة الرومانية الشرقية، يضطرم حيثما تبسط الدولة الشرقية سلطانها. وكانت بسائط الشام مهاد المعارك الأولى بين الدولتين، وكانت أول قطر غنمته الخلافة من أراضي الدولة الرومانية؛ ثم افتتح العرب مصر بعد الشام، وهي أيضا ولاية رومانية، وكان افتتاحها في خلافة أمير المؤمنين عمر بن الخطاب، على يد عمرو بن العاص، وذلك في المحرم سنة عشرين من الهجرة (ديسمبر سنة ٦٤٠ م). ولما كانت مصر تتصل من الغرب بأملاك أخرى للدولة الرومانية هي الولايات الإفريقية، فقد كان من الطبيعي أن يتخذ العرب مصر قاعدة لافتتاح إفريقية، توطيدًا لسلطانهم في مصر
1 / 14
والشام، وإتماما لسلسلة الفتوحات الغربية. غير أن تقدمهم نحو الغرب كان محفوفًا بمشاق وصعاب لم يألفوها في فتوحهم الأولى، فقضوا زهاء نصف قرن في معارك عنيفة مع الروم (الرومان) والبربر، وأصيبوا إلى جانب انتصاراتهم، بأكثر من هزيمة شديدة، وواجهوا عدة ثورات محلية عنيفة، وانهار سلطانهم الفتي غير مرة، قبل أن يستقر نهائيا في إفريقية.
وبدأ العرب فتوحهم في إفريقية عقب افتتاحهم لمصر مباشرة. ففي سنة اثنتين وعشرين من الهجرة، أعني بعد افتتاح مصر بنحو عامين، سار عمرو ابن العاص غربًا إلى برقة، فافتتحها وصالح أهلها على الجزية، ثم افتتح طرابلس (أو إطرابلس) بعد أن حاصرها شهرًا ولجأ سكانها إلى سفنهم في البحر، ولكنه تركها بعد اغتنام ما فيها (١). وفي خلافة عثمان توغل العرب في قفار إفريقية. وفي سنة سبع وعشرين (٦٤٧ م) (٢) سار عبد الله بن سعد بن أبي سرح الذي خلف عمرًا في ولاية مصر إلى إفريقية في نحو عشرين ألف مقاتل (٣)، وسارت معه حامية برقة بقيادة عقبة بن نافع، وكان عمرو قد ولاه على تلك الأنحاء (٤). وقصد الغزاة بادئ بدء إلى طرابلس وهي يومئذ أغنى وأمنع ثغور إفريقية (٥).
_________
(١) فتوح مصر وأخبارها لابن عبد الحكم (طبعة لجنة ذكرى جب) ص ١٢١، وأبو الفداء (مصر) ج ١ ص ١٦٤، وابن الأثير (مصر) ج ٣ ص ١٠.
(٢) هذه هي رواية ابن عبد الحكم (ص ١٨٧) وهي أقدم رواية. ويوافقه البلاذري، وهو معاصر له تقريبا، ولكنه يضيف إلى ذلك أن هناك رواية بوقوع هذه الغزوة سنة ٢٨هـ، وثالثة بوقوعها سنة ٢٩ (فتوح البلدان - مصر - ص ٢٢٦). ويضع الطبري تاريخ هذه الغزوة في سنة ٢٧هـ متفقا مع ابن عبد الحكم والبلاذري (مصر ج ٥ ص ٤٨ و٤٩). ولكن ابن الأثير يضع ْتاريخها في سنة ٢٦ هـ (ج ٣ ص ٣٣).
(٣) فتوح مصر ص ١٨٤.
(٤) فتوح البلدان ص ٢٢٤.
(٥) يطلق العرب اسم إفريقية على الأقطار الواقعة شمال هذه القارة دون مصر. وذكر ياقوت في معجمه أن حد إفريقية من برقة شرقا إلى طنجة الخضراء غربًا، وعرضها من البحر إلى الرمال التي في أول السودان (معجم البلدان في مقال إفريقية). وتنقسم إلى ثلاثة أقسام: الأول، إفريقية ويمتد من حدود مصر الغربية إلى شرق الجزائر، والثاني المغرب الأدنى ويشمل قطر الجزائر تقريبا، والثالث المغرب الأقصى ممتدا من غرب الجزائر إلى المحيط، ويشمل إقليم مراكش وطنجة. وكانت كلمة إفريقية تطلق أيضا في العصور الوسطى بمعنى أخص على إقليم تونس وما يليه.
1 / 15
ولكن الروم تقدموا إلى لقاء المسلمين في مائة وعشرين ألف مقاتل (١) بقيادة جريجوريوس أو جرجير حاكم إفريقية الروماني (٢). وتختلف الرواية الإسلامية في أمر جرجير هذا، ويقول البعض إنه كان من الفرنج وليس من الروم، وإنه كان ملك الفرنجة في إفريقية ما بين طرابلس وطنجة، وإن سبيطله كانت دار ملكه. والحقيقة أن إفريقية كانت في ذلك الحين ولاية رومانية، تخضع لقيصر (إمبراطور) قسطنطينية، وكان جرجير أو جريجوريوس حاكمها من قبل الإمبراطور. على أن حاكم إفريقية الروماني، كان يتمتع وقتئذ بكثير من الإستقلال، نظرًا لضعف السلطة المركزية في عاصمة الدولة الشرقية. وهكذا كان شأن جرجير، فقد كان حاكما بأمره في ولايته. ولما علم العرب بتحرك جرجير، تركوا حصار طرابلس وساروا إلى لقاء الروم، ونشبت بين الجيشين مدى أيام معارك شديدة في ظاهر سبيطلة (سوفيتولا) بالقرب من أطلال قرطاجنة القديمة، وهي عاصمة إفريقية يومئذ، فهزم الروم هزيمة شديدة، وقتل قائدهم جريجوريوس، وأسرت إبنته (٢٨ هـ - ٦٤٨ م) (٣). ثم حاصر عبد الله سبيطلة، وافتتحها وخربها، وبث جيوشه في تلك الأنحاء حتى قفصة. ثم عقد الصلح مع أهلها على أن يؤدوا الجزية. وقضى في تلك الغزوات خمسة عشر شهرا، ولكنه لم ينشئ في البلاد المفتوحة حكومة جديدة. ولم يتخذ بها قاعدة إسلامية. ثم عاد إلى مصر بعد أن أنشأ حامية في برقة وأخرى في زويلة (٤).
ويجب قبل أن نمضي في الكلام على افتتاح إفريقية أن نذكر كلمة عما كانت عليه أحوالها وظروفها وقت الفتح الإسلامي. كانت إفريقية منذ زوال قرطاجَنّة القديمة، في أوائل القرن الثاني قبل الميلاد إلى أوائل القرن الخامس بعده، ولاية رومانية تخضع لسلطة رومة أولا، ثم بعد سقوطها لسلطة قسطنطينية أو الدولة
_________
(١) أبن الأثير ج ٣ ص ٣٤ - Li،.Gibbon: Roman Empire، Ch
(٢) ابن خلدون - كتاب العبر - ج ٦ ص ١٠٧.
(٣) روى ابن عبد الحكم أن ابنة جريجوريوس وقعت بعد أسرها في نصيب رجل من الأنصار، ولكنها انتحرت أثناء الطريق (فتح مصر ص ١٨٥).
(٤) ابن عبد الحكم ص ١٨٣.
1 / 16
الرومانية الشرقية؛ ولما غزت القبائل الجرمانية رومة واستولت على معظم أقطار الدولة الرومانية الغربية، نفذ الوندال إلى غاليا أو غاليس (جنوبي فرنسا) ثم إلى اسبانيا، واستقر الوندال حينًا في جنوبي اسبانيا في ولايات الأندلس، التي سميت يومئذ باسمهم " فانداليتا " Vandalita أو فاندلوسيا Vandalusia أى بلد الوندال (١).
وكان البربر أو سكان إفريقية، قبل الفتح الروماني، يدينون بالوثنية، ولكن رومة استطاعت منذ أوائل القرن الرابع، أن تفرض النصرانية على معظم القبائل. ويقول لنا ابن خلدون من جهة أخرى، إن القبائل البربرية كانت وقت الفتح الإسلامي تدين باليهودية، وإنهم تلقوها منذ أقدم العصور عن بني إسرائيل عند استفحال ملكهم لقرب الشام وسلطانه منهم، وكان من هؤلاء قبائل جبل أوراس وملكتهم الكاهنة (٢). وكان الفتح الروماني شديد الوطأة على القبائل المغلوبة، وكانت النظم الإدارية والمالية التي فرضتها عليهم رومة غاية في التعسف والشطط، مع ما يقترن بها من اقتضاء الضرائب والمغارم الفادحة، فكان البربر يتوقون إلى التخلص من نيرها، وقد نزعوا فعلا إلى الثورة في عهد الإمبراطور تيودوسيوس في أواخر القرن الرابع، ونادوا بأحد زعمائهم ملكًا عليهم، ولكن الثورة أخفقت وأخمدت. ولما انتقلت إفريقية إلى سلطان قسطنطينية بعد سقوط رومة، كانت قد اضمحلت ثروتها، واضطربت نظمها، ومزقتها الخلافات الدينية، وضعف سلطان الدولة عليها، وكثر الخوارج من الحكام والزعماء المحليين. وفي أوائل القرن الخامس، عبر الوندال البحر من اسبانيا إلى إفريقية، بقيادة ملكهم جنسريك، وافتتحوها في سنة ٤٢٩ م، وعاونهم البربر (٣) حبًا في التخلص من ْنير رومة. ولكن الوندال عاثوا في إفريقية أيما عيث، وخربوا المدن والمنشآت
_________
(١) سوف نفصل في حاشية لاحقة أصول هذه التسمية وفقا لمختلف الروايات.
(٢) ابن خلدون ج ٦ ص ١٠٧.
(٣) يطلق العرب كلمة " البربر " على سكان " إفريقية " أعني من برقة إلى المحيط، وأصل التسمية مجهول. ولكن المحقق أنها كانت موجودة قبل الفتح الإسلامي بعصور بعيدة. وترجعها الرواية اللاتينية إلى أقدم العصور. فكان يطلقها اليونانيون القدماء على الأمم ذات اللغات واللهجات المعقدة بوجه عام وحيثما وجدت، وعلى الأمم الغريبة عن لغة اليونانيين وحضارتهم. وكان يطلقها الرومان على شعوب الإمبراطورية خلا إيطاليا وولاياتها، ثم انتهوا إلى تحديد معنى الكلمة بإطلاقها على القبائل=
1 / 17
الرومانية، واستقروا سادة في البلاد المفتوحة مدى قرن، عانى البربر فيه أمر ضروب العسف والطغيان. وفي سنة ٥٣٤ م بعث يوستنيان، إمبراطور (قيصر) الدولة الشرقية قائده الشهير بليزاريوس إلى إفريقية على رأس جيش ضخم فافتتحها وحطم سلطان الوندال وأجلاهم عنها؛ ومن ذلك الحين عادت إفريقية إلى سلطان الدولة الشرقية، وظلت كذلك حتى الفتح الإسلامى.
وكانت إفريقية يومئذ في حال يرثى لها من الانحلال والتفكك، يسود الاضطراب نظمها وإدارتها، وتمزقها الأهواء والمطامع والفتن؛ وكانت عصور من الطغيان والجور والمصادرة قد عصفت بمواردها، ولكن الثروات كانت مع ذلك تتكدس في بعض الثغور والمدن؛ وكانت الدولة الشرقية قلما تعني بإصلاح هذه الأقطار أو إعداد وسائل الدفاع عنها، وإنما كانت ترى فيها قبل كل شىء موردًا للكسب على نحو ما قدمنا، فكان البربر على استعداد للتخلص من هذا النير المرهق، ومعاونة الفاتحين الجدد.
ولكن العرب شغلوا حينًا عن متابعة الفتح حينما عصفت ريح التفرق بالخلافة الإسلامية، ونشب الخلاف بين علي بن أبي طالب، الذي ولى الخلافة على أثر مقتل عثمان، في مستهل سنة ٣٥هـ (٦٥٥ م)، وبين خصمه ومنافسه القوي معاوية بن أبي سفيان والى الشام، واضطرمت ثورة الخوارج التي كادت أن تزعزع أسس الدولة الإسلامية الناشئة، وشغلت الجزيرة العربية بضعة أعوام، بتلك الحوادث والفتن الداخلية. وكان مقتل أمير المؤمنين علي بن أبي طالب في رمضان سنة ٤٠هـ خاتمة هذا النضال المؤلم، فآلت الخلافة إلى معاوية، وقامت الدولة الأموية في الشام لتفتتح في تاريخ الإسلام عصرًا جديدًا.
وكانت الدولة الأموية، تتشح إلى جانب ثوبها الخلافي، بأثواب الملك
_________
= المتوحشة أو المعادية خارج الإمبراطورية بأسرها. ثم حرفها العرب عند الفتح من اللاتينية وأطلقوها على الأمم والقبائل التي تسكن إفريقية (خلا مصر) راجع (Gibbon. ibid، Chap.Li (note) ويقول ابن خلدون في أصل هذه التسمية، إن أحد ملوك التبابعة العرب لما غزا المغرب وإفريقية، ورأى هذا الجيل من الأعاجم، وسمع رطانتهم تعجب من ذلك وقال ما أكثر بربرتكم فسموا بالبربر. والبربرة بلسان العرب هي اختلاط الأصوات غير المفهومة، ومنه يقال بربر الأسد إذا زأر بأصوات غير مفهومة (كتاب العبر ج ٦ ص ٨٩).
1 / 18
الإمبراطوري، وهكذا قدر لها أن تكون منشئة الإمبراطورية الإسلامية الكبرى. وما كادت تستقر الأمور الداخلية، حتى نشطت سياسة الفتح مرة أخرى. وكانت الخلافة في نفس الوقت الذي تسير فيه جيوشها نحو الشمال وتقترب من عاصمة الدولة الشرقية، تتجه ببصرها نحو الغرب، حيث كانت فتوحها في إفريقية ما تزال بحاجة إلى التوسع والتوطد. وهكذا وجه معاوية عنايته إلى إتمام فتح إفريقية. وكان الروم قد عادوا إلى الأرض المفتوحة عقب انسحاب العرب، فعاد إلها الجور والإرهاق، وأثقل كاهل البربر بما فرض عليهم من الأعباء والمغارم الجديدة، فاتصل زعماؤهم بالعرب واستحثوهم إلى العود واستئناف الفتح. ففي سنة ٤٥هـ (٦٦٥ م) سار معاوية بن حُديج التجيبي (١) إلى إفريقية وهزم الروم عند حصن الأجم، وتفرق الغزاة في مختلف الأنحاء، فسار عبد الله ابن الزبير إلى سوسة وافتتحها، وافتتح عبد الله بن مروان حصن جالولاء، وافتتحت عدة أخرى من البلاد والحصون.
وفي سنة خمسين (٦٧٠ م) (٢) قام العرب بأعظم فتح في إفريقية بقيادة عقبة ابن نافع الفهري. وكان عقبة جنديًا عظيمًا، خبيرًا بتلك الأنحاء والمسالك، وكان يتولى قيادة حامية برقة منذ فتحها، فاختاره الخليفة (معاوية) لولاية إفريقية، وبعث إليه بعشرة آلاف مقاتل ليتم فتحها. فجاز عقبة وهاد برقة، وتوغل غربا حتى المغرب الأقصى، وافتتح جميع العواصم والثغور الإفريقية تباعًا، وهزم جيوش الروم والبربر في مواقع عديدة، وتوغل في مفاوز المغرب الأقصى، ثم
_________
(١) وذكر بعض المؤرخين أن معاوية بن حديج كان في ذلك الحين واليا على إفريقية (ابن الأثير ج ٣ ص ١٨٤)، وذكر البلاذري أنه ولي بعد ذلك على مصر سنة ٥٠هـ، وأنه هو الذي بعث عقبة بن نافع إلى إفريقية (ص ٣٢٧)، وذكر الطبري أن معاوية بن حديج ولي مصر وعزله معاوية عنها سنة ٥٠هـ (ج ٦ ص ١٣٤). ويضع ابن الأثير تاريخ ولاية ابن حديج لمصر في سنة ٤٧هـ. على أن صاحب النجوم الزاهرة الذي عنى عناية خاصة بتعداد ولاة مصر يقول: إن حاكم مصر من سنة ٤٥ - ٤٨هـ هو عقبة بن عامر الجهني (النجوم الزاهرة ج ١ ص ١٣٠)، وإن الذي وليها بعده هو مسلمة بن مخلد الأنصاري، واستمر في ولايتها حتى سنة ٦٢هـ، وفي ولايته وقع فتح إفريقية الكبير.
(٢) هذه هي الرواية الراجحة، ولكن ابن عبد الحكم يضع تاريخ هذه الغزوة في سنة ٤٦هـ.
1 / 19
أنشأ مدينة القَيرُوان لتكون عاصمة للولاية الإسلامية الجديدة، وحصنا للدفاع عنها، وقاعدة لرد الروم والبربر.
ولم يمض قليل على قيام عقبة بذلك الفتح الكبير، حتى عزله والي مصر مسلمة بن مخلد الذي جمع له معاوية بين حكم مصر والمغرب (١)، وولى مكانه على إفريقية أبا المهاجر الأنصاري، فلبث في ولايتها عدة أعوام لم تقع فيها حوادث تذكر. ثم عزل أبو المهاجر وأعيد عقبة سنة ٦٢هـ في بدء خلافة يزيد بن معاوية. وكانت البلاد المفتوحة ما تزال تضطرم بعوامل الخروج والثورة. وكان الروم والبربر كلاهما يترقب الفرص، ولكن عقبة شغل عن توطيد الدولة الفتية بفتوحات جديدة، وعاد فاخترق المغرب إلى أقصاه، ووصل إلى ساحل المحيط هذه المرة. وهنا تقول الرواية العربية، إن عقبة لما انتهي إلى المحيط دفع فرسه إلى الماء حتى بلغ نحره، ثم قال: " اللهم إني أشهدك أن لا مجاز، ولو وجدت مجازا لجزت " (٢).
ففي ذلك الحين ثار البربر بقيادة زعيم لهم يدعى كسيلة بن لمزم (٣) كان قد اعتنق الإسلام وحالف العرب ثم تغير عليهم، وانضمت إليه جموع كثيرة من الروم والبربر، وانتهز فرصة تفرق المسلمين في مختلف الأنحاء، وانقض بجموعه على جيش عقبة، ووقعت بين الفريقين معارك شديدة هزم فيها المسلمون، وقتل عقبة وجماعة من القادة (سنة ٦٢هـ) وزحف كسيلة على القيروان واستولى عليها، وارتد حاكمها زهير بن قيس البلوي بقواته القليلة إلى برقة، وكادت بذلك تذهب دولة العرب في إفريقية.
ولما تولى الخلافة عبد الملك بن مروان (سنة ٦٥ هـ) اعتزم أن يعمل لاستعادة إفريقية، فولى عليها زهير بن قيس البلوي، وكان منذ سقوط القيروان يتولى الدفاع عن برقة، وأمده بجيش ضخم، فزحف زهير على القيروان سنة ٦٩ هـ (٦٨٨ م) والتقى على مقربة منها بجيش كسيلة، فهزم البربر بعد معركة شديدة
_________
(١) ويضع ابن عبد الحكم تاريخ هذا العزل في سنة ٥١ هـ، ويقول الطبري إنه وقع في سنة ٥٠ هـ (ج ٦ ص ١٣٤).
(٢) ابن عبد الحكم ص ١٩٩، وابن الأثير ج ٤ ص ٤٢.
(٣) هذه هي تسمية ابن عبد الحكم (ص ٢٠٠) وابن خلدون (ج ٦ ص ١٠٨) ولكن ابن الأثير يسميه كسيلة ابن كمرم.
1 / 20
قتل فيها كسيلة وكثير من أصحابه، ودخل زهير القيروان وترك فيها حامية للدفاع عنها، وفرق جنده لإخضاع الثوار في مختلف الأنحاء. ولكن الروم انتهزوا فرصة توغل المسلمين غربا، وأمدهم قيصر قسطنطينية (١) بأسطول من صقلية، فنزلوا في قرطاجَنة ثم زحفوا. على برقة في جموع عظيمة، وعلم زهير بتلك المفاجأة، فارتد للدفاع عن برقة، ونشبت بين الفريقين معركة هائلة هزم فيها المسلمون، وقتل زهير ومعظم ضباطه، وذهب المغرب من قبضة المسلمين مرة أخرى.
وكان وقع هذا الخطب شديدًا في حكومة دمشق، وكانت تشغل يومئذ بمحاربة ابن الزبير وصحبه الخوارج عليها، فمضت أعوام أخرى قبل أن تتمكن من العناية بشئون إفريقية، فلما انتهت الثورة وقتل ابن الزبير، وجه عبد الملك عنايته إلى استعادة إفريقية، فولى عليها حسان بن النعمان الغساني سنة ٧٣ هـ (٢) (٦٩٢ م) وسيره إليها في جيش ضخم كان أعظم قوة سيرتها الخلافة إلى إفريقية، فاخترق حسان برقة وقصد قرطاجَنة عاصمة إفريقية الرومانية، وكانت لا تزال في يد الروم ولم يغزها المسلمون بعد لحصانتها واتصالها بالبحر، وقربها من صقلية حيث كانت ترسل إليها الأمداد بسرعة، فحاصرها بشدة ثم اقتحمها واستولى عليها، ولكن الإمبراطور سير إليها جيشا بقيادة حاكمها يوحنا، يعاونه أسطول من صقلية، وقوة من القوط أرسلها ملك اسبانيا القوطي الذي أزعجه اقتراب العرب من بلاده، فانسحب العرب وارتدوا إلى القيروان، حتى إذا جاءتهم الأمداد أعادوا الكرة على قرطاجنة، وهزموا الروم والقوط هزيمة شديدة، ففروا إلى سفنهم، وخربت قرطاجنة وهدمت حصونها القوية. ثم سار حسان غربا وهزم الروم والبربر في عدة مواقع، واستعاد الإسلام سلطانه فيما بين برقة والمحيط (٣).
وعاد حسان إلى القيروان لينظم جيشه. وكان البربر والقبائل الجبلية قد
_________
(١) كان إمبراطور قسطنطينية في ذلك الحين يوستنيان الثاني، ٦٨٥ - ٦٩٥ م.
(٢) ابن عبد الحكم ص ٢٠٠؛ ولكن ابن الأثير يضع تاريخ توليته في سنة ٧٤هـ.
(٣) ابن الأثير ج ٤ ص ١٤٣، ومعجم ياقوت تحت كلمة قرطاجنة، وكذلك: Gibbon، ibid، Chap. L.
١
1 / 21