The Production of Orientalists and its Impact on Modern Islamic Thought
إنتاج المستشرقين وأثره في الفكر الإسلامي الحديث
Mai Buga Littafi
دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
١٣٨٨هـ - ١٩٦٩م
Nau'ikan
مفاهيم إسلامية
إنتاجُ المستشرقينْ
وأثَره في الفِكر الإسلاميّ الحَدِيث
مالك بن نبي
دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع
1 / 1
إنتاج المستشرقين
1 / 2
حقوق الطبع محفوظة
الطبعة الأولى ١٣٨٨هـ - ١٩٦٩م
1 / 3
مفاهيم إسلاميّة
إنتاجُ المستشرقينْ
وأثَره في الفِكر الإسلاميّ الحَدِيث
مالك بن نبي
دار الإرشاد للطباعة والنشر والتوزيع
-بيروت-
1 / 4
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ
يجب أولًا أن نحدد المصطلح: إننا نعني بالمستشرقين الكتاب الغربيين الذين يكتبون عن الفكر الإسلامي وعن الحضارة الاسلامية.
ثم علينا أن نصنف أسماءهم في شبه ما يسمى «طبقات» على صنفين:
أ- من حيث الزمن: طبقة القدماء مثل جربر دوريياك والقديس توماس الاكويني وطبقة المحدثين مثل كاره دوقو وجولدتسهير.
ب- من حيث الاتجاه العام نحو الإسلام والمسلمين لكتابتهم: فهناك طبقة المادحين للحضارة الاسلامية وطبقة المنتقدين لها المشوهين لسمعتها.
1 / 5
هكذا وعلى الترتيب يجب أن تقوم كل دراسة شاملة لموضوع الاستشراق، إلا أننا، من الوجهة الاجتماعية الخاصة التي تهمنا في هذا البحث وفي النطاق الضيق المحدد لهذه السطور، نختار عن قصد فصلًا خاصًا، اختيارًا تبرره مبررات إلغائنا للفصول الأخرى.
إنه لمن الواضح أن المستشرقين القدماء أثروا وربما لا يزالون يؤثرون على مجرى الأفكار في العالم الغربي دون أيما تأثير على أفكارنا، نحن معشر المسلمين، ان ما كتبوا كان قطعًا المحور الذي تحركت حوله الأفكار التي نشأت عنها حركة النهضة في أوروبا، بينما لا نرى لهم أي أثر فيما نسميه النهضة الإسلامية اليوم. فلنترك إذًا قضيتهم جانبًا لمن تهمه دراسة التاريخ العام كما نترك أيضًا قضية المنتقدين على الحضارة الإسلامية المحدثين حتى ولو كان لهم بعض الأثر في تحريك أقلامنا أو كان لهم بعض الصيت في زمنهم وبلادهم مثلًا الأب لامانس، انهم لا يدخلون في موضوع بحثنا لأن انتاجهم، على فرض انه مس ثقافتنا الى حد ما، إلا أنه لم يحرك ولم يوجه بصورة شاملة مجموعة أفكارنا، لما كان في نفوسنا من استعداد لمواجهة أثره تلقائيا، مواجهة تدخلت فيها عوامل الدفاع الفطرية عن الكيان الثقافي، كما وقع ذلك في العهد الذي نشر فيه طه حسين كتابه في الشعر «الجاهلي» على غرار
1 / 6
مما تقتضيه مسلمة قدمها المستشرق مرجليوث قبل سنة من صدور كتاب طه حسين الذي اثار تلك الزوبعة من السخط التي تخللتها الصواعق المنطلقة من قلم مصطفى صادق الرافعي ﵀ وأكرم مثواه.
ولكننا على عكس ذلك نحد للمستشرقين المادحين الأثر الملموس الذي يمكننا تصوره بقدر ما ندرك انه لم يجد في نفوسنا أي استعداد لرد الفعل حيث لم يكن هناك، في بادىء الأمر، مبرر للدفاع الذي فقد جدواه وكأنما أصبح جهازه معطلًا لهذا السبب في نفوسنا.
وموضوعنا هنا، هو أن نبين ما كان لهذه الثغرة في جهازنا للدفاع عن الكيان الثقافي، من أثر في تطور أفكار المجتمع الاسلامي منذ قرن، وأثناء هذا القرن العشرين على وجه الخصوص.
ولا شك أن المستشرقين المادحين مثل رينو الذي ترجم جغرافية أبي الفداء في أواسط القرن الماضي ومثل دوزي الذي بعث قلمه قرون الأنوار العربية في إسبانيا ومثل سيدييو الذي جاهد جهاد الأبطال طول حياته من أجل أن يحقق للفلكي والمهندس العربي ألبي الوفاء لقب المكتشف لما يسمى في علم الهيأة «القاعدة الثانية لحركة القمر» ومثل آسين
1 / 7
بلاثيوس الذي كشف عن المصادر العربية لكوميدية الإلهية، لا شك أن هؤلاء العلماء كتبوا لنصرة الحقيقة العلمية، وللتاريخ، وكل ذلك من أجل مجتمعهم الغربي.
ولكننا نجد أن أفكارهم كان لها وقع أكبر في المجتمع الإسلامي، في طبقاته المثقفة.
إن الجيل المسلم الذي أنتسب اليه يدين الى هؤلاء المستشرقين الغربيين بالوسيلة التي كانت بين يديه لمواجهة مركب النقص الذي اعترى الضمير الإسلامي أمام ظاهرة الحضارة الغربية.
ولكننا إذا تصفحنا هذه القضية في ضوء خبرتنا الحديثة وفي ضوء تجاربنا القريبة نجد أن هذه الوسيلة لم تقتصر نتائجها على الأثر المحمود في تطور أفكارنا وثقافتنا، بل كان لها أثر مرضي هو الذي نريد طرحه كموضوع البحث في هذه السطور.
فلكي نتصور هذا الأثر على صورته الحقيقية في مجتمعنا الإسلامي، يجب أن نعيد هذا النوع من الاستشراق الى مصادره التاريخية.
إن أوروبا اكتشفت الفكر الإسلامي في مرحلتين من تاريخها فكانت في مرحلة القرون الوسطى، قبل وبعد طوماس الأكويني، تريد اكتشاف هذا الفكر
1 / 8
وترجمته من أجل اثراء ثقافتها بالطريقة التي أتاحت لها فعلا تلك الخطوات الموفقة التي هدتها الى حركة النهضة منذ أواخر القرن الخامس عشر.
وفي المرحلة العصرية والاستعمارية فإنها تكتشف الفكر الاسلامي مرة أخرى لا من أجل تعديل ثقافي بل من أجل تعديل سياسي، لوضع خططها السياسية مطابقة لما تقتضيه الأوضاع في البلاد الإسلامية من ناحية، ولتسيير هذه الأوضاع طبق ما تقتضيه هذه السياسات في البلاد الإسلامية لتسيطر على الشعوب الخاضعة فيها لسلطانها وربما انطبقت هذه المجهودات العلمية، في نفس أصحاجها، على مجرد الإعتراف بفضل تلك الشعوب وبمساهمتها في تكوين الرصيد الحضاري الإنساني، ولا شك أن المستشرق سيدييو والعلامة غسطاف لوبون يتسمان في انتاجهما بميزة العلم الخالص والاجتهاد المخلص للحقيقة العلمية.
ولكن تجب هنا الملاحظة بأن هذا اللقاء الجديد وقع في ملابسات تاريخية لم يكن فيها العلم الاسلامي علمًا حيًا ينقل من أفواه الأساتذة مباشرة ومن كتبهم المعاصرة بل أصبح أشبه شيء بعلم الآثار يكتشفه الباحثون الأوروبيون بحكم الصدفة ويصدقون أولا يصدقون في نقله، ثم ينسبونه لأصحابه من العلماء
1 / 9
المسلمين، أو ينسبونه لأنفسهم أو لأحد الأوروبيين، فهكذا كانت اكتشافات كبرى تنسب لغير أصحابها، مثل دورة الدم الصغرى للانجليزي وليام هرفي بينما كان صاحبها، الطبيب المسلم ابن النفيس يعيش قبله بأربعة قرون.
كما تجب الملاحظة أيضًا أن العالم الإسلامي أصبح في هذه الملابسات يعاني الصدمة التي أصابته بها الثقافة الغربية، ويعاني بسببها على وجه الخصوص أثرين: مواجهة مركب نقص محسوس من ناحية، ومحاولة التغلب عليه من ناحية أخرى حتى بالوسائل التافهة.
لقد أحدثت هذه الصدمة، عند قبيل من المثقفين المسلمين، شبه شلل في جهاز حصانتهم الثقافية، حتى أدى بهم مركب النقص الى أن ولوا مدبرين أمام الزحف الثقافي الغربي، وألقوا أسلحتهم في الميدان، كأنهم فلول جيش منهزم في اللحظة التي بدأ فيها الصراع الفكري يحتدم بين المجتمع الإسلامي والغرب، فأصبح هذا القبيل من المثقفين يبحث عن نجاته في التزي بالزي الغربي، وينتحل في أذواقه وسلوكه كل ما يتسم بالطابع الغربي حتى ولو كان هذا الطابع ليس إلاّ مظهرًا لا شيء وراءه من القيم الحضارية الغربية الحقيقية.
1 / 10
وبدأت تظهر في الأفق الثقافي الإسلامي الفكرة الجديدة التي حركت، بعد حرب السباي (١٨٥٨) بالهند، تأسيس جامعة عليكرة، وحركت، من جانب آخر وضد هذا المشروع، باعث النهضة الإسلامية السيد جمال الدين الأفغاني.
وهكذا أصبح الفكر الإسلامي على اثر الصدمة الثقافية التي اجتاحته وما تسبب عنها من موكب نقص. ينحاز الى معسكرين: أحدهما يدعو لتمثل الفنون والعلوم والأشياء الغربية- حتى اللباس- والآخر يحاول التغلب على مركب النقص بتناول حقنة اعتزاز يعلل بها النفس.
فالتيار الأول كان من الناحية العقلية، والسياسية والاجتماعية له أثره في لونين، اللون الذي يتمثل في تأسيس جامعة عليكرة، واللون الذي يتمثل في دعوة جمال الدين الافغاني مع تباين الأهداف وتشابه الوسائل التي كانت تفرض على العالم الإسلامي في كلتا الحالتين تطورًا يؤدي به الى «الشيئية» و«التكديس».
وأما التيار الثاني- وهو موضوع حديثنا لاتصاله بإنتاج المستشرقين- فإنه وجد منحدره الطبيعي في أدب الفخر والتمجيد الذي نشأ منذ القرن التاسع عشر على أثر ما نشره علماء مستشرقون، أمثال
1 / 11
دوزي، عن الحضارة الاسلامية.
ولا يمكننا، على أية حال، أن نجعل بإن التيارين فاصلًا قاطعًا، لأن الثاني منهما لا يكون مدرسة مستقلة عن الأول، بل نجده يخامر الفكر الاسلامي على العموم ويتخلل اتجاهه العام كفكر يبحث عن حقنة اعتزاز للتغلب على المهانة التي أصابته من الثقافة الغربية المنتصرة، كما يبحث المدمن عن حقنة المخدر التي يستطيع بها مؤقتًا اشباع حاجته المرضية.
وهذا لا يجعلنا ننفي لهذا التيار، ولنوع الأدب الذي نتج عنه كل أثر حسن في مصير المجتمع الاسلامي، لأنه كان له نصيب لا يزهد فيه في الحفاظ على شخصيته، والجيل الذي أنا منه يدين له بذلك النصيب على الأقل في المحافظة عالى شخصيته الاسلامية.
انني على سبيل المثال، قد أكتشفت وأنا بين الخامسة عشر والعشرين من العمر، أمجاد الحضارة الاسلامية في ترجمة دوسلان لمقدمة ابن خلدون وفيما كتب دوزي عنها وأحمد رضا بعد الحرب العالمية الأولى.
وانني على إدراك تام لما أدين به لهذه المطالعات وقد ذكرت ذلك في الجزء الأول من «مذكرات شاهد القرن»، ولآن، وأنا قد تجاوزت الستين من العمر، أستطيع أكثر من ذي قبل تقدير هذا العلاج للفكر
1 / 12
وللضمير لا في النطاق الشخصي فحسب بل في النطاق الشامل للمجتمع الاسلامي طيلة أربعين سنة بعد تجربتي، فأرى أن أقرر هنا، مع الاختصار اللازم في هذا الغرض ان مساوئ طريقة هذا العلاج تظهر لي بالتالي أكثر من حسناتها وذلك لأسباب متعددة.
فالسبب الأول لأنه بديهي نلاحظه في الآثار النفسية لأسلوب التكوين، أي البيداغوجية، بالنحو الذي نشير اليه بمثل بسيط:
اننا عندما نتحدث إلى فقير، لا يجد ما يسد به الرمق اليوم، عن الثروة الطائلة التي كانت لآبائه وأجداده إنما نأتيه بنصيب من التسلية عن متاعبه بوسيلة مخدر يعزل فكره مؤقتًا وضميره عن الشعور بها: إننا قطعًا لا نشفيها.
فكذلك لا نشفي أمراض مجتمع بذكر أمجاد ماضيه، ولاشك أن أولئك الماهرين في فن القصص قد قصوا للأجيال المسلمة في عهد ما بعد الموحدين قصة ألف ليلة وليلة وتركوا يذلك اثر كل سمر، نشوة تخامر مستمعيهم حتى يناموا فتنغلق أجفانهم على صورة ساحرة لماض مترف.
ولكن سوف تستيقظ هذه الجماهير في الغد فتنفتح أبصارهم من جديد على مشهد الواقع القاسي
1 / 13
الذي يحيط بها في وضعها الذي لا تغبط عليه اليوم.
فالأدب الذي ينشد «عصور الأنوار» للحضارة الاسلامة يؤدي أولًا هذين الدورين، انه أتاح في مرحلة معينة الجواب اللائق للتحدي الثقافي الغربي وحفظ هكذا مع عوامل أخرى على الشخصية الاسلامية، ولكنه من ناحية أخرى، صب في هذه الشخصية الاعجاب بالشيء الغريب ولم يطبعها بما يطابق عمر الفعالية والميكانيك.
وليست هذه الملاحظة مجرد شيء عابر نمر عليه في هذا العرض مر الكرام، بل يجب أن نقف عندها بكل اهتمام وتأمل، ولذا كانت أهميتها تلوح لنا من الجانب الاجتماعي من دون أي تردد، فانها تتخذ صورة أوضح اذا ما طرحناها على صعيد معركة الأفكار التي تجتاح العالم اليوم بصورة عامة والمجتمع الاسلامي بصورة خاصة.
وهنا تجب كلمة عن هذا المفهوم الذي نعنيه بـ «الصراع الفكري» في العالم الاسلامي، يجب أن نقرر مبدئيًا هذه القاعدة العامة، الا وهي أنه عندما يطرح مسلم أو بعض المسلمين مشكلة ما تهم مجتمعهم، فان هذه المشكلة تكون قد طرحت أو ستطرح عاجلًا في أوساط المتخصصين في هذه الدراسات لحساب وتحت اشراف الاستعمار.
1 / 14
وكلما يتقدم هذا المفكر المسلم أو هؤلاء المسلمون بحل لهذه المشكلة، يسرع من طرفهم أولئك الاخصائيون لدراسة هذا الحل، فان كان خاطئًا، زادوا في شحنة خطئه بطريقة أو أخرى، وان كان فيه بعض ما يفيد حاولوا كل جهدهم للتقليل من شأنه، وتخفيض قيمته حتى لا يفيد.
هذه هي القاعدة العامة في الصراع الفكري الذي نشير اليه. ويترتب على هذا، انه كلما لاحت في العالم الإسلامي أي بادرة ذات مغزى، ولو كانت لا تبصرها أعيننا، فان مجهر أولئك الاخصائيين يلتقطها على الفور، ليجري عليها كل طرق التحليل، واذا وجدوا فيها أي اتصال بحركة الأفكار في العالم الاسلامي، تجري عليها كل عمليات التشريح، وتمر بكل أصناف التقطير، حتى يبقى في محتواها الاجتماعي أقل ما يمكن من عوامل التيسير لصلاحيتها وأكثر ما يمكن من عوامل التعسير وانتفاء الصلاحية.
ومن الواضحأن من أكثر البوادر دلالة على اتجاه مجتمع ما، هو اتجاه افكاره: فاما ان تكون متجهة الى الامام، إلى المستقبل، أو إلى الخلف، اتجاهًا متقهقرًا، اتجاهًا ملتفتًا إلى الماضي بصورة مرضية.
ومن دون ان نستمر إلى أبعد من هذا في تحليل هذه
1 / 15
الاحكامات الدقيقة للصراع الفكري فلنلق هذه الاعتبارات على موضوعنا بالذات، نعني اثر هذا النوع من أدب المدح والتمجيد والاطراء على سير الأفكار، واتجاهها في المجتمع الاسلامي المعاصر، فنرى على الفور الجانب الآخر لهذا الأدب، عندما يصير بين يدي أولئك الأخصائيين وسيلة عمل حهنمي في تحريك رحا الصراع الفكري المحتدم في بلادنا.
اننا نرى اليوم مرأى العين هذا العمل الفتاك، ونرى أثره في كل تفاصيل حياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية، وفي البلاد العربية حيث تكونت تجربتي وخبرتي كمواطن وككاتب وكصحافي.
وليس كتاب كامل بكافي لسرد هذه التجربة. ولنذكر منها فقط، على سبيل المثال آخر تفصيل من تفاصيلها: انعقد أخيرًا بباريس مؤتمر العمال الجزائريين بأوروبا وبهذه المناسبه تقرر من لدن المشرفين على المؤتمر توزيع كتيب لصاحب هذا العرض، تناول فيه مشكلة من مشاكلنا اليوم، بالخصوص في الجزائر، البلد الذي اتخذ من كلمة «الديمقراطية» شعاره الدستوري.
ولكن أصحاب الاختصاص في الصراع الفكري لم يهملوا هذه المناسبة من اهتمامهم، ولم يفتهم ما تقرر توزيعه بهذه المناسبة، ولكن كيف يسدون الذريعة،
1 / 16
أعني كيف يسدون الطريق على الأفكار المعروضة في الكتيب الذي سيوزع أثناء المؤتمر، حتى لا يصل مدها إلى رؤوس المؤتمرين، أو على الأقل حتى يكون لها أقل مد ممكن؟
ولذا بنا نرى الدعوة توجه إلى تلك السيدة الألمانية المقربة التي وضعت أو وضع اسمها على ذلك الكتاب ذي العنوان الجذاب "شمس الله تشرق على الغرب " وفيه ما فيه من مدح وتمجيد الحضارة الاسلامية.
وتقدمت السيدة، وقدمت كتابها إلى المؤتمر، فانتقل على الفور بروحه من مجال المشكلات الحادة القائمة اليوم، إلى أبهة وأمجاد الماضي الخلاب! ولم يكن الصديق الذي كان يذكر لي هذه القصة يخطر على باله أي شيء من صلتها "بالصراع الفكري " وهو يقول: وفي الأخير قامت القاعة كلها لتحيي السيدة!
ولا شك أن القصة تكشف عن جانبين: الجانب الذي يبرز حساسية الجماهير المسلمة لأمجاد ماضيها، والجانب الذي يكشف عن امكان استغلال هذه الحساسية لالفات تلك الجماهير عن حاضرها.
وهذا الجانب هو الذي يهمنا لأنه يلتقي في الزمن مع أوج الموجة العارمة التي تكتسح اليوم العالم، من أمواج الصراع الفكري، ولأنها فعلًا موجهة في أوجها
1 / 17
بالخصوص في البلاد الاسلامية،- حتى وان كانت لا تشعر بها أحيانًا. إنما نرى كيف يتصرف أولي الاختصاص في الصراع الفكري، في ظرف خاص من ظروفه، عندما تعرض فكرة عمل وتأمل على الجماهير الاسلامية، كيف يستطيعون لفت الأبصار عنها بعرض أفكار أخرى في المناسبه ذاتها، أفكار جذابة، تدعو للأحلام السعيدة، أفكار مقتبسة من قصص ألف ليلة وليلة.
هذه هي القاعدة العامة التي يجب علينا أن نجعلها دومًا نصب أعيننا: اننا كلما طرحنا مشكلة وعرضنا لها حلًا من الحلول فان قادة الصراع الفكري يأتون على الفور بما يلفت عنه الأبصار أو ما يزيفه تزييفًا.
وما الحلول التي تعرض علينا في المجال السياسي، مثل البعثية، والبربرية، والافريقية والشيوعية- تلك الشيوعية التي يرعاها الاستعمار ويسهر على نباتها في مدفآته وما ذلك الأدب المطنب في المدح والتمجيد لماضينا الا وسائل الفات في المجال السياسي أو في المجال الفكري، حتى يلتفت العالم الاسلامي عن أم مشكلاته، الا وهي مشكلة حضارته، حتى يلفتوه عنها، ويربطوا اهتمامه يمشكلات وهمية، ويلهوه بحلول وهمية، يتجلى عبثها بصورة مفجعة في ظرف من الظروف الخطيرة غداة افلاس مصقع، وهزيمة شنيعة، وفضيحة مخجلة، مثل
1 / 18
غداة ٥ يونيو ١٩٦٧.
والواقع أن قضية عمليات الالفات والتسلية كانت قائمة منذ قبل الحرب العالمية الأولى، غير أنها تطرح اليوم والعالم الاسلامي يمر، في هذه الآونة بالذات، بأخطر أزمة في تاريخه، حتى أننا نستطيع القول- اذا ما طرحنا جانبًا بعض المظاهر من تطوره- أنه كان قبل أربعين سنة أقرب إلى الحل الرشيد لمشكلته وهو مستعمَر، لأنَّ وحدته الروحية أو الايديولوجية كانت أمتن منها اليوم فهو الآن، وهو مستقل، كأنما يبتعد عن هدفه لأن وحدته هذه قد تصدعت من عملية التقسيم التي أجريت عليه منذ أربعين سنة.
هذا هو الوضع الحقيقي، اذا ما طرحنا جانبًا بعض المظاهر الخادعة- بحيث اننا اذا حكمنا بأن المجتمع الاسلامي- ككل يواجه نفس المشكلة- قد تخلف منذ ربع قرن، وتقهقر، فليس في حكمنا أي اجحاف بالحقيقة، وانما الخطأ في هذه النقطة بالذات يعود إلى أننا تعودنا تقدير الأشياء بالمقياس السياسي، ذلك المقياس الذي يجعلنا نقارن الوضع في حالتين مرت بها الدولة الإسلامية على ضفتين قريبتين من التاريخ، قبيل الحرب العالمية الثانية، وهي في نير الاستعمار، وبعد تلك الحرب، وهي متحررة سيايًا في أغلبها، دون أن نقف بالتأمل
1 / 19
عند حقيقة هذا التحرر الذي لم يحم تلك الدول حتى من غيلة دويلة اسرائيل، بينما يكشف لنا هذا السير أو التطور منذ ربع قرن على أن المجتمع الاسلامي ضيع فيه، بين ضفتي التاريخ المشار اليها، أثمن ما عنده كزاد طريق، نعني الشعور بوحدة المصير، وضرورة الحل الواحد الذي لا تجزي عنه بعثية، ولا بربرية، ولا نزعة افريقية، ولا شيوعية مصطنعة، ولا خرافات ألف ليلة وليلة.
واليوم تعترض العالم الاسلامي هذه المشكلة في صورة متحارجة، شكسبيرية: هل نكون أو لا نكون؟ بينما تلمح ريشة الساعة إلى الاحتمال الثاني، منذ أتت أحداث يونيو ١٩٦٧ معبرة بلغتها القاصية على عبث تلك التشييدات السياسية والعسكرية التي تستند على ظاهرة الشيئية نعني تكديس تلك الأشياء التي جمعت في عشرين سنة من أجل الدفاع عن النفس، والتي ذابت في أول ساعة عند هجوم اسرائيل، وليس بمجدٍ، لمواجهة الدويلة الصهيونية، أن نكدس من جديد، دخيرة وزادًا وعتادًا، ليس بمجد تجديد الأشياء، بل تجديد الأفكار، ولكن تجديدها بصورة جذرية، بحيث تعوض تلك التي تؤدي إلى الهزيمة الهائلة وإلى الفضيحة الشنعاء، لأنها تفقد الروح التي ترفع الانسان إلى مستوى مهماته،
1 / 20