The Methodology of Sheikh Islam Muhammad bin Abdul Wahhab in Interpretation
منهج شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب في التفسير
Mai Buga Littafi
الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة
Nau'ikan
مقدمة
...
بسم الله الرحمن الرحيم
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا من يهده الله فلا مضل له ومن يضلل فلا هادي له وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أن محمدًا عبده ورسوله ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ حَقَّ تُقَاتِهِ وَلا تَمُوتُنَّ إِلَّا وَأَنْتُمْ مُسْلِمُونَ﴾ ١ ﴿يَا أَيُّهَا النَّاسُ اتَّقُوا رَبَّكُمُ الَّذِي خَلَقَكُمْ مِنْ نَفْسٍ وَاحِدَةٍ وَخَلَقَ مِنْهَا زَوْجَهَا وَبَثَّ مِنْهُمَا رِجَالًا كَثِيرًا وَنِسَاءً وَاتَّقُوا اللَّهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ وَالْأَرْحَامَ إِنَّ اللَّهَ كَانَ عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ ٢ ﴿يَا أَيُّهَا الَّذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا اللَّهَ وَقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمَالَكُمْ وَيَغْفِرْ لَكُمْ ذُنُوبَكُمْ وَمَنْ يُطِعِ اللَّهَ وَرَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ ٣.
أما بعد٤:
فإن أصدق الحديث كتاب الله، وخير الهدى هدي محمد رسول الله ﷺ، وشر الأمور محدثاتها، وكل بدعة ضلالة، وكل ضلالة في النار.
وإن الله ﷿ إنما خلق الخلق لعبادته وحده لا شريك له، ونصب لهم دلائل معرفته وتوحيده فأعطى الفطر والعقول، ثم بعث الرسل وأنزل الكتب ﴿لِئَلَّا يَكُونَ لِلنَّاسِ عَلَى اللَّهِ حُجَّةٌ بَعْدَ الرُّسُلِ﴾ ٥.
وما من الأنبياء نبي إلا وقد أعطي من الآيات ما مثله آمن عليه البشر٦ حتى كان نبينا ﷺ الذي اختاره ربه وأجتباه ليرسله إلى أمة جعلها خير أمة أخرجت للناس. فكان الذي آتاه الله وحيًا يتلى، ليخرج الناس به من الظلمات إلى النور كما قال تعالى: ﴿الر كِتَابٌ أَنْزَلْنَاهُ إِلَيْكَ لِتُخْرِجَ النَّاسَ مِنَ الظُّلُمَاتِ إِلَى النُّورِ بِإِذْنِ رَبِّهِمْ إِلَى صِرَاطِ الْعَزِيزِ الْحَمِيدِ﴾ ٧.
_________
١ سورة آله عمران: آية "١٠٢".
٢ سورة النساء: آية "١".
٣ سورة الأحزاب: آية "٧٠، ٧١".
٤ هذه خطبة الحاجة التي كان الرسول ﷺ يعلمها أصحابه وقد بين طرقها وألفاظها الشيخ الألباني في رسالة خطبة الحاجة/ طبع المكتب / ط. الرابعة ١٤٠٠هـ
٥ سورة النساء: آية "١٦٥".
٦ ورد بهذا حديث رواه البخاري في صحيحه في مواضع منها /كتاب الاعتصام/ باب قول النبي ﷺ: "بعثت بجوامع الكلمة"، / انظر الفتح "١٣: ٣٦١" ومسلم في صحيحه/ كتاب الإيمان/ باب وجوب الإيمان برسالة نبينا محمد ﷺ "١: ١٣٤" ح "٢٣٩".
٧ سورة إبراهيم: آية "١".
1 / 1
فكان هذا الكتاب لهذه الأمة هو الحجة البالغة، والمعجزة الباهرة، والنعمة التامة فهو حبل الله المتين، والذكر الحكيم، والصراط المستقيم، وهو الذي لا تزيغ به الأهواء، ولا تلتبس به الألسنة، ولا يشبع منه العلماء، ولا يخلق عن كثرة الرد، ولا تنقضي عجائبه، وهو الذي لم تنته الجن إذ سمعته أن قالوا: ﴿إِنَّا سَمِعْنَا قُرْآنًا عَجَبًا﴾ ١. هو الذي من قال به صدق، ومن حكم به عدل، ومن عمل به أجر، ومن دعا إليه فقد هدى إلى صراط مستقيم.
ففتح الله به آذانا صما، وأعينا عميا، وقلوبا غلفا، وأمر بالاعتصام به، والاهتداء بهديه، وتدبر آياته، والعمل بما فيه، وتكفل لمن قرأ القرآن وعمل بما فيه ألا يضل فى الدنيا، ولا يشقى في الآخرة فقال: ﴿فَإِمَّا يَأْتِيَنَّكُمْ مِنِّي هُدىً فَمَنِ اتَّبَعَ هُدَايَ فَلا يَضِلُّ وَلا يَشْقَى﴾ ٢ وأتم النعمة بأن تكفل بحفظه فقال: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ ٣.
ولقد علم المسلمون أن هذا الكتاب العزيز هو مكمن قوتهم، ومصدر عزتهم، وسبب نجاتهم، وانبرى العلماء الأكفاء منهم لتفسير كتاب الله، وبيان ما يشتمل عليه من أنواع العلوم والهدى.
وكان الأسوة في ذلك البيان هو رسول الله ﷺ حيث كان "خلقه القرآن" تحليلًا لما أحل، وتحريمًا لما حرم، وهديًا ومنهجًا، فكان ذلك من قبيل بيانه للناس الذي أمره الله به بقوله: ﴿وَأَنْزَلْنَا إِلَيْكَ الذِّكْرَ لِتُبَيِّنَ لِلنَّاسِ مَا نُزِّلَ إِلَيْهِمْ وَلَعَلَّهُمْ يَتَفَكَّرُونَ﴾ ٤.
ثم تأسى به أصحابه الكرام، أعلام الهدى، ومصابيح الدجى، وغرر الزمان الذين لم تكتحل عين الزمان بمثلهم أصحابًا. فأخذوا بالقرآن، واعتصموا به، وأقبلوا عليه تعلمًا وتعليمًا واهتداءً، فزكت نفوسهم، وتهذبت أخلاقهم، واستقامت أمورهم، ثم تلاهم في ذلك التابعون وتابعوهم بإحسان فنهجوا نهجهم وسلكوا سبيلهم وعكفوا على كتاب ربهم وسخروا العلوم لخدمته
_________
١ سورة الجن: آية "١".
٢ سورة طه: آية "١٢٣".
٣ سورة الحجر: آية "٩".
٤ سورة النحل: آية "٤٤".
1 / 2
وبذلوا جهدهم في تفسيره، وإيضاح دلالاته، واستنباط فوائده وأحكامه، وكلما ادلهمت عليهم الخطوب، وتكالبت الشرور، وجدوا في كتاب ربهم النجاة والمنعة، وصدق الله ﴿بَلْ نَقْذِفُ بِالْحَقِّ عَلَى الْبَاطِلِ فَيَدْمَغُهُ فَإِذَا هُوَ زَاهِقٌ﴾ ١.
وقد كان من العلماء الأعلام، أئمة الهدى الذين أعز الله بهم دينه، وأعلى بهم كلمته الإمام المجدد، شيخ الإسلام محمد بن عبد الوهاب ﵀ الذي ألهمه الله رشده، ونور بصيرته، وعرفه بكتابه فعمل به، ودعا إليه وبينه، واستنبط كثيرًا من أحكامه، ولفت الأنظار إليه، وذم من أعرض عنه، وابتغى الهدى من غيره.
حيث نشأ ﵀ في زمن انتشرت فيه الجهالة في كثير من الأنحاء، وبعد الناس عن كتاب ربهم، وتمسكوا بأقوال متبوعيهم غير المعصومين في حين أعرضوا عن كتاب الله زاعمين أنهم لا يستطيعون فهمه مباشرة، فضيقوا على أنفسهم، وحجروا على غيرهم تفسير كتاب الله، فإذا فسر لهم آية رمقته عيونهم، ومقتته قلوبهم، واشمأزت منه نفوسهم.
فقام الشيخ بكتاب الله يدعو إليه، ويبين معانيه وأحكامه، وما تضمنه من عقيدة وأحكام وعبر، ويستنبط منه الفوائد، ويؤلف في ذلك، ويدعم رسائله وفتاواه بنصوص الوحي المطهر، حتى ظهر دين الله، وارتفعت رايته، وثاب المسلمون إلى رشدهم، وعادوا إلى كتاب ربهم، ونهلوا من معينه، وطبقوه في واقع حياتهم، فكان منهج الشيخ في التفسير والاستنباط- ذلك المنهج الذي كان من ثمراته تلك الدعوة الإصلاحية المباركة التي ما زالت تؤتي ثمارها- جديرا بالاهتمام والدراسة.
ولذ ارأيت أن يكون موضع رسالتي في مرحلة الماجستير بعنوان "منهج شيخ الإسلام الشيخ محمد بن عبد الوهاب في تفسيره مع تحقيق جزء من تفسيره"- وذلك لما أراه من أهمية هذا الموضوع، وفائدته، وحيويته.
_________
١ سورة الأنبياء: آية "١٨".
1 / 3
هذا وتتلخص أسباب اختيار الموضوع فيما يلي:
١- خدمة لكتاب الله ﷿ ببيان منهج من المناهج القويمة في فهم كتاب الله وتفسيره والاستنباط منه والاهتداء بهديه.
٢- رغبة في إلقاء الضوء على جانب مهم من جوانب حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب العلمية، وهو الجانب التفسيري ذلكم الجانب الذي لم يلق العناية اللازمة من الباحثين مع أصالته وأهميته بالرغم من كثرة ما كتب فيما يتعلق ببيان جوانب مشرقة من حياة الشيخ.
٣- قيمة تفسير الشيخ العلمية.
وإنما تظهر قيمه لما تميز به من ميزات قد ذكرتها في موضع آخر وألخصها هنا فيما يلي:
١- سلفية الشيخ ومنهجه القويم في الاعتقاد والتفسير، ومعلوم ذلكم التلازم الوثيق بين استقامة هذين الجانبين.
ولذا اصطبغ تفسيره بالصبغة السلفية فلا تحريف ولا تأويل، وإنما تمش مع النصوص وإجراء لها على ظواهرها مع الأيمان بمعانيها والاستفادة العلمية والعملية منها. فكان موضع ثقة وقبول من أهل الاعتقاد الصحيح.
٢- اهتمامه في تفسيره واستنباطاته بالربط بين الواقع وبين المعاني المفهومة من الآيات فى سبيل إصلاح المجتمع وعلاجه من أدوائه، وربط الناس بكتاب الله ليأخذوا منه مباشرة ويهتدوا بهداه. وقد ظهر هذا الجانب في تفسيره ومنهجه نصًا واستقراء ومن ذلك قوله: اعلم أن الله سبحانه عالم بكل شيء يعلم ما يقع على خلقه، وأنزل هذا الكتاب المبارك الذي جعله تبيانًا لكل شيء وتفصيلًا لكل شيء وجعله هدى لأهل القرن الثاني عشر ومن بعدهم، كما جعله هدى لأهل القرن الأول ومن بعدهم١.
_________
١ مؤلفات الشيخ/ القسم الرابع / التفسير ص "٢٦٣".
1 / 4
٣- الشمولية في استنباطاته بالتعرض لمعظم ما يذكر في الآية، وإن كان ذلك على وجه الاختصار أحيانًا إذ الغرض هو التنبيه والإعلام، ولفت الأنظار إلى تلك المسائل المستنبطة والتي تتضمنها الآية.
كما أردت أن أحقق جزءًا من تفسير الشيخ واستنباطاته يشتمل على تفسير "سورة يوسف وسورة الحجر وسورة النحل" وذلك لتوالى هذه السور في المخطوطات التي بين يدي، ولتفسير الشيخ إياها كاملة. ليكون ذلك مثالًا قريبًا لتفسيرات الشيخ واستنباطاته وليتبين من خلالها منهجه المتكامل.
لهذا كله أحببت أن أكتب في هذا الموضوع مستعينًا بالله ومتبرئًا من الحول والقوة ة إلا به.
وقد قسمت البحث إلى قسمين:
أولًا: قسم الدراسة.
ويشتمل على مقدمة وتمهيد وثلاثة أبواب:
أما المقدمة فهي هذه.
وأما التمهيد فقد بينت فيه ما يلي:
أولًا: البيئة من حول الشيخ.
ثانيًا: اسم الشيخ ومولده وأسرته ونشأته.
ثالثًا: رحلاته العلمية.
رابعًا: نبذه عن دعوته الإصلاحية والمراحل التي مرت بها.
خامسًا: علاقة دعوته بالقرآن وتفسيره.
سادسًا: قيمة تفسيره العلمية.
سابعًا: مشائخه.
ثامنًا: تلاميذه.
تاسعًا: مؤلفاته.
عاشرًا: وفاته.
حادي عشر: ثناء العلماء عليه مفسرًا.
وأما الأبواب فهي كما يلي:
الباب الأول: تفسير الشيخ القرآن بالمأثور.
ويشتمل على ثلاثة فصول:
1 / 5
الفصل الأول: تفسيره القرآن بالقرآن.
الفصل الثاني: تفسيره القرآن بالسنة.
الفصل الثالث: تفسيره القرآن بأقوال السلف من الصحابة والتابعين.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: تفسيره القرآن بأقوال الصحابة.
المبحث الثاني: تفسيره القرآن بأقوال التابعين.
المبحث الثالث: موقفه من اختلاف السلف في التفسير.
الباب الثاني: التفسير بالرأي أو بالمعقول.
ويشتمل على خمسة فصول:
الفصل الأول: نظرته إلى العقل ومكانته من الشرع.
الفصل الثاني: نظرته إلى التفسير بالرأي.
الفصل الثالث: توفر أدوات التفسير بالرأي المحمود لديه.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: معرفته باللغة ومدى اهتمامه بها في تفسيره.
المبحث الثاني: معرفته بالنحو والإعراب ومدى اهتمامه به في تفسيره.
المبحث الثالث: معرفته بالبلاغة ومدى اهتمامه بها في تفسيره.
الفصل الرابع: مظاهر التفسير بالرأي لدى الشيخ.
ويشتمل على ثلاثة مباحث.
المبحث الأول: التفسير الإفرادي.
المبحث الثاني: التفسير الإجمالي.
المبحث الثالث: الاستنباط المباشر من الآيات.
الفصل الخامس: السمات العامة لتفسيره بالرأي.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: تمشيه مع روح الشريعة الإسلامية.
المبحث الثاني: تمشيه مع تفسيرات السلف وأقوالهم.
1 / 6
الباب الثالث: أهم الأغراض التي تناولها الشيخ أو حققها من خلال تفسيره:
ويشتمل على ستة فصول:
الفصل الأول: التركيز على العقيدة من خلال تفسيره.
ويشتمل على ثلاثة مباحث:
المبحث الأول: اهتمامه بالعقيدة من خلال تفسيره بصفة عامة.
المبحث الثاني: أهم المباحث العقدية التي بينها من خلال تفسيره.
المبحث الثالث: استنباطه جوانب حماية العقيدة من خلال تفسيره.
الفصل الثاني: اهتمامه في تفسيره بالردود على المخالفين.
الفصل الثالث: الاتجاه الإصلاحي في تفسيره.
الفصل الرابع: اهتمامه بالفقه والتأصيل في تفسيره.
ويشتمل على مبحثين:
المبحث الأول: اهتمامه بالفقه في تفسيره.
المبحث الثاني: اهتمامه بالتأصيل في تفسيره.
ويشتمل على مطلبين:
المطلب الأول: اهتمامه بالتأصيل العام في تفسيره.
المطلب الثاني: اهتمامه بأصول الفقه في تفسيره.
الفصل الخامس: القصص في تفسير الشيخ ومدى اهتمامه به.
ويشتمل على أربعة مباحث:
المبحث الأول: نظرته إلى القصص واهتمامه به.
المبحث الثاني: طريقته في دراسة القصص والاستنباط منها.
المبحث الثالث: المنهج الموضوعي في تفسير القصص عنده.
المبحث الرابع: موقفه من القصص الإسرائيلي.
الفصل السادس: ما ذكره من علوم القرآن في تفسيره.
واشتمل على ما يلي:
١- علم القراءات.
٢- علم فضائل القرآن.
٣- علم قصص القرآن.
٤- علم أسباب النزول.
٥- تعرضه للنسخ في القرآن الكريم.
1 / 7
وقد التزمت في بحث كل جزئيه من الجزئيات أن أدلل عليها من تفسيرات الشيخ نصًا أو استقراء.
ثانيًا: قسم التحقيق.
فقد قدمت له بمقدمة بينت فيها ما يلي:
أولًا: اسم الكتاب المحقق جزؤه وتوثيق نسبته إلى مؤلفه.
ثانيًا: وصف النسخ المخطوطة.
ثالثًا: منهجي في التحقيق.
ثم شرعت فى تحقيق النص ويشتمل على تحقيق السور الثلاث "يوسف والحجر والنحل".
ثم ختمت البحت بخاتمة بينت فيها أهم نتائج البحث.
وذيلت الرسالة بعمل فهارس عامة على النحو التالي:-
١- فهرس الآيات القرآنية. وقد اكتفيت فيه بفهرس الآيات المستشهد بها أو الواردة في غير موضعها. أما الواردة في موضعها من التحقيق فلم أفهرسها لتسلسلها مع معرفة سورها.
٢- فهرس الأحاديث والآثار.
٣- فهرس الأعلام.
٤- فهرس المراجع العامة.
٥- فهرس الموضوعات.
هذا وقد بذلت جهدي لإظهار هذه الرسالة بالمظهر اللائق على اعتراف مني بالتقصير وحسبي أني لفت الأنظار إلى جانب مهم من جوانب حياة الشيخ محمد بن عبد الوهاب "﵀".
فإن أصبت ووفقت فذلك من فضل الله فله الحمد والمنة، وإن أخطأت فمن نفسي وأستغفر الله.
هذا وفي الختام أشكر الله ﷿ أولًا وآخرًا على ما من به من التوفيق والسداد والنعم العظيمة التي لا تحصى وأسأله المزيد والقبول.
ثم أشكر الجامعة الإسلامية التي كان لنا شرف الانتماء إليها وتلقي العلم الشرعي المستمد من كتاب الله وسنة رسوله على منهج السلف الصالح في أحضانها.
1 / 8
وأسأل الله ﷿ لها مزيد التوفيق والثبات على منهجها السني.
كما أسأله أن يجزي كل من ساهم فى إنجاز هذه الرسالة أو كان له بها أي علاقة خير الجزاء.
وأسأله تعالى آن يلهمنا رشدنا ويقينا شرور أنفسنا ويختم بالصالحات أعمالنا.
وصلى الله وسلم على نبينا محمد وعلى آله وصحبه أجمعين.
وآخر دعوانا أن الحمد لله رب العالمين.
الطالب
مسعد بن مساعد الحسيني
1 / 9
التمهيد
تناول كثير من الباحثين دراسة جوانب عديدة من حياة الشيخ الخاصة والعامة فدرسوا بيئته ونشأته ودعوته الإصلاحية دراسات مستفيضة جلت جوانب كثيرة منها١، ولم تحظ أي دعوة إصلاحية في العصر الحديث بمثل ما حظيت به هذه الدعوة من الدراسة والتحليل، ولا نكاد نجد دراسة لأحوال جزيرة العرب في القرن الثاني عشر الهجري إلا وتعرضت لذكر هذه الدعوة والقائم بها.
فلا حاجة بي إذًا إلى الإفاضة في ذكر تلك الجوانب التي استبانت إذ لست هنا بمقام المؤرخ، وإنما أحببت أن أعطي القارئ إلمامه بهذا العلم الهمام، ونشأته، وأصل دعوته، وما يتعلق بذلك لتتبين له المنزلة العلمية لمن أنا بصدد دراسة منهجه في التفسير. مع الإحالة إلى بعض المراجع الموسعة لمن أحب التوسع والاستزادة.
فأقول وبالله التوفيق:-
_________
"١" من أشهر من كتب في ذلك وأكثرت من النقل عنهم:
١- العلامة المؤرخ أبو بكر حسين بن غنام. في "روضة الأفكار والأفهام".
٢- العلامة المؤرخ عثمان بن عبد الله بن بشر. في "تاريخ نجد".
٣- الشيخ عبد اللطيف بن عبد الرحمن بن حسن في مجموعة الرسائل والمسائل النجدية "٣: ٣٧٩ وما بعدها".
٤- الشيخ عبد الرحمن بن محمد بن قاسم في "الدرر السنية" "١٣: ٣ وما بعدها".
٥- الشيخ أحمد بن حجر آل بوطامي في "الشيخ محمد بن عبد الوهاب. عقيدته السلفية، ودعوته الإصلاحية، وثناء العلماء عليه".
٦- الدكتور صالح العبود في "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي".
٧- الدكتور عبد الله الصالح العثيمين في "الشيخ محمد بن عبد الوهاب. حياته وفكره".
1 / 2
أولًا: البيئة من حول الشيخ١:
درس كثير من الباحثين البيئة التي قام فيها الشيخ بدعوته، واتفق أهل التحقيق منهم على أن العصر الذي نشأ فيه قد انتشرت فيه الضلالة، وعمت الجهالة، وطمست فيه أنوار الهداية، وذلك بطمس أسها وملاكها وهو توحيد العبادة وعدم تحققه في قلوب كثير من العباد، حيث ارتكس كثير من الناس في أوحال الشرك، وارتدوا إلى الجاهلية، لغلبة الجهل عليهم وقلة أو عدم المرشد لديهم، واستعلاء ذوي الأهواء والضلال عليهم. فنبذوا كتاب الله وسنة رسوله ﷺ وراء ظهورهم معرضين عن تدبرهما والاهتداء بهما متبعين لأهوائهم وما كان عليه آباؤهم وأجدادهم ولسان حالهم يقول: ﴿إِنَّا وَجَدْنَا آبَاءَنَا عَلَى أُمَّةٍ وَإِنَّا عَلَى آثَارِهِمْ مُقْتَدُونَ﴾ ٢.
فعدلوا عن عبادة رب العباد إلى عبادة العباد، إذ عدلوا إلى عبادة الأولياء والصالحين، وتقديسهم، والتبرك بهم، ودعائهم في تفريج الكربات وقضاء الحاجات، وتقديم القرابين والنذور لهم، وزين لهم الشيطان أعمالهم فصدهم عن السبيل ويحسبون أنهم مهتدون.
وكما عبد الأولياء والصالحون، فقد عبدت الأغوار والأشجار والأحجار في كثير من الأقطار.
ولم تكن غير نجد من البلدان بأحسن حالا منها، بل عمها طغيان الجهالة والضلالة، فنحو ما في نجد كان يوجد في سائر الأقطار والبلدان في جدة واليمن
_________
١ انظر وصف ابن غنام للبيئة من حول الشيخ في روضة الأفكار "١: ٥- ١٤" فقد ذكر ما يندى له الجبين، وتقشعر منه الأبدان.
وقد أفاض شيخنا الدكتور/ صالح العبود في وصف البيئة من حول الشيخ في العالم الإسلامي، وضمنها نقولًا كثيرة فراجعها في كتابه "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب السلفية، وأثرها في العالم الإسلامي "١: ٢١- ٦٤".
٢ سورة الزخرف: آية "٢٣".
1 / 3
وحضرموت وما جاورها، ومصر وصعيدها، والشام ونواحيها والموصل وبلاد الأكراد. كما لم يسلم الحرمان الشريفان من ذلك الطغيان، بل أصابها ما أصاب غيرها، فكان طوائف من الوفود والأعراب يأتون فيها من الفسوق والضلال والعصيان ما يملأ القلب أسى وحزنًا إذ عبدت المآثر والقبور وارتكبت المحارم وانتهكت الحدود، ولا حول ولا قوة إلا بالله.
وأما العلماء فإنهم ما بين مقتصر على درسه وحلقته لا يتجاوزها إلى مجتمعه لعلاجه، أو متأسف عاجز، أو مجامل للعامة والرؤساء مشفق على مركزه خائف زواله بالإنكار عليهم، أو صاحب مصلحة في الضلالة كما يزين له الشيطان – والعياذ بالله- أو جاهل بأصل الدين وحقيقته.
فكان الناس في أمس الحاجة إلى عناية إلهية تنقذهم مما هم فيه من ضلال وغي وتعيدهم إلى رشدهم ودينهم القويم.
فتجلت تلك العناية الإلهية في ذلك المرشد الموفق، والمصلح المسدد، الذي ألهمه الله رشده ونور بصيرته وهو الشيخ محمد بن عبد الوهاب الذي عرف حقيقة التوحيد وأصله وأنه أعظم ما دعا إليه القرآن وهو الغاية من خلق الناس وبعث الرسل كما يتبين ذلك من القرآن في غير موضع كما قال تعالى: ﴿وَمَا خَلَقْتُ الْجِنَّ وَالْأِنْسَ إِلَّا لِيَعْبُدُونِ﴾ ١. وقال: ﴿وَلَقَدْ بَعَثْنَا فِي كُلِّ أُمَّةٍ رَسُولًا أَنِ اعْبُدُوا اللَّهَ وَاجْتَنِبُوا الطَّاغُوتَ﴾ ٢. وقال: ﴿وَمَا أَرْسَلْنَا مِنْ قَبْلِكَ مِنْ رَسُولٍ إِلَّا نُوحِي إِلَيْهِ أَنَّهُ لا إِلَهَ إِلَّا أَنَا فَاعْبُدُونِ﴾ ٣، وعرف ما عليه كثير من الناس من أعمال مضادة للتوحيد ومناقضة أو قادحة فيه، فقام بدعوته إلى الله، وبين للناس ولفت أنظارهم إلى ما تضمنه كتاب الله وسنة رسوله ﷺ، من دلائل التوحيد، ونصب أعلامه وجاهد في سبيل ذلك حتى عاد للعقيدة نقاؤها وصفاؤها.
_________
١ سورة الذاريات: آية "٥٦".
٢ سورة النحل: آية "٣٦".
٣ سورة الأنبياء: آية "٢٥".
1 / 4
ثانيًا:- نسب الشيخ ومولده وأسرته ونشأته.
نسبه:
هو الشيخ محمد بن عبد الوهاب بن سليمان بن علي بن محمد بن أحمد بن راشد بن بريد بن محمد بن بريد بن مشرف الوهيبي التميمي١.
وأما أمه فهي بنت محمد بن عزاز المشرفي الوهيبي التميمي. فهي من عشيرته الأدنين٢.
مولده:
ولد الشيخ سنة "١١١٥" خمس عشرة وألف ومائه من الهجرة النبوية في بلدة "العيينة" من بلدان نجد٣.
أسرته ونشأته:
نشأ الشيخ في أسرة علمية دينية. وذلك أن "آل مشرف" الذين ينتمي إليهم الشيخ قد برز منهم علماء أفذاذ، وقضاة، كانت لهم المكانة العلمية الظاهرة.
والمتتبع للمصادر التاريخية يلحظ بوضوح أنه منذ القرن العاشر الهجري لمعت أسماء علماء من "آل مشرف" المذكورين، منهم القاضي: عبد القادر بن بريد المشرفي، وأحمد بن مشرف، تلميذ أبي النجا الحجاوي، مصنف الإقناع وزاد المستنقع وغيرهما٤.
أما إذا انتقلنا إلى أسرته الأقربين فإنا نجد أن جده الشيخ سليمان بن علي قد تولى القضاء في روضة سدير، ثم في العيينة، وكان فقيهًا غزير المعرفة، علامة زمانه، ومرجع علماء نجد في زمنه. وقد ألف منسكا سماه "تحفة الناسك في أحكام المناسك" ٥.
_________
١ انظر روضة الأفكار والأفهام لابن غنام "٢٥:١".
٢ انظر علماء نجد خلال ستة قرون للبسام "٢٦:١".
٣ روضة الأفكار والأفهام "١: ٢٥".
٤ انظر عنوان المجد "١: ٢٢" "سابقه" وعلماء نجد "٢: ٤٩٢" وكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب، حياته وفكره ص "٢٦".
٥ انظر عنوان المجد "٦٢:١" وعلماء نجد "٣٠٩:١-٣١٣".
1 / 5
وأما أبوه الشيخ عبد الوهاب:-
فقد ولد في "العيينة" في كنف والده، فتلقى العلم والفقه على يديه كما تلقى عن غير من العلماء حتى تضلع في الفقه، فولي قضاء "العيينة" بعد أبيه، ثم أنتقل منها إلى "حريملاء" ونشأ الشيخ في بيت أبيه الذي كان من الطبيعي أن يكون ملتقى طلاب العلم وخواص العلماء الذين لا تخلو مجالسهم من مسائل علمية ومناقشات بصفته منزل القاضي فكان يحضر تلك المجالس، إضافة إلى قربه مما يعرض لأبيه من قضايا شرعية، وما يحكم به على مرأى منه ومسمع فكان لهذا الأثر في حياة الشيخ وشغفه بالعلم وتزوده منه١.
وأما عمه الشيخ إبراهيم بن سليمان:-
فكان على قدر من العلم والفقه، وقد تلقى عن والده، وكان كثير الإقامة مع أخيه عبد الوهاب قال البسام: وقد ولي القضاء في بلدة "أشيقر" ورأيت له حكمًا في بعض عقاراتها٢.
وفى هذه الأسرة الدينية العريقة ولد الشيخ ونشأ فأنبته الله نباتًا حسنًا إذ ترعرع في كنف والده، فحفظ القرآن قبل بلوغه العاشرة من عمره، وكان حاد الفهم، وقاد الذهن، ذكيًا، سريع الكتابة والحفظ.
فقرأ على أبيه الفقه فبرز فيه.
وجد في طلب العلم وأدرك وهو في سن مبكرة حظًا وافرًا من العلم، حتى إن والده كان يتوسم فيه مخايل النجابة والذكاء، ويتعجب من فهمه وإدراكه ويذكر أنه استفاد منه بعض الفوائد. وقد كتب إلى بعض إخوانه رسالة نوة فيها بشأن ابنه، وأثنى عليه، وعلى حفظه وفهمه وإتقانه، وذكر فيها أن ابنه بلغ الاحتلام قبل أن يكمل اثنتي عشرة سنة من عمره، وأنه رآه حينئذٍ أهلًا للصلاة بالجماعة لمعرفته بالأحكام فقدمه ليؤم الناس، وزوجه وهو
_________
١ انظر: عنوان المجد "١: ٩٠" وكتاب "الشيخ محمد بن عبد الوهاب/ حياته وفكره" ص "٢٩".
٢ انظر: عنوان المجد "١: ٩٠" والدرر السنية "٩: ٢١٥" وعلماء نجد "١: ١١٠".
1 / 6
ابن اثنتي عشرة سنة بعد البلوغ.
ثم استأذن أباه في الحج فأذن له فحج ثم قصد مدينة الرسول "ﷺ" وأقام فيها قرابة شهرين ثم عاد إلى نجد فلزم أباه، وأخذ في القراءة عليه في الفقه على مذهب الإمام أحمد١.
وكان "﵀" في صغره كثير المطالعة في كتب التفسير والحديث وكلام العلماء في أصل الإسلام، فشرح الله صدره لمعرفة التوحيد وتحقيقه، ومعرفة نواقضه المضلة عن طريقه. وتبين له ما وقع فيه كثير من الناس من البدع والشركيات وتقديس الأشجار والأحجار والمشاهد وما إلى ذلك. فكان ينهى عن ذلك وينكره، ويستدل عليه بالآيات البينات، ويحث الناس على تدبرها وفهمها فاستحسنه منه كثير من الناس، إلا أنهم لم ينهوا عما فعل الجاهلون٢.
فلما رأى أن القول لا يغني وحده صمم على مزيد من التزود بالعلم، الذي يكون معه سلاحًا في وجه قوى الشر والطغيان٣، فلم تقف طموحه وآماله عند مجرد الأخذ عن أبيه في بلده بل رغب في الرحلة في طلب العلم.
_________
١ انظر فيما تقدم روضة الأفكار والأفهام"١: ٢٥، ٢٦" وتاريخ نجد "١: ٦" والدرر السنية "٩: ٢١٥" "١٢: ٤".
٢ تاريخ نجد "١: ٦، ٧"
٣ المرجع السابق "٧:١" بتصرف. وانظر: عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب للدكتور صالح العبود ص "٨٠، ٨١".
1 / 7
ثالثًا- رحلاته العلمية:
بعد أن نهل الشيخ من منهل أبيه الذي يغلب عليه الجانب الفقهي تطلع إلى المزيد وذلك بالسير على منهج الأسلاف في الرحلة في طلب العلم الشرعي مهما كلف ذلك من مشقة وعناء.
فبدأ هذه الرحلات الميمونة بحج بيت الله الحرام، فلما قضى حجه سار إلى المدينة النبوية فقضى بها زمنًا أخذ فيه العلم عن علمائها المشهورين في ذلك الزمان، ومنهم الشيخ عبد الله بن إبراهيم بن سيف النجدي ثم المدني، الذي أجازه من طريقين١، كما أجازه في كل ما حواه ثبت الشيخ عبد الباقي أبي المواهب الحنبلي قراءة وتعلمًا وتعليمًا من صحيح البخاري بسنده إلى مؤلفه، وكذا صحيح مسلم وشروح كل منهما، وسنن الترمذي وسنن أبى داود وسنن ابن ماجة وسنن النسائي الكبرى وسنن الدرامي وكتب القراءات واللغة ... إلى غير ذلك مما ثبت في ثبت الشيخ عبد الباقي٢.
وكان أول ما سمع من الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي من الحديث الحديث المسلسل بالأولية المروي عن عبد الله بن عمرو بن العاص قال: قال رسول الله ﷺ: "الراحمون يرحمهم الرحمن، ارحموا من في الأرض يرحمكم من في السماء" ٣.
كما سمع منه مسلسل الحنابلة المروي عن ابن عدي عن حميد عن أنس بن مالك ﵁ قال: قال رسول الله ﷺ: "إذا أراد الله بعبده خيرًا استعمله".
قالوا: كيف يستعمله؟
_________
١ انظر روضة الأفكار"١: ٢٦" والدرر السنية "١٢: ٤".
٢ التوضيح عن توحيد الخلاق ص "١٧" عقيدة الشيخ: للدكتور العبود ص "٩٦".
٣ روضة الأفكار "١: ٢٦، ٢٧" والدرر السنية "١٢: ٤". والحديث رواه أحمد في مسنده "٢:١٦" وأبو داود قي سننه/ كتاب الأدب/ باب في الرحمة "٤: ٢٨٥" ح "٤٩٤١".
والترمذي في جامعه/ كتاب البر والصلة/ باب ما جاء في رحمة المسلمين "٤: ٣٢٣، ٣٢٤"، ح "١٩٢٤" وقال حسن صحيح. والحاكم في مستدركه "٤: ١٥٩" وصححه ووافقه الذهبي. وغيرهم كما صححه من المعاصرين الشيخ ناصر الدين الألباني في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح "٩٢٥" وانظر المقاصد الحسنة للسخاوي ص"١٠٠"ح "٨٨".
1 / 8
قال: "يوفقه لعمل صالح قبل موته" ١.
ثم وصل الشيخ عبد الله بن إبراهيم النجدي حبل الشيخ بحبل المحدث الشيخ محمد حياة السندي وعرفه به وبأهله، فأقام الشيخ عنده وأخذ عنه، وتأثر به كثيرًا٢.
قال ابن بشر٣: وحكي أن الشيخ محمدًا وقف يومًا عند الحجرة النبوية عند أناس يدعون ويستغيثون عند حجرة النبي ﷺ، فرآه محمد حياة فأتى إليه فقال الشيخ: ما تقول في هؤلاء؟ قال: ﴿إِنَّ هَؤُلاءِ مُتَبَّرٌ مَا هُمْ فِيهِ وَبَاطِلٌ مَا كَانُوا يَعْمَلُونَ﴾ ٤.
فأقام الشيخ في المدينة ما شاء الله يأخذ عن علمائها، ثم خرج منها إلى نجد، فقصد بلدة العيينة، وأقام بها قرابة سنة ثم تجهز إلى البصرة٥.
وفي البصرة:
سمع الحديث والفقه من جماعة كثيرين، وقرأ بها النحو وأتقنه، وكتب الكثير من الحديث واللغة٦.
وكان من أشهر من أخذ عنه الشيخ من علماء البصرة عالم يدعى الشيخ: "محمد المجموعي" ٧.
_________
١ انظر روضة الأفكار "١: ٢٧" والدرر السنية "١٢: ٤".
والحديث رواه أحمد في مسنده "٢٢٤:٥" والحاكم في مستدركه "١: ٣٤٠".
وصححه ووافقه الذهبي. كما صححه الألباني من المعاصرين في سلسلة الأحاديث الصحيحة ح "١١١٤".
٢ مصباح الظلام ص "١٣٩" وكتاب محمد بن عبد الوهاب.. لأحمد بن حجر آل بوطامي ص١٩.
٣ عنوان المجد "٧:١".
٤ سورة الأعراف: آية "١٣٩".
٥ عنوان المجد "٧:١" ومشاهير علماء نجد "١٧".
٦ انظر روضة الأفكار "٢٧:١" ومجموعة الرسائل والمسائل النجدية "٣: ٣٨٠".
٧ عنوان المجد "١: ٨".
1 / 9
وكان الشيخ في أثناء مقامه في البصرة ينكر ما يرى ويسمع من الشرك والبدع، ويحث على طريق الهدى والاستقامة، ويبين دلائل التوحيد، ويعلن للناس أن الدعوة كلها لله ولا يجوز صرف شيء منها لغير الله، ويبين لهم أن دعاء الصالحين ليس من محبتهم في شيء، وإنما محبتهم باتباعهم فيما كانوا عليه من الهدى والدين١.
وقد كان لدعوته قبول حسن لدى شيخه المجموعي، إذ قرر الشيخ له توحيد العبادة، ومعنى لا إله إلا الله، فانتفع شيخه بذلك حتى لقد قال ابن بشر:
أخبرني شيخنا القاضي عثمان بن منصور الناصري قال: أخبرني رجل في مجموعة البصرة بأن أولاد ذلك العالم الذي قرأ عليه الشيخ محمد هم أحسن أهل بلدهم بالصلاح، ومعرفة التوحيد، وهذا – والله أعلم- ببركة اجتماع بوالدهم٢.
ثم رحل الشيخ إلى الأحساء:
قال الشيخ عبد الرحمن بن حسن: "ثم إن شيخنا "رحمه الله تعالى" بعد رحلته إلى البصرة رحل إلى الأحساء ثم رجع من الأحساء إلى البصرة" ٣.
ومن العلماء الذين أخذ عنهم الشيخ في الأحساء الشيخ عبد الله بن محمد بن عبد اللطيف الشافعي الأحسائي، وأجازه بما في ثبت الشيخ عبد الباقي، كما لقي الشيخ عبد الله بن فيروز وغيرهم٤.
_________
١ روضة الأفكار "١: ٢٧، ٢٨" والمحرر "١: ٧٦".
٢ عنوان المجد "١: ٨".
٣ الدرر السنية "٩: ٢١٦".
٤ انظر عنوان المجد "١: ٨" والدرر السنية "٩: ٢١٦" وتحفة المستفيد بتاريخ الأحساء القديم والجديد "١: ١٢٥" "٢: ٧٤" وكتاب الشيخ محمد بن عبد الوهاب.. لأحمد بن حجر آل بوطامي ص"١٩".
والأحسائي المذكور له ذكر في عنوان المجد "١: ٨" والدرر السنية "٩: ٢١٦" وتحفة المستفيد "١: ١٢٥" "٢: ٧٤" ويذكر من المناوئين للدعوة. انظر دعاوى المناوئين ص "٤٢".
وابن فيروز هو: عبد الله بن محمد بن عبد الوهاب بن عبد الله بن محمد بن فيروز الوهيبي التميمي ولد سنة "١١٠٥" هـ وأخذ عن والده وخاله الشيخ عبد الوهاب ابن سليمان بن علي وغيرهما، مهر في الفقه وأصوله وأصول الدين وغيرها. وكان سلفي العقيدة. وتوفي سنة "١١٧٥"هـ.
قاله ابن بسام في "علماء نجد خلال ستة قرون" "٢: ٦٢٧، ٦٢٨".
1 / 10
ثم إن الشيخ في البصرة استمر على ما كان عليه من النصح والإرشاد، وبيان التوحيد الخالص، والتحذير مما يشو به من بدع وشركيات، مما لم يرق لأهل المصالح من علماء السوء وأعداء التوحيد الذين وشوا به عند ملأ البصرة وأعيانها فآذوه أشد الأذى وأخرجوه في وقت الهاجرة١.
قال ابن بشر: فلما خرج وتوسط في الدرب فيما بينها وبين بلد "الزبير" أدركه العطش، وأشرف على الهلاك، وكان ماشيًا على رجليه وحده، فوافاه صاحب حمار مكارى يقال له أبو حميدان فسقاه وحمله على حماره حتى وصل "الزبير" ٢.
ويذكر الشيخ عبد الرحمن بن حسن أن الشيخ خرج من البصرة إلى نجد قاصدًا الحج فحج "﵀"، فلما قضى حجه وقف في الملتزم وسأل الله أن يظهر هذا الدين بدعوته وأن يرزقه القبول من الناس، فخرج قاصدًا المدينة مع الحجاج يريد الشام فعرض له بعض سراق الحجيج فضربوه وسلبوه، وأخذوا ما معه، وشجوا رأسه وعاقه ذلك عن مسيره مع الحجاج، فقدم المدينة بعد أن خرج الحاج منها ثم رجع منها إلى نجد٣.
وعندما تيمم نجدا قصد بلدة حريملاء إذ كان أبوه قد انتقل إليها، فاستقر معه فيها بما حمله من علم سني جم من جراء تنقله خلال رحلاته العلمية، بين كثير من مراكز العلم في زمنه كالمدينة والبصرة والأحساء وغيرها.
وقبل هذه المرحلة وأثناءها أخذ الشيخ عن مشائخ فضلاء وعلماء أجلاء في نجد والمدينة والبصرة والأحساء، وحصل على إجازات منهم، وكتب كثيرًا من كتب السنة وكتب ابن تيمية وابن القيم، وكان ينكر ما يراه مخالفًا للإسلام إنكارًا لفت الأنظار إليه، وجعله مستهدفًا بالأذى والإخراج
_________
١ مشاهير علماء نجد "١٧، ١٨".
٢ عنوان المجد: "١: ٨" باختصار بسيط.
٣ الدرر السنية "٩: ٢١٥، ٢١٦" باختصار. وانظر "عقيدة الشيخ للدكتور العبود ص "٨٤"".
1 / 11
كما حصل له في البصرة١.
وعندما استقر بالشيخ المقام في نجد لم تنقطع صلته بالعلم بل كان كما يذكر الشيخ عبد الرحمن بن عبد اللطيف يقرأ على والده، وبعد فراغه من القراءة يخلو بنفسه ويعكف على دراسة الكتاب والسنة وتفاسير علماء السلف الأجلاء وشروحهم بتدبر وإمعان، فبلغ ﵀ الغاية القصوى، والطريقة المثلى في معرفة معاني الكتاب والسنة، واستنباط ما فيها من الأسرار الشرعية، والأحكام الدينية، وأكب معهما على مطالعة مؤلفات شيخ الإسلام ابن تيمية، وتلميذه ابن القيم، فأزداد بهما علمًا وتحقيقًا وعرفانًا، وبصيرة في كتاب الله تعالى وإدراكًا لمعانيه وأسراره والاهتداء به في شئون الحياة٢.
وفي هذه الفترة كان مستمرًا على إنكار ما يفعله الجهال من البدعيات والشركيات في الأقوال والأفعال، حتى توفي والده سنة "١١٥٣" ثلاث وخمسين ومائه وألف من الهجرة النبوية. فحينئذ شمر عن ساعد الجد للقيام بدعوته الإصلاحية٣.
_________
١ انظر: "عقيدة الشيخ محمد بن عبد الوهاب.." لشيخنا الدكتور العبود ص "٨٨".
٢ انظر: مشاهير علماء نجد ص "١٨". بتصرف وزيادات.
٣ انظر: عنوان المجد "١: ٨،٩"
1 / 12