The Quranic Law: Evidence of its Miraculous Nature
شريعة القرآن من دلائل إعجازه
Mai Buga Littafi
دار العروبة
Inda aka buga
القاهرة
Nau'ikan
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
الكتاب: شريعة القرآن من دلائل إعجازه
المؤلف: الإمام / محمد أبو زهرة ﵀
الناشر: دار العروبة - القاهرة
عام النشر: ١٣٨١ هـ - ١٩٦١ م
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
جَزَى اللَّهُ كَاتِبَهُ وَمَنْ تَحَمَّلَ نَفَقَةَ الْكِتَابَةِ خَيرَ الجَزَاءِ وَأَوفَاهُ.
1 / 5
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
تمهيد
١ - بعث الله كل نبي من الأنبياء بمعجزة تشده لها العقول. وتقف عندها القدرة البشرية، فتعجز عن الإتيان بمثلها، وتحمل من أنار الله بصيرته على الإذعان والتسليم والإيمان والاطمئنان.
وكل معجزة تناسب العصر الذي بعث فيه النبي، وتتفق مع ما تدركه عقولهم، من حدود القدرة البشرية في موضوع المعجزة وذاتها، وقد تكون علاجًا لحالهم.
فمعجزة موسى كانت في بلد أتقن السحر، فجاءت من جنسه ...
ومعجزة عيسى ﵇ كانت في قوم خضعوا لحكم المادة، ولم يعترفوا بغيرها، فجاءت معجزته ﵇ متجهة كلها لإثبات ما وراء المادة. بل إن ولادته ﵇ نفسها كانت من هذا النوع، فهي وحدها برهان على سلطان الروح وتفكك الأسباب المادية وتراخيها عن مسبباتها، ووجود تلك المسببات من غير قيام الأسباب.
٢ - ولقد كانت كل المعجزات التي حكيت عن النبيين السابقين
1 / 6
معجزات مادية حسية، تكشف عن معنى روحي، وعن تنزيل سماوي؛ فقد كانت تقر الحس فيخضع، وتبده العقول فتخنع، فيذعن من أزال الله عن قلبه الغشاوة، وينكر من غلبت عليه شقوته وعمّت كل نواحي نفسه ضلالته.
ولكن معجزة محمد - صلوات الله عليه - لم تكن مادة تقرع، ولا أمرًا حسيًا ترى العيون إعجازه رأي العيان، بل كانت أمرًا معنويًا تتأمله العقول والأفهام، وتتعرفه المدارك البشرية في كل الأزمان، ولم يفقد حجيته، ولم يزل إعجازه كر الغداة ومر العشى.
٣ - وهنا يثور بادى الرأي ويلمح النظر سؤال:
ولماذا كانت معجزة محمد - صلوات الله عليه - أمرًا معنويًا، والمعجزات السابقة أمورًا حسية، أو لماذا كانت معجزة محمد كلامًاَ متلوا ومعجزات غيره وقائع مادية؟
إن الجواب عن ذلك السؤال مشتق من شريعة محمد ذاتها، ومن حقيقة القرآن الكريم، فشريعة محمد خالدة باقية، خوطبت بها الأجيال من مبعثه إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، وقد خوطب بها الناس جميعًا في كل الأرض، مهما اختلفت أجناسهم وتباينت أقاليمهم، وتضاربت عاداتهم.
فكان لابد أن تكون معجزة النبي متفقة مع هذا العموم،
1 / 7
ومتلائمة مع هذا الخلود، ولا يمكن أن تكون كذلك إذا كانت وقائع مادية تقتضي بإنقضاء وقتها، ولا يعلم بها علم اليقين إلا من عاينها، فالنار التي ألقى فيها خليل الله إبراهيم ولم تحرقه، لم يعلمها علم اليقين إلا الذين رأوها، وعصا موسى التي انقلبت حية تسعى، تلقف ما يأفكون، لم يعلمها علمًا جازمًا إلا الذين شاهدوها، وإبراء عيسى للأكمة والأبرص لم يعلم به إلآ الذين لمسوه.
أما معجزة محمد فهي ذلك القرآن المتلو المشتمل على الشريعة المحكمة، وهو باق يرى ويتلوى إلى يوم القيامة فيعلم حقيقته من ألتقى بالنبي صلوات الله عليخ وعاينه وخاطبه، ومن جاء بعد عذر الرسول بعشرة قرون. بل بعشرات القرون إن أمتد عمر الإنسان في هذه الأرض عشرات القرون، ولقد حفظه منزله الأجيال كما نزل على محمد ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ .
فالناس في كل الأجيال بعد محمد يرون معجزته رأي العيان، كمن شاهدوا محمدًا وخاطبوه، وإن كان لهؤلاء الصحب الكرام فضل علم، فهم مشتق من مشافهة النبي خطابه والتحدث عليه، وهو مشرق الحق ومصدر العرفان وروح الهدى ونور الوجود.
وإذا كانت الأجيال كلها ترى تلك المعجزة وتفهمها، فهي حجة الله الفاتحة عليها، فإن ضلت لا تضل عن جهالة ولا عن
1 / 8
نقص في البينات، ولا عن شك في الأمر، بل عن عمى في البصيرة وتحكم الهوى وسيطرة الأوهام،
٤ - ولقد تكلم العلماء قديمًا وحديثًا في موضع الإعجاز في القرآن - معجزة النبي صلوات الله عليه وسلم الكبرى، فمن قائل: إنه ما اشتمل عليه من قصص صادقة لم يعلمها النبي الأمين عن غير طريق الوحي، أو لم يجلس إلى معلم ولم يتعلم، ولم يكن كثير الرحلة حتى ينال علم التجربة بالأسفار، بل لم يتجاوز بطحاء مكة إلا مرتين: إحداهما في الثانية عشرة، والأخرى في نحو الخامسة والعشرين، فصدقها مع هذه الأمية دليل على أنها من عند الله".
ومن قائل: "إن الإعجاز في اشتماله على حقائق علمية كونبة، لم يصل إليها العقل البشري إلا بعد قرون، وقد جاءت في القرآن على لسان نبي أمي لم يتعلم، ولم يجلس إلى معلم كما بينا".
ومن قائل: "إن ذلك الإعجاز في أسلوب القرآن ونغمه ونسقه، وعلى ذلك الأكثرون".
وهو ما تومئ إليه عبارات القرآن الكريم، فقد تحداهم أن يأتوا بعشر سور من مثله ولو مفتريات فعجزوا، فكان أسلوب القرآن معجزًا لا ريب في ذلك.
٥ - ونحن نرى إن كل ما ذكره العلماء سببًا لإعجاز القرآن هو
1 / 9
بلا ريب من أسبابه، غير أن سببًا واحدًا لم نر العلماء قد ذكروه، ونراه من أقوى الأسباب أو يعدل أقراها إن لم يكن أقواها جميعًا، وبه القرآن يكون معجزًاَ لكل الناس، لا للعرب وحدهم، ولا لجيل من الأجيال، بل يكون معجزًا للأجيال كلها، ألا وهو شريعة القرآن، فما اشتمل عليه القرآن من أحكام سواء ما كان منها يتعلق بالأسرة أو ما يتعلق بالمجتمع، وما يتعلق بالعلاقة الدولية، فريد في بابه لم يسبقه شرع سابق، ولم يلحق بما وصل إليه شرع لاحق، وإذا ما كان ذلك كله قد جاء على لسان أمي لا يقرأ ولا يكتب، لم يتعلم قط لا بالقلم والقرطاس، ولا بالتلقين والتوقيف، ولا بالتجربة والأسفار، إن ذلك هو الإعجاز الذي تتيه العقول في تعرف سببه، إلا أن يكون ذلك من عند الله العلي الحكيم، وكذلك قال الرسول صلوات الله وسلامه عليه.
٦ - هذا كلام إجمالي وهو يحتاج إلى بعض من البيان، ولأجل أن نتبين قيمة ذلك الشرع في ذاته ونظر الناس يجدر بنا أن نرجع إلى الماضي السحيق ونتطلع إلى المستقبل البعيد.
أما في الماضي فنجد أن الشرع الذي أقترن بظهور محمد الرسول الأمين، هو قانون الرومان، فقد كان الشرع المسيطر في التطبيقات العملية والقضائية في مصر والشام وغيرها من البلدان التي تصاقب البلاد العربية وتحيط بها من الغرب والشمال، ويقول علماء
1 / 10
القانون اليوم إنه من أكمل الشرائع التي تفتق عنها العقل البشري، ولا زال يعتبر اصلًا لكثير من الشرائع القائمة، انفرعت من أصوله وقامت على دعائمه.
وإن من يريد أن يعرف منزلة الشريعة الإسلامية وأنها في درجة فوق مستوى العقل البشري، فليوازن بينها وبين القانون الروماني، لأن قانون الرومان قد استوى على سوقه، وبلغ نهاية كماله في عهد جوستنيان سنة ٥٣٣ بعد ميلاد المسيح ﵇، وهو في هذا الوقت كان صفوة القوانين السابقة، وفيه علاج لعيوبها وسد لخللها من يوم أن أنشئت روما سنة ٧٤٤ قبل الميلاد، إلى سنة ٥٣٣ بعده، أي أنه ثمرة تجارب قانونية لنحو ثلاثة عشر قرنًا ظهرت فيها الفلسفة اليونانية. وبلغت أوجها، وقد أستعانوا في تلك التجارب القانونية بقوانين سولون لأثينا، وقوانين ليكورغ لإسبارظة والنظم اليونانية عامة، والمناهج النظامية والفلسفية التي فكر فيها الفلاسفة اليونان، لبيان أمثل النظم التي يقوم عليها المجتمع الفاضل. كالذي جاء في كتاب القانون وكتاب الجمهورية لأفلاطون، وكتاب السياسة لأرسطو، وغيرها من ثمرات عقول الفلاسفة والعلماء في عهد اليوناان والرومان.
وإن شئت فقل: إن القانون الروماني هو خلاصة ما وصل
1 / 11
إليه العقل البشري في مدى ثلاثة عشر قرنًا في تنظيم الحقوق والواجبات، فإذا وازنا بينه وبين ما جاء على لسان محمد النبي النبي الأمي وأنتجت الموازنة أن العدل فيما قاله محمد ليس من صنع بشر، إنه العليم الحكيم اللطيف الخبير سبحانه.
٧ - وفي أي جانب أخترت الموازنة بين ما اشتمل عليه القرآن وما اشتملت عليه الشرائع التي سبقته أو عاصرته بدا لك الفرق ما بين السمو الروح٠ي، والأخلاق الأرضية. فمن ناحية المساواة القانونية نجد الشريعة قد وصلت إلى أعلا درجاتها، بينما القوانين التي عاصرتها لم تعترف بأصلها.
فالقرآن يقول: ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ إِنَّا خَلَقْنَاكُمْ مِنْ ذَكَرٍ وَأُنْثَى وَجَعَلْنَاكُمْ شُعُوبًا وَقَبَائِلَ لِتَعَارَفُوا إِنَّ أَكْرَمَكُمْ عِنْدَ اللَّهِ﴾ والشرائع التي سبقته وعاصرته لم تعرف تلك المساواة بين الأجناس والألوان، بل لم تعرف المساواة بين آحاد الأمة الواحدة.
وبينما شريعة القرآن تخفف عقوبة الأرقاء فتجعل عقوبتهم نصف عقوبة الحر، نجد قانون الرومان يضاعف عقوبة الضعفاء فالقرآن يقول في الإماء: ﴿فَإِذَا أُحْصِنَّ فَإِنْ أَتَيْنَ بِفَاحِشَةٍ فَعَلَيْهِنَّ نِصْفُ مَا عَلَى الْمُحْصَنَاتِ مِنَ الْعَذَابِ﴾ وكذلك العبد إن أتى بفاحشة فعقوبته نصف الحر.
ولكن قانون الرومان يقول: "ومن يستهوي أرملة مستقيمة
1 / 12
أو عذراء فعقوبته إن كان من بيئة كريمة مصادرة نصف ماله، وإن كان من بيئة ذميمة فعقوبته الجلد والنفي من الأرض.
وإن النظر العادل يقر بالبداهة نظر شريعة القرآن لأن العقوبات يجب أن تشير بنسبة تصاعدية مع الأشخاص لا بنسبة عكسية، فتكبر جريمة الكبير وتصغر عقوبة الصغير.. لأنه إذا هانت النفس على صاحبها سهل عليه الوقوع في الجرائم، فكان التخفيف، وإذا كبرت قيمة الرجل في أعين الناس كانت عليه تبعات بمقدار عظمته، وكانت صغائره كبائر، وتضاعفت العقوبة، فالجاه والثروة وغيرها ليست متعًا خالصة خالية من تبعات بل عليها تبعات بقدرها.
وإن القوانين التي تسير عكسًا لا طردًا، كالقانون الروماني، قوانين ظالمة، كيف؟ لأنها تستمد منطقها من القوة الغالبة، فكلما كان الشخص من ذوي الجاه ضعفت عقوبته، وكلما كان نم الضعفاء زادت من عقوبته، فهو يحمي الشريف ولا يحمي الضعيف، وقد سمي القرآن ذلك حكم الجاهلية، ولذا قال الله في حق اليهود عندما طلبوا أن يحكم النبي على الشريف الزاني بغير العقوبة المقررة: ﴿أَفَحُكْمَ الْجَاهِلِيَّةِ يَبْغُونَ وَمَنْ أَحْسَنُ مِنَ اللَّهِ حُكْمًا لِقَوْمٍ يُوقِنُونَ﴾؟
ولقد قال النبي ﷺ: "إنما أهلك الذين من قبلكم كانوا إذا سرق الشريف تركوه. وإذا سرق الضعيف
1 / 13
قطعوه، وأيم الله، لو أن فاطمة بنت محمد سرقت لقطعت يدها.
٨ - ولقد كان الضعيف مأكولًا ضائعًا والفقير يائسًا جائعًاَ، حتى جاء الإسلام فشرع قانون الزكاة. وجعلها حقًا معلومًا في مال الغني، لا يخلص له إلا بعد إعطائها، حتى لقد قال الشافعي ﵁: "إن الغني إذا وجبت الزكاة في مال معين له، كان غير مالك للجزء الذي يقابلها، ولذلك إذا تصرف فيه من غير إخراجها يكون تصرفه باطلًا، وإذا مات من غير أن يؤدي ما وجب عليه من زكاة أخذت من تركته، وقدمت على سائر الديون عند الشافعي ﵁!
* * *
ولم يعتبر الإسلام الزكاة إحسانًا مُذلًّا، بل أوجبها على الأغنياء يقبضها ولي الأمر بالنيابة على الفقراء، ويوزعها عليهم بمقدار حاجته، ولقد هم عمر ﵁ عام وفاته أن يمر على الأقاليم بنفسه ليوزع على الفقراء حقوقهم في بيت المال غير الزكاة كل له عطاء بمقدار بلائه وعنائه في الإسلام.
٩ - وبينما كان قانون الرومان في بعض أدواره يجعل الدائن يسترق المدين إن عجز عن الوفاء، كان القرآن الذي نطق به النبي
1 / 14
الأمي وقد نزل عليه من عند الله يقرر: أن الحكومة تسدد ديون المدينين الذين يعجزون عن الوفاء بديونهم، إذ لم تكن الاستدانة سرفا، بل يكون على ولي الأمر سداد الديون التي يستدنيها ذوو المروءات للمقاصد الاجتماعية كالصلح بين الناس، فتسدد من بيت المال، ولو كان المدينون غير عاجزين عجزًا كليًا عن سدادها.
ويؤدي هذا كله من مال الزكاة كما نص القرآن الكريم.
إني أحسب أن هذه مثل عليا لم يصل إليها بعد قانون من قوانين البشر، فإذا كان الذي جاء بهذا رجلًا أميًا لا يقرأ ولا يكتب ولم يتعلم قط، ألا يكون هذا دليلًا على أن ما جاء به من عند الله العلي القدير؟.
١٠ - ولقد كان الرق حقيقة مقررة ثابتة أقر فلاسفة اليونان نظامه، واعتبروه نظامًا عامًا عادلًا، لا ظلم فيه، ولم تستنكره شريعة من الشرائع قط، وقرر أرسطو أن الرق نظام الفطرة لأن من الناس ناسًا لا يمكن أن يعيشوا إلا أرقاء، وآخرين لا يكونونٍ إلا أحرارًا ... !
فجاء النبي الأمي وقال: "الناس سواسية كأسنان المشط" وقال: "كلكم لآدم وآدم من تراب" ولم يسجل القرآن الرق في محكم آياته بل سجل العتق، فلم يرد في القرآن نص قط يبيح الرق، بل نصوصه كلها توجب العتق، حتى إنه في حرب الإسلام العادلة
1 / 15
لم يذكر القرآن رق الأسرى، بل قال: ﴿حَتَّى إِذَا أَثْخَنْتُمُوهُمْ فَشُدُّوا الْوَثَاقَ فَإِمَّا مَنًّا بَعْدُ وَإِمَّا فِدَاءً حَتَّى تَضَعَ الْحَرْبُ أَوْزَارَهَا﴾ فلم يذكر في الأسرى إلا المن عليهم بإطلاقهم أو فدائهم بالمال، إن كان في قومهم قدره على الفداء، ولقد وسع القرآن في أسباب العتق وفتح باب الحرية الإنسانية على مصراعيه، اعتبروه قربة ولو كان الرقيق غير مسلم، فقال: ﴿فَلَا اقْتَحَمَ الْعَقَبَةَ (١١) وَمَا أَدْرَاكَ مَا الْعَقَبَةُ (١٢) فَكُّ رَقَبَةٍ﴾ وأوجب على من يفطر في رمضان عامدًا من غير عذر عتق رقبة، ومن يحلف ويحنث عتق رقبة، ومن يجري على لسانه عبارة لامرأته يشبهها بأمه عليه عتق رقبة، ومن يقتل مؤمنًا خطأ عليه عتق رقبة، وإذا طلب العبد عتقه في نظير أن يؤدي ثمنه مثلًا - كاتبه مولاه على ذلك، وتركه ليكسب ثمنه، ومن ملك بعض محارمه عتق عليه، ومن ضرب عبده ظلمًا فكفارته عتقه. وهكذا تعددت أسباب العتق حتى أنها لو نفذت كلها لا يبقى رقيق في دار الإسلام أكثر من سنة واحدة.
كل هذا في زمن أهملت فيه حقوق الإنسان، فإذا كان هذا بعض ما اشتمل عليه القرآن، ألا يكون دليلًا على أنه من عند الرحمن؟
* * *
1 / 16
موازنة
إن ما اشتمل القرآن عليه من أحكام إذا ووزن بما كان عليه الناس وقت نزول القرآن، كان وحده دليلًا على أن القرآن من عند الله، بل إن أحكامه لا تزال جديدة إذا ووزنت بما عليه الناس اليوم، إذ بالموازنة يتبين أنها سبقت بعيدًا، وأن الناس مهما تتفتق عقولهم عن شرائع قد وصلوا إليها بتجارب قضائية، وتجارب عملية، وبالاستعانة بثمرات العقول وما أنتجته الفلسفة والعلم، فلن يصلوا إلى ما جاء على لسان النبي الأمي محمد ﷺ لأن عمل الإنسان مهما تكن قدرته ناقص، وفي أي جانب اخترت للموازنة تنتهي بالحكم الجازم بسبق النبي، وعدم بلوغ أحد ما قرهه وثبته منذ ثلاثة عشر قرنًا إلا أن يقبسوا من نوره، ويأخذوا من هديه، وينهلوا من معينه، ففقه الحكمة وفصل الخطاب. ولنختر الموازنة في بعض أحكام الأسرة، فإن أحكام الأسرة التي اشتمل عليها القرآن وبينها النبي موضع هجوم المهاجمين، وهدف لسهام النقد وسنبين أن تلك السهام مردودة في نحورهم، وسنلوي مقدم الدليل الذي ساقوه على نتيجتهم ونبين منه للباحث المنصف أن أحكام الأسرة في القرآن دليل إعجازه، وأن العقل البشري لم يصل إلى ما يقاربها.
1 / 17
لقد عابوا على شريعة القرآن. إباحتها الطلاق.. وإباحتها تعدد الزوجات ... وشنعوا وهو ليس من القرآن في شيء. وقد ثارت عجاجة هذه المسائل في آخر القرن الماضي، وصدر هذا القرن، وخاضت فيها الأقلام، وأخذ الذين يحاولون تقريب الإسلام من شرائع الغرب يقترحون وضع القيود أمام التعدد، بل أسترسلوا فأرادوا وضع القيود أمام الطلاق، وعقوبة المطلقين بالزج في غياهب السجن.
إن التاريخ كتاب العبر وسفر المعتبر، يرينا أن الهجوم على الإسلام من ناحية الطلاق وتعدد الزوجات وما يتصل بذلك، ليس وليد ذلك العصر، بل إنه يتغلغل في القدم إلى العصر الأموي، وإذا رجعنا إلى الوراء نتعرف المصدر الذي كان يبث ذلك، وجدنا رجلًا أسمه يوحنا الدمشقي، كان في خدمة الأمويين هو وأبوه، واستمر في خدمتهم إلى عهد هشام بن عبد الملك - كان يؤلمه أن يدخل النصاري في الإسلام أفواجًا أفواجًا، فكان يجتهد في أن يسلح النصارى باعتراضات يعترضون بها على الإسلام. ليشككوا العربي المسلم في دينه، وليقووا حجة النصراني، فيستطيع التغلب على العربي.
وقد جاء في كتاب "تراث الإسلام" عن يوحنا هذا أنه كان
1 / 18
يقول: "إذا سألك العربي في المسيح؟ فقل: إنه كلمة الله، ثم ليسأل النصراني المسلم بم سمي المسيح في القرآن. وليرفض أن يتكلم في شيء حتى يجيب المسلم فإنه سيضطر إلى أن يقول: ﴿إِنَّمَا الْمَسِيحُ عِيسَى ابْنُ مَرْيَمَ رَسُولُ اللَّهِ وَكَلِمَتُهُ أَلْقَاهَا إِلَى مَرْيَمَ وَرُوحٌ مِنْهُ﴾ فإذا أجاب بذلك فاسأله عن لكمة الله وروحه: أمخلوقة أم غير مخلوقة؟ فإن قال مخلوقة، فليرد عليه بأنه كان ولم تكن له كلمة، ولا روح، فإن قلت ذلك، فسيقحم العربي، لأن من يرى هذا الرأي زنديق في نظر المسلمين.
ومع ذلك التلقين الذي يحاول به التشكيك في العقيدة، كان يلقنهم أيضًا أن يتكلموا في تعدد الزوجات، وفي إباحة الطلاق، ثم يثير فيهم أكاذيب حول النبي ﷺ، فيخترح قصة عشق النبي لزينب بنت جحش، التي كانت وليدة عقل ذلك الكاذب الأفاق.
ولقد كان جزاء ذلك الصنيع عن النصارى أن اعتبروا صاحبه قديسًا، وإذا كان الاعتراض على الإسلام متحدا بين يوحنا وأهل ذلك العصر، فلابد أن يكون المصدر واحدا، ولكننا لا نتبع الأصول لنعرف الفروع، ولا نتبع الجذور لنعرف نوع الثمار، بل إننا اعترانا نوع من الضعف النفسي عند بعض الذين يسمون الخاصة، فحسبوا أن كل ما عند
1 / 19
الأوربين سائغ فرات، وكل ما عندنا ملح أجاج، وليسوا في حاجة إلي دس أمثال يوحنا الدمشقي، بل إنه يكفي أن يكون الأوربيون لا تسيغ شريعنهم التعدد حتى يكون ذلك المنه سائغًا مقبولًا، وحتى يكون ما عند المسلمين مقيتًا مرذولًا ...
وهكذا يفعل الاستخذاء في نفوس الضعفاء يستقبحون كل ما بأيديهم ويستحسنون كل ما بأيدي الأقوياء.
* * *
ونحن وإذا حاولنا أن نبين فضل الشريعة في الزواج والطلاق، فإنا لا نرد على المسلمين الذين رددوا تلك الأقوال عن غير بينة، بل إنا نرد على الذين اثاروها بين المسلمين، ولم يجدوا مرتعًا خصيبًا من اقدم العصور إلا في أذهان رجال في عصرنا، ونحن نتكلم في هذه الأمور الثلاثة: قصة زيد وزينب ونظام التبني والنسب، وتعدد الزوجات، والطلاق.
ونبدأ بقصة زيد وزينب والتبني لأن كثيرين خدعوا بالكذب الذي أثير حولها، ووجدنا في مصر كاتبًا كبيرًا كتب في السيرة، وجعل لها عنوانًا قائمًا بذاته، سماع عشق النبي، وبعض كتب التفسير رأج فيها ذلك العرس الخبيث، ولأن إثارة القول في هذه القصة بحرنا إلى الكلام في خاصة اختصت بها الشريعة
1 / 20
الإسلامية في النسب، وهي أن التبني لا يوجد نسبًا ولا يثبت حقوقًا ولا يلزم بواجبات، وذلك غير ما كان عند الرومان، ولأن تلك القصة تكشف عن خلق النبي الكريم،
كان لمحمد مولى هو زيد بن حارثة، وقد اختطف من قبيلته وبيه بيع العبيد وآل أمره إلى سيد الخلق محمد ﷺ، فحدب علبه وأكرمه وجعله منه بمنزلة الولد، يرفق به رفق الأب بولده، فلما عثر عليه أهله وأرادوا ان يفتدوا بثمنه أو بأكثر رضى المقام مع النبي فأعتقه وألحقه بنسبه وتبناه، وكان ذلك شرعًا مقررًا عند العرب، وعرف بين الناس: إنه زيد بن محمد، فكام قرشيًا هاشميًا بهاذ الإلحاق، وتزوج بنت جحش على أنه زيد ابن محمد، لأنه كفء لها بهذا النسب القانوني عندهم، ولكن الإسلام منع التبني وقال الله ﷾ في أول سورة الأحزاب: ﴿وَمَا جَعَلَ أَزْوَاجَكُمُ اللَّائِي تُظَاهِرُونَ مِنْهُنَّ أُمَّهَاتِكُمْ وَمَا جَعَلَ أَدْعِيَاءَكُمْ أَبْنَاءَكُمْ ذَلِكُمْ قَوْلُكُمْ بِأَفْوَاهِكُمْ وَاللَّهُ يَقُولُ الْحَقَّ وَهُوَ يَهْدِي السَّبِيلَ (٤) ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ ...﴾
ثم أردف هذا بقوله تعالى ﴿مَا كَانَ مُحَمَّدٌ أَبَا أَحَدٍ مِنْ رِجَالِكُمْ وَلَكِنْ رَسُولَ اللَّهِ وَخَاتَمَ النَّبِيِّينَ﴾ عندئذ بدا الصريح عن الرغوة، وتبين أن وزيدًا ليس ابن محمد، ولكنه ابن حارثة، وتبين أنه ليس قرشيًا، ثم تبين أنه ليس كفئًا لهذه الزوجة المعتزة بنسبها،
1 / 21
الفخورة بقومها، فتململت به وتململ بها لكبريائها واعتزازها بنسبها، فكان لابد أن يفترقا لتعذر العشرة الحسنة بينهما.
ولقد كان التبني نظامًا مقررًا ثابتًا في النفص العربية مشهورًا متغلغلة فكرته في نفوس العرب كما كان الشأن عند مجاوريهم الرومان، الذين كانوا ينظمون أحكامه ويرتبون حقوقه وواجباته، وكان لابد لاقتلاعه من النفس العربية - من قارعة مشهورة تقرع حسهم، فابتلى الله محمدًا بأن يكون المتولى لهذه القارعة تتميما لرسالته وقيامًا بحق التبليغ، ابتلاه بأن يتزوج زينب عندما تطلق من زوجها وصدر إليه أمر السماء بأن يكون على أهبة لذلك. ولكنه لم يعلن ذلك الأمر، وأعلم أن زيدًا مطلق زينب لا محالة لاستحكام الثغرة، وأخفى النبي أيضًا ذلك على الزوجين ما علم، وفي هذه الأثناء كان زيد لا ينى عن شكوى زوجته إلى الرسول، واستئذانه في طلاقها، وقد حكى الله سبحانه قول النبي له، فقال: ﴿وَإِذْ تَقُولُ لِلَّذِي أَنْعَمَ اللَّهُ عَلَيْهِ وَأَنْعَمْتَ عَلَيْهِ أَمْسِكْ عَلَيْكَ زَوْجَكَ وَاتَّقِ اللَّهَ وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ أي تخفي في نفسك أنه لابد مطلقها، وأن الله أمرك بتزوجها ﴿مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ وهو أمر الزواج والطلاق وليس أمر العشق والهوى لأن الله سبحانه ما أبدى عشقًا للنبي وهوى له ﴿وَتَخْشَى النَّاسَ﴾ تستحي من مفأجاتعم بغير ما يألفون ﴿وَاللَّهُ أَحَقُّ أَنْ
1 / 22
تَخْشَاهُ﴾ وقد أمرك فلا مناص من الإجابة: "فلما قضى زيد منها وطرأ زوجناكها لكيلا يكون على المؤمنين حرج في أزواج أدعيائهم إذا قضوا منهن وطرأ، وكان أمر الله مفعولًا. ما كان على النبي من حرج فيما فرص الله له، ﴿سُنَّةَ اللَّهِ فِي الَّذِينَ خَلَوْا مِنْ قَبْلُ وَكَانَ أَمْرُ اللَّهِ قَدَرًا مَقْدُورًا﴾ .
هذه الآيات الكريمة صريحة في أن الأمر قد قصد به قارعة تقرع حس العرب لكي تقتلع من نفوسهم فكرة التبني، وقد صرح الله سبحانه بذلك إذ قال: ﴿لِكَيْ لَا يَكُونَ عَلَى الْمُؤْمِنِينَ حَرَجٌ فِي أَزْوَاجِ أَدْعِيَائِهِمْ﴾ .
ولقد تعلق الدساسون ومن تبعهم من الجهلاء بقوله تعالى: ﴿وَتُخْفِي فِي نَفْسِكَ مَا اللَّهُ مُبْدِيهِ﴾ فزعموا أن الذي أخفاه الحب والهيام، وفات الجهلاء أن الله ما أبدى شيئًا من ذلك، وإن الذي فسرنا به الآية ليس بدعًا ابتدعناه ولا بديئًا سبقنا به، بل هو التفسير الأثري الصحيح - لا سيما تفسير ابن كثير.
ومن الغريب أن دس يوحنا الدمشقي في هذا المقام كان عظيم الأثر حتى راجت عن التابعين الروايات التي تدل على التأثر بذلك التفكير البعيد عن حقيقة النبي، بل إن "جرير" شيخ مفسري السلف وقع في تأثير تلك الروايات فقبلها تفسيرًا ورأيًا، مع أنها كلها روايات باطلة، وقد قالق ابن كثير في ذلك:
1 / 23
"ذكر ابن أبي حاتم وابن جرير ههنا آثارًا عن بعض السلف ﵃ أحببنا أن نضرب عنها صفحًا لعدم صحتها فلا نوردها".
هذه حقيقة الأمر في ذلك الأمر الذي روّجه المفسدون من أقدم العصور إلى اليوم، وإنما سقنا ذلك القول لا لبيان ذلك فقط، بل لننفذ منه إلى ما اتجهت إليه الشريعة في تحري الأنساب والمحافظة عليها والصيانة للفضيلة والحرص عليها. ولقد أغلقت الشريعة باب التبني: ﴿ادْعُوهُمْ لِآبَائِهِمْ هُوَ أَقْسَطُ عِنْدَ اللَّهِ فَإِنْ لَمْ تَعْلَمُوا آبَاءَهُمْ فَإِخْوَانُكُمْ فِي الدِّينِ وَمَوَالِيكُمْ﴾ فما أعدل حكم اللح يحث على أن يُدعى الناس لآبائهم لأن التبني كذب في ذاته، واعتداء على الآباء الحقيقيين، فكان القسط عند الله أن يكون كل امرئ لأبيه، فإن لم يكن لهم أب فلن يكسبوا شرفًا بذلك الإدعاء الباطل الذي هو كذب في ذاته، بل الشرف كل الشرف لهم في أن يكونوا إخوانًا لكم ونصراء، ولا تعتبروهم أدنياء أذلاء لأن الشرف لا يكتسب بالكذب، والشرف الحقيقي هو في الأخوة الإسلامية العامة" ...
هذا ما يقرره محمد بين عبد الله الأمي الذي كان من أمة تعتبر من أسباب ثبوت النسب: الإلحاق والتبني، كما كان ذلك مقررًا عند الرومان، ولقد ادعي بعض المستشرقين ولم ينف ادعاءه جهدًا، أن محمد أتى بالعادات العربية فجعل منها أحكامًا واجبة التطبيق،
1 / 24