The Linguistic Miracles in the Quran - Madinah University
الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم - جامعة المدينة
Mai Buga Littafi
جامعة المدينة العالمية
Nau'ikan
-[الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم]-
كود المادة: IUQR٣٢١٣
المرحلة: بكالوريوس
المؤلف: مناهج جامعة المدينة العالمية
الناشر: جامعة المدينة العالمية
عدد الأجزاء: ١
[ترقيم الكتاب موافق للمطبوع]
Shafi da ba'a sani ba
الدرس: ١ مقدمة في وجوه الإعجاز
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الأول
(مقدمة في وجوه الإعجاز)
ماذا نعني بإعجاز القرآن؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم إنك حميد مجيد؛ وبعد:
فهذه المادة المباركة من المواد التي ينبغي أن يحرص المسلم على تعلمها؛ لأنها تربطه بكتاب ربه ﷾.
وموضوع درسنا هو: "مقدمة في وجوه الإعجاز".
فقبل الدخول في تفاصيل المنهج والخوض في جزئياته التي نتناولها بالدراسة، لا بد أن نقف مع مجموعة من الأسئلة، يتبين لنا من خلال الإجابة عنها أهمية المادة التي ندرسها؛ وذلك يحفّز همم الطلاب للاهتمام بها عقلًا وحسًّا لما فيها من ثمار تعود على كل منا بالنفع في أمر دينه ودنياه، وهذه الأسئلة أيها الطلاب الكرام تعد بمثابة التمهيد والمدخل للدراسة:
أولًا: ماذا نعني بإعجاز القرآن؟
ثانيًا: ما الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات التي اختص بها الله رسله؟
ثالثًا: ما أوجه الإعجاز في القرآن الكريم؟
رابعًا: كيف تحدى نبينا الكريم -صلوات الله وسلامه عليه- العرب بالقرآن الكريم؟
خامسًا: لماذا ينصب اهتمامنا حول الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم؟
1 / 9
وأخيرًا: ما ثمرة دراسة إعجاز القرآن؟
نبدأ بالسؤال الأول وهو: ماذا نعني بإعجاز القرآن؟
الإجابة عن هذا السؤال تتطلب منا توضيح المقصود بكلٍّ من الإعجاز والقرآن:
فالإعجاز في اللغة: من العجز وعدم القدرة والاستطاعة، فنقول: عجز فلان عن فعل كذا؛ أي عن القيام به، والقدرة على إنفاذه وفعله، ويقال: أعجزني فلان: إذا عجزت طلبه وإدراكه؛ ومن ثم سُميت آيات الرسل معجزات؛ لظهور عجز المرسَل إليهم عن معارضتها بأمثالها.
المعجزة في اصطلاح العلماء: أمرٌ خارق للعادة، مقرون بالتحدي، سالم من المعارضة.
والقرآن: مصدر قرأ على وزن فُعلان بالضم، كالغفران والشكران، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ * فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ (القيامة: ١٨). ثم صار لفظ القرآن علما شخصيّا على الكتاب المنزل على محمد ﷺ وهو الأغلب في استخدامه في كتاب الله، ومنه قوله تعالى: ﴿إِنَّ هَذَا الْقُرْآنَ يَهْدِي لِلَّتِي هِيَ أَقْوَمُ﴾ (الإسراء: ٩).
وروعي في تسميته كونه مقروءًا أي متلوًّا بالألسن، وحده العلماء بأنه كلام الله تعالى المنزل على محمد ﷺ المتعبد بتلاوته؛ كلام الله تعالى يُخرج كلام البشر وكلام غيرهم من المخلوقات، فهو كلام الله ﷿ والمنزل على محمد ﷺ يُخرج سائر الكتب التي أنزلت على الرسل من قبله كالتوراة والإنجيل وصحف إبراهيم والزبور على داود ﵇ والمتعبد بتلاوته: يُخرج ما لا يتعبد بتلاوته مما هو مقدس ومما هو له قدسيته عند المسلمين؛ كأحاديث النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- والأحاديث القدسية
1 / 10
والقراءات التي توسم بأنها قراءات آحاد، لا تصل إلى حد التواتر؛ فلا يتعبد بتلاوتها.
وعرّف شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ القرآن في (العقيدة الواسطية) بأنه: كلام الله منزّل غير مخلوق، منه بدأ وإليه يعود، تكلم به حقيقة، وألقاه إلى جبريل، فنزل به على محمد ﷺ.
فاهتمّ ﵀ في حده بإبطال قول أهل الزيغ والضلال بخلق القرآن.
ومن خلال بيان معنى الإعجاز والقرآن، يتضح المقصود بإعجاز القرآن، وهو:
إعجازه الناس أن يأتوا بمثله لعدم قدرتهم على ذلك، أو إثبات القرآنِ عجزَ الخلقِ عن الإتيان بما تحداهم به، أو كما قال أبو البقاء في (الكليات): ارتقاؤه في البلاغة إلى أن يخرج عن طوق البشر ويعجزهم عن معارضته.
الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات
أما السؤال الثاني الذي طرحناه وهو: الفرق بين معجزة القرآن وسائر المعجزات:
فالإجابة عنه نحتاجها لبيان ما اختصّ به الله ﷾ خير الأنام محمد -صلوات الله وسلامه عليه- دون سائر الرسل والأنبياء، فما من نبي إلا وكان معه آية صدقه ودليل تفضيله على من أُرسل إليهم بالاصطفاء، فالله يصطفي من خلقه ما يشاء ﴿وَرَبُّكَ يَخْلُقُ مَا يَشَاء وَيَخْتَارُ مَا كَانَ لَهُمُ الْخِيَرَةُ﴾ (القصص: ٦٨).
هذا الاصطفاء وهذا الاختيار من الله ﷾ سُنة سَنها في إرساله الرسل؛ أن يكون معهم ما يثبت أنهم يُخالفون من أرسل إليهم فيأتون أقوامهم بما يَعجزون عنه في وقتٍ يُعلم فيه أن هؤلاء يبرعون فيما عجزوا عنه؛ بمعنى: أن ما من رسول
1 / 11
يرسل إلى قوم إلا بمعجزة من جنس ما برعوا فيه؛ ليثبت لهم أنه يختلف عنهم، وأنه مرسل من قِبَل ربه ﷾.
مثال: عندما ظن السحرة أنهم بلغوا في هذا الفن منتهاه جاء موسى ﵇ ليُبطله بعصاه، وعندما برع بعد ذلك بنو إسرائيل في الطب جاءهم عيسى ﵇ بما يَعجز الأطباء عنه، فما من طبيب يستطيع أن يُحيي الموتى، فجاء عيسى ﵇ بمعجزة إحياء الموتى، وكذلك الأمراض التي لا علاج لها كالعمى والبرص جاءهم عيسى ﵇ ليبرئ الأكمه والأبرص، فكانت هذه المعجزات الحسية دليلًا على صدق نبوتهم ﵈ وعلى أنهم مرسلون من قبل الله ﷾ كذلك معجزة النبي ﷺ مع العرب، لما ارتقى العرب ذروة الفصاحة والبيان جاءهم القرآن؛ ليعلمهم أن لا قول ولا كلام ولا شيء مما برعوا فيه من فنون الأدب -شعرها ونثرها وسجعها وغيرها من الأرجاز والمسجوع والفنون التي برع فيها العرب أيما براعة- أن كل ذلك لا يضاهي القرآن ولا يشابه القرآن في شيء وأن القرآن نسق يختلف عما يتداولونه في كلامهم وفي آدابهم التي بلغوا فيها القمة ووصلوا إلى أعلى درجاتها.
هذا يتفق فيه الرسل.
إذًا ما الفرق بين القرآن وبين المعجزات الأخر؟
نقول: إن الفرق بين القرآن وبين المعجزات السابقة يتركز في ثلاث نقاط:
الأولى: هي أن معجزة الأنبياء حسية، حسية بمعنى مُشاهدة، يؤمن بها من رآها بعينه، ومن لم يرها قد ينكرها؛ لأنها بالنسبة له خبر إن شاء صدقه وإن شاء رفضه، بمعنى: أنه موسى ﵇ مع قومه شاهدوا أن البحر قد انشق وأنه
1 / 12
جمدت فيه المياه وشكّلت هيئة جبل ومر موسى ﵇ ومن معه ثم عاد البحر كما كان قبل أن يمر موسى ﵇ ومن معه، وكذلك عيسى ﵇ عندما أحيا الموتى وأبرأ الأكمه والأبرص، نظروا في هذا المعجزة وعلموها مع وجود عيسى ﵇ وشاهدوها بأعينهم، فهذه المعجزات التي أتى بها الأنبياء حتى معجزة إبراهيم ﵇ عندما حطم الأصنام وعندما جابه أهل الأوثان وبين لهم فساد معتقداتهم وجاءوا به ﵇ ليجعلوه عبرة لمن يتطاول على آلهتهم وسعّروا النيران وجعلوها مؤججة عالية تلتهم أي شيء يقربها حتى أن الطير إذا حام حولها سقط فيها من شدة لهيبها، هذه النيران التي جعلوها ليُلقوا فيها إبراهيم ﵇ على أعين الناس لعلهم يشهدون، هذه النيران سُلبت خاصيتها وهي الإحراق، فدخل إبراهيم ﵇ وجلس هانئًا مطمئنًا لا يشعر بحرها، بل إنها كانت بردًا وسلامًا عليه، ﴿قُلْنَا يَا نَارُ كُونِي بَرْدًا وَسَلاَمًا عَلَى إِبْرَاهِيم﴾ (الأنبياء: ٦٩) هذه المعجزات لا يعرفها إلا من شهدها فهو يؤمن بها، أما من جاء بعدهم كانت بالنسبة له أخبار تحكى، وقول يسمعه إن آمن به آمن وإن جحد به كان له أن ينكر ذلك ويدعي أنه لا يصدقه.
هذا بالنسبة لمعجزات الأنبياء، أما القرآن على خلاف هذا، القرآن معجزة عقلية باقية خالدة إلى أن تقوم الساعة، القرآن حتى الآن هو معجزة النبي ﷺ الذي يُتحدى بها كل من لا يؤمن به، الذي لا يؤمن بالقرآن يقال له: ﴿فَأْتُواْ بِسُورَةٍ مِّن مِّثْلِهِ﴾ (البقرة: ٢٣) يقال له: هذا كتاب الله ﷿ أنزله على رسوله صدقًا إلى أن تقوم الساعة وإلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، فليس بالمعجزة الحسية وإنما هو معجزة عقلية، هذه هي النقطة الأولى.
1 / 13
النقطة الثانية: أن معجزات الأنبياء ﵈ من فعل الله ﷿ أجراه على أيديهم، وفعل الله ﷿ يزول بزوال من أُجري على يديه هذا الفعل؛ يعني بعد رفع عيسى ﵇ إلى السماء وبعد موت موسى ﵇ هذه المعجزات التي كانت تُرى على أيديهم لا تُرى؛ لأنها من فعل الله ﷿ أجراه على أيدي النبيين الكريمين، فلما انقضى وقت إرسالهما زالت هذه المعجزة مع عدم وجودهما ﵉ أما معجزة القرآن هي صفة من صفات الله ﷿ والصفة باقية؛ لأنها كلام الله ﷾ فالصفة باقية ببقاء فاعلها ﷾.
أما النقطة الثالثة: هي أن الرسل الذين أنزلت عليهم الكتب "التوراة، والإنجيل، والزبور، وصحف إبراهيم" الرسل الكرام الذين أنزلت عليهم الكتب- لم تكن الكتب هي معجزتهم التي أرسلوا بها، وإنما كانت الكتب بالنسبة إليهم منهاجًا يسيرون عليه وشرعًا يحتكمون إليه ويوجهون أتباعهم إليه، فكانت لهم معجزات بخلاف الكتب المنزلة عليهم، ورسولنا الكريم ﷺ كانت معجزته هي عين منهجه؛ بمعنى أن القرآن منهج ومعجزة؛ القرآن منهج وضعه الله ﷾ للأنام ليسيروا عليه وليعلموا شرع ربهم، وكذلك هو معجزة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
هذا لا يعني أننا نقول: إن النبي ﷺ لم يكن له معجزات حسية، لا، كان النبي ﷺ له معجزات حسية مشاهدة كما ثبت في الصحيح من حنين الجذع إليه، ومن قول الشاة له؛ إنها مسمومة، وغير ذلك مما ذكر في الصحاح ومما ثبت من معجزات مشاهَدة لنبينا ﷺ ولكنها لم تكن هي المعجزة التي أُرسل بها، وإنما كانت ليزداد الذين آمنوا إيمانًا، وكانت لتثبيت أصحابه -رضوان الله عليهم- وتثبيته هو -صلى الله عليه وصحبه وسلم- في
1 / 14
أحلك المواقف التي وضع فيها كفعله ﷾ برسوله الكريم عندما أسرى به من المسجد الحرام إلى المسجد الأقصى، ورفعه إلى السموات العلى وجعله يرى من آيات ربه الكبرى؛ كل ذلك من المعجزات، ولكن ذلك ليس هو عين معجزة النبي ﷺ فعين معجزة النبي -صلوات الله وسلامه عليه- في الكتاب الذي أرسل به للعالمين -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
لذلك نجد الفرق بين القرآن والكتب الأخرى؛ القرآن تكفل الله ﷾ بحفظه؛ لأنه هو عين معجزة النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- بخلاف الكتب الأخرى لم يتكفل الله ﷾ بحفظها، فدخلها التحريف والتبديل والنسيان، أما القرآن تعهد الله به: ﴿إِنَّا نَحْنُ نَزَّلْنَا الذِّكْرَ وَإِنَّا لَهُ لَحَافِظُونَ﴾ (الحجر: ٩) وذلك لبقاء المعجزة بمنهجها وحفظ المنهج بالمعجزة.
أوجه إعجاز القرآن
أما السؤال الثالث الذي نتعرض له فهو كما يقال: بيت القصيد، وغاية المريد؛ بمعنى: أن هذا السؤال هو الذي يستحق أن نقف عنده، لماذا؟ لأنه هو موضوع مادتنا طوال العام إن شاء الله ﷾.
وهو الوقوف على أوجه إعجاز القرآن، أو بيان كيفية إعجازه أهل الفصاحة والبيان وإخراسه كل إنسان:
في ذلك المضمار الذي هو بيان أوجه الإعجاز تسابق المتسابقون واجتهد المصنفون، بدليل أن دراستنا حول وجه من وجوه الإعجاز في القرآن الكريم وهو الجانب اللغوي؛ ليتبين لنا لما عجز العرب عن معارضة القرآن والإتيان بمثله، ذلك السؤال الذي تنازعه أهل الأهواء وأهل الحق على السواء؛ فذهب المعتزلة
1 / 15
إلى القول بالصرفة وسيأتي بيانها، وذهب الأشاعرة إلى أن سر الإعجاز ما به من الإخبار عن الغيبيات ولنا مع ذلك وقفة أيضا إن شاء الله، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في معانيه دون ألفاظه، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في نظمه، وهناك من يقول: إن إعجاز القرآن في خلوه من التناقض، وفي العصر الحديث عصر العلم والتكنولوجيا كما يحلو لهم أن يطلقوا عليه ظهر الاهتمام بما يسمى الإعجاز العلمي للقرآن الكريم، وهناك جهود وجهود حول إبراز أوجه جديدة للإعجاز في القرآن الكريم، كما فعل الأستاذ رءوف أبو سعدة في كتابه العلم الأعجمي في القرآن مفسرا بالقرآن، ووضع تحت هذا العنوان عبارة "وجه جديد في إعجاز القرآن الكريم".
كذلك لا بد لنا قبل أن نبين أوجه الإعجاز أن نفرق بين شيئين:
أولًا: بين إعجاز القرآن في ذاته، وبين تحديه: أي نفرق بين كون القرآن في ذاته معجزًا وبين كونه تحدى به رسول الله ﷺ العرب، فالقرآن في ذاته كله إعجاز؛ لأنه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه تنزيل من حكيم حميد، فمن ثَم فأسراره لا تنتهي وعلومه لا تنقضي فكما أن منزله ﷾ كما قال أبي العتاهية:
وفي كل شيء له آية ... تدل على أنه الواحد
فإن كتابه الأسمى وكلامه الأعظم يجوز لنا أن نقول وفي كل حرف له آية تدل على أنه المعجز، فأما إعجازه في تحديه فهو بيان سبب عجز من أنزل عليهم عن الإتيان بمثله أو معارضته وهم أرباب الفصاحة وأهل البلاغة، بلغوا ذراها وخبروا منتهاها ومع
1 / 16
ذلك لم يلجئوا إلا إلى السيف في إخماد دعوة الحق معلنين عجزهم عن الإتيان بمثله أو عشر سور مثله مفتريات أو سورة من مثله كما سنبين إن شاء الله.
وما ورد من محاولة بعضهم معارضة القرآن كان عبارة عن سفاهات وافتراءات وكلام، كما قال الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن) هو أخس من أن نشتغل به وأسخف من أن نفكر فيه، ومن كان له عقل لم يشتبه عليه سخف هذا الكلام؛ يقصد ما حكي عن مسيلمة الكذاب في ادعائه أنه يستطيع أن يعارض القرآن وفي ادعائه أنه أوحي إليه مثل القرآن، وأن الله ﷾ جعله نبيّا مشاركًا لرسولنا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- وان الله أنزل عليه مثل ما أنزل على النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم-؛ هذا القول الذي ورد في الكتب عنه كما قال الباقلاني أخس من أن نشتغل به:
يعني يقول: والليل الدامس والذئب الهامس ما قطعت أسيد من رطب ولا يابس، ألم تر كيف فعل ربك بالحبلى أخرج منها نسمة تسعى ما بين صفاء وحشا، ضفدع بنت ضفدعين نقي ما تنقين أعلاكِ في الماء وأسفلكِ في الطين لا الشارب تمنعين ولا الماء تكدرين، لنا نصف الأرض ولقريش مثلها ولكن قريشا قوم يعتدون والمبديات ذرعا والحاصدات حصدا والذاريات قمحا والطاحنات طحنا والخابزات خبزا.
كلام هراء وكلام يعني لا يستحق أن يوقف عنده، ولكنه ذُكر في الكتب لبيان كيف أن هذا الكذاب الضال خدع بعض الناس وتبعه بعض الناس على هذا الهراء الذي يقول؛ لتعلم أيها الابن الكريم كيف عصمك الله ﷾ وشرّفك بهذا الدين، هذا الاستفسار الذي سأله أبو بكر ﵁ وأرضاه عندما جاءه بعض الناس من اليمامة وسألهم عما يقول مسيلمة فأخبروه بمثل هذا الكلام أو نحوه، فقال: سبحان الله هذا الكلام لا يكون عن إل؛ أي لا يخرج عن ربوبية يعني فكيف كنتم تصنعون يعني كيف استطاع أن يخدع بعضكم وأن يسير البعض وراءه وهو يقول هذا الهراء.
فمن ثَم كان الاهتمام ببيان إعجاز القرآن في لغته، وكيف جاء بديع النظم عجيب التأليف متناهيًا في البلاغة إلى الحد الذي يعلم عجز الخلق عنه؛ لأن هذا هو أساس التحدي الذي أعلنه النبي ﷺ: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى
1 / 17
أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: ٨٨) وهو تحدّ باق إلى قيام الساعة، هذا التحدي الذي مضى أكثر من أربعة عشر قرنا على إعلانه ولم يبطله جاحد به ولا مكذّب له.
وقد تبارى الناس في بيان ذلك على مر العصور ابتداءً بالخطابي والرماني والباقلاني، ومرورًا بعبد القادر الجرجاني وختامًا بالرافعي ودراز والسامرائي وغيرهم كثير من المتخصصين المعاصرين كأبي موسى وبيومي ولاشين وفضلا عن المفسرين كالزمخشري والآلوسي وسيد قطب وابن عاشور، وما ذكرته من أسماء إنما هو على سبيل التمثيل لا الحصر، فكم من متعرض لهذا المجال وكم من أناس تحدثوا عن إعجاز القرآن الذي بهر العقول بما فيه من جمال؛ لأنه تنزيل رب العالمين ﷾.
هذا الوجه من الإعجاز هو الذي جعل القرآن معجزًا من جميع الوجوه؛ نظمًا ومعنىً ولفظًا، لا يشبهه شيء من كلام المخلوقين أصلًا مميزًا عن خطب الخطباء وشعر الشعراء باثني عشر معنى لو لو يكن للقرآن غير معنى واحد من تلك المعاني لكان معجزًا، فكيف إذا اجتمعت جميعًا فيه.
هذا كلام الفيروز أبادي عندما عرض لأوجه الإعجاز اللغوي في القرآن الكريم، أوجزها بوجود اثني عشر معنى في القرآن الكريم، وبدأ في بيانها والتمثيل لها، فذكر:
أولها: إيجاز اللفظ مع تمام المعنى على سبيل الحذف، كقوله تعالى: ﴿وَاسْأَلِ الْقَرْيَةَ﴾ (يوسف: ٨٢) أي واسأل أهل القرية. وقوله تعالى: ﴿وَلَكِنَّ الْبِرَّ مَنْ آمَنَ﴾ (البقرة: ١٧٧) أي: ولكن البر بر من آمن. أو على سبيل الاختصار كقوله تعالى: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ يَاْ أُولِيْ الأَلْبَابِ﴾ (البقرة: ١٧٩).
1 / 18
ثانيها: تشبيه الشيء بالشيء كقوله تعالى ﴿أَعْمَالُهُمْ كَسَرَابٍ بِقِيعَةٍ﴾ (النور: ٣٦) ﴿أَعْمَالُهُمْ كَرَمَادٍ اشْتَدَّتْ بِهِ الرِّيحُ فِي يَوْمٍ عَاصِفٍ﴾ (إبراهيم: ١٨) وكما قيل الأمثال سرج القرآن.
وثالثها: استعارة المعاني البديعة كالتعبير عن تكوير الليل والنهار بالسلخ ﴿وَآيَةٌ لَّهُمْ اللَّيْلُ نَسْلَخُ مِنْهُ النَّهَارَ﴾ (يس: ٣٧)، والتعبير عن المضي والقيام بالصدع ﴿فَاصْدَعْ بِمَا تُؤْمَرُ﴾ (الحجر: ٩٤) هذه الآية الكريمة عندما سمعها أعرابي سجدَ، فسألوه عن سبب سجوده قال: سجدت في هذا المقام لفصاحة هذا الكلام.
أما رابعها: فهو تلاؤم الكلمات والحروف بما فيه من جمال المقال وكمال الكلام: ﴿وَأَسْلَمْتُ مَعَ سُلَيْمَانَ﴾ (النمل: ٤٤) ﴿يَا أَسَفَى عَلَى يُوسُفَ﴾ (يوسف: ٨٤) ﴿فَأَدْلَى دَلْوَهُ﴾ (يوسف: ١٩) تلاؤم الحروف؛ كل ذلك- أذكر كلام الفيروز أبادي مع التمثيل لأنه هو موضوع دراستنا؛ سنقف عند كل شيء من ذلك بالتفصيل إن شاء الله ﷾ أما في هذا الدرس فهو معرض لما سنتناوله ومدخل لما سندرسه؛ فلذلك أكتفي بذكر المثال دون التعريج بتوضيحه كاملا.
أما خامسها: فهو فواصل الآيات ومقاطعها، فصورةٌ فواصلها على حرف كسورة طه ﴿طه * مَا أَنْزَلْنَا عَلَيْكَ الْقُرْآنَ لِتَشْقَى * إِلَّا تَذْكِرَةً لِمَنْ يَخْشَى * تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الْأَرْضَ وَالسَّمَاوَاتِ الْعُلَا * الرَّحْمَنُ عَلَى الْعَرْشِ اسْتَوَى﴾ (طه: ١ - ٥) تجد أنها تنتهي بحرف الألف، كذلك سورة القمر تنتهي بحرف الراء: ﴿اقْتَرَبَتِ السَّاعَةُ وَانْشَقَّ الْقَمَرُ * وَإِنْ يَرَوْا آيَةً يُعْرِضُوا وَيَقُولُوا سِحْرٌ مُسْتَمِرٌّ﴾ (القمر: ٢) إلى آخر الآيات، وهناك صور تنتهي فواصلها على حرفين كصورة الفاتحة بين الميم والنون: ﴿بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * الْحَمْدُ لِلَّهِ رَبِّ الْعَالَمِينَ * الرَّحْمَنِ الرَّحِيمِ * مَالِكِ يَوْمِ الدِّينِ * إِيَّاكَ نَعْبُدُ وَإِيَّاكَ
1 / 19
نَسْتَعِينُ * اهْدِنَا الصِّرَاطَ الْمُسْتَقِيمَ * صِرَاطَ الَّذِينَ أَنْعَمْتَ عَلَيْهِمْ غَيْرِ الْمَغْضُوبِ عَلَيْهِمْ وَلَا الضَّالِّينَ﴾ (الفاتحة: ١ - ٧)، فبين الميم والنون سورة الفاتحة وكذلك صورة ق تجدها على حرفين أيضا.
وأما سادس هذه المعاني: فهو تجانس الألفاظ: وتجانس الألفاظ يكون على سبيل المزاوجة: ﴿يُخَادِعُونَ اللهَ وَهُوَ خَادِعُهُمْ﴾ (النساء: ١٤٢) ﴿وَجَزَاء سَيِّئَةٍ سَيِّئَةٌ﴾ (الشورى: ٤٠) ﴿هَلْ جَزَاء الإِحْسَانِ إِلاَّ الإِحْسَان﴾ (الرحمن: ٦٠)، أو من قبيل المناسبة كقوله تعالى: ﴿ثُمَّ انصَرَفُواْ صَرَفَ اللهُ قُلُوبَهُم﴾ (التوبة: ١٢٧) ﴿تَتَقَلَّبُ فِيهِ الْقُلُوبُ﴾ (النور: ٣٧) فهذا من التلاؤم والتناسب بين الكلمات.
أما سابعها: فهو تصريف القصص والأحوال بألفاظ مختلفة وعبارات متنوعة، لو تأملها الغوّاص لعلم أن ما كرر فيها من ألفاظ إنما جاء للطائف وأسرار.
فثامنها: تضمين الحكم والأسرار، فعلى سبيل المثال سورة الفاتحة نصفها الأول يتضمن أحكام الربوبية ونصفها الثاني يقتضي أسباب العبودية، وذلك مثال وكذلك كل ما في القرآن من كلمة؛ إنما هي عبارة عن كنز معان وبحر حقائق، وكما تضمنت آيات القرآن جوامع الأشياء فهناك آية تجمع مكارم الأخلاق كقوله ﷾: ﴿خُذِ الْعَفْوَ وَأْمُرْ بِالْعُرْفِ وَأَعْرِضْ عَنِ الْجَاهِلِين﴾ (الأعراف: ١٩٩)، وهناك آية تجمع حاجات الكائن الحي: ﴿أَخْرَجَ مِنْهَا مَاءهَا وَمَرْعَاهَا﴾ (النازعات: ٣١) وهناك آيةٌ تبين كيف يُساس الناس وما هو مقاصد التشريع، وما الذي يريده الله ﷾ منهم: ﴿إِنَّ اللَّهَ يَأْمُرُ بِالْعَدْلِ وَالْإِحْسَانِ وَإِيتَاءِ ذِي الْقُرْبَى وَيَنْهَى عَنِ الْفَحْشَاءِ وَالْمُنْكَرِ وَالْبَغْيِ يَعِظُكُمْ لَعَلَّكُمْ تَذَكَّرُونَ﴾ (النحل: ٩٠) هذا جانب تعرّض له العلماء، ولنا معه وقفه ان شاء الله ﷾ في الآيات الجوامع.
1 / 20
أما تاسعها: فهو المبالغة في الأمر والنهي باستخدام الأسماء تارة وباستخدام الأفعال تارة أخرى؛ الأسماء كقوله ﷾: ﴿الرِّجَالُ قَوَّامُونَ عَلَى النِّسَاء﴾ ﴿فَعَّالٌ لِّمَا يُرِيد﴾، والأفعال: ﴿وَكُلَّ شَيْءٍ فَصَّلْنَاهُ تَفْصِيلا﴾ (الإسراء: ١٢) ﴿قَدَّرُوهَا تَقْدِيرًا﴾ (الإنسان: ١٦) ﴿وَكُلًاّ تَبَّرْنَا تَتْبِيرًا﴾ (الفرقان: ٣٩).
أما عاشرها: فهو حسن البيان: حسن البيان لجميع أحكام الشريعة؛ المقاصد والأغراض والمصالح والأسباب، كل ذلك مؤيد بالآيات القرآنية فإذا أردت دليلا للوحدانية تجد قوله تعالى: ﴿لَوْ كَانَ فِيهِمَا آلِهَةٌ إِلاَّ اللَّهُ لَفَسَدَتَا﴾ (الأنبياء: ٢٢) وإذا أردت آية ترشد لمصالح الصيانة والعفة تجد قوله تعالى: ﴿وَأَنكِحُوا الأَيَامَى مِنكُمْ﴾ (النور: ٣٢) ولرعاية مصالح النفوس: ﴿وَلَكُمْ فِي الْقِصَاصِ حَيَاةٌ﴾ (البقرة: ١٧٩) ولبيان أركان الإسلام: ﴿أَقِيمُواْ الصَّلاَةَ وَآتُواْ الزَّكَاةَ﴾ (النساء: ٧٧) ﴿كُتِبَ عَلَيْكُمُ الصِّيَامُ﴾ (البقرة: ١٨٣) ﴿وَلِلّهِ عَلَى النَّاسِ حِجُّ الْبَيْتِ مَنِ اسْتَطَاعَ إِلَيْهِ سَبِيلًا﴾ (آل عمران: ٩٧)، ولبيان المعاملات: ﴿وَأَحَلَّ اللهُ الْبَيْعَ وَحَرَّمَ الرِّبَا﴾ (البقرة: ٢٧٥) ﴿إِذَا تَدَايَنتُم بِدَيْنٍ إِلَى أَجَلٍ مُّسَمًّى فَاكْتُبُوهُ﴾ (البقرة: ٢٨٢)، ذلك كثير في كتاب الله ﷾ مما يميز حسن البيان في بيان الأحكام الشرعية وأحكام الشريعة التي جاء بها النبي -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
أما الحادي عشر: فهو الإخبار عما كان، وضرب له الفيروزآبادي أمثلة من تخليق العرش والكرسي وحال الحملة والخزنة وكيفية اللوح والقلم ووصف السدرة وطوبى وسير الكواكب ودور الأفلاك ورفع السماء وتمهيد الأرض.
وأما الثاني عشر: فهو الإخبار عما يكون، كأخبار الموت والقبر والبعث والنشر والقيامة والحساب والعقاب والعرض والحوض والسؤال ووزن الأعمال والميزان والصراط ... إلى غير ذلك مما جاء به القرآن الكريم وبينه رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم.
1 / 21
هذا الذي ذكره صاحب (البصائر) أي الفيروزآبادي لا نستطيع الزعم بأنه كل معاني الإعجاز، بل لا نسلم بأنه جلها فكم من أشياء أخر ذكرها المهتمون بهذه القضية، بل لا نستطيع حصر الإعجاز والتحدي في الجانب اللغوي فقط؛ لأن اللغة إطار توضع فيه المعاني، وكم في المعاني من أسرار لا يعلمها إلا مكور الليل على النهار ومن جاد عليهم من عباده الأخيار؛ فذلك علم يمنحه الله ﷾ هبة وفضلا لمن يشاء.
ولك أن تتأمل -أيها الطالب النجيب- كلام شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ وكون القرآن أنه معجزة ليس هو من جهة فصاحته وبلاغته فقط أو نظمه وأسلوبه فقط، ولا من جهة إخباره بالغيب فقط، ولا من جهة صرف الدواعي عن معارضته فقط، ولا من جهة سلب قدرتهم عن معارضته فقط؛ بل هو آيةٌ بينة معجزة من وجوه متعددة؛ من جهة اللفظ ومن جهة النظم ومن جهة البلاغة في دلالة اللفظ على المعنى، ومن جهة معانيه التي أمر بها ومعانيه التي أخبر بها عن الله تعالى وأسمائه وصفاته وملائكته، وغير ذلك، ومن جهة معانيه التي أخبر بها عن الميعاد، ومن جهة ما بين فيه من الدلائل اليقينية والأقيسة العقلية، التي هي الأمثال المضروبة كما قال تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا فِي هَذَا الْقُرْآنِ لِلنَّاسِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ وَكَانَ الْإِنْسَانُ أَكْثَرَ شَيْءٍ جَدَلًا﴾ (الكهف: ٥٤)، وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ صَرَّفْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِن كُلِّ مَثَلٍ فَأَبَى أَكْثَرُ النَّاسِ إِلاَّ كُفُورًا﴾ (الإسراء: ٨٩) وقوله تعالى: ﴿وَلَقَدْ ضَرَبْنَا لِلنَّاسِ فِي هَذَا الْقُرْآنِ مِنْ كُلِّ مَثَلٍ لَعَلَّهُمْ يَتَذَكَّرُونَ * قُرْآنًا عَرَبِيًّا غَيْرَ ذِي عِوَجٍ لَعَلَّهُمْ يَتَّقُونَ﴾ (الزمر: ٢٧، ٢٨).
وكل ما ذكره الناس من الوجوه في إعجاز القرآن هو حجةٌ على إعجازه، ولا يناقض ذلك، بل كل قوم تنبهوا بما تنبهوا.
1 / 22
ما أجمل كلام شيخ الإسلام ﵀.
لذلك قال شيخنا محمد أبو موسى: أما أن وجه إعجازه هو الإخبار بالغيب أم لأمر يرجع إلى لفظه أم لأمر يرجع إلى معناه أو نظمه- فذلك مما وسّع الله فيه على الأمة؛ ولهذا اختلفت فيه مقالتهم واتسعت؛ الأمر فيه سعة كما يقال.
وما أجمل ما قاله الرافعي ﵀ في كتابه (إعجاز القرآن والبلاغة النبوية) يقول: وما أشبه القرآن الكريم في تركيب إعجازه وإعجاز تركيبه بصورة كلامية من نظام هذا الكون الذي اكتنفه العلماء من كل جهة وتعاوروه من كل ناحية ولقوا جوانبه بحثًا وتفتيشًا، ثم هو بعد لا يزال عندهم على ذلك خلقًا جديدًا ومرامًا بعيدًا وصعبًا شديدًا، وإنما بلغوا منه إذ بلغوا منه نذرًا تهيأت بضعفه أسبابه، وقليلًا عُرف لقتله حسابه وبقي ما وراء ذلك من الأمر المتعذر الذي وقفت عنده الأعذار ولابتغاء المعجز الذي حط عنده قدر الإنسان؛ لأنه مما سمحت به الأقدار.
وكأنه ﵀ يشير إلى حقائق التنزيل اليقينية: ﴿وَمَا أُوتِيتُم مِّن الْعِلْمِ إِلاَّ قَلِيلا﴾ (الإسراء: ٨٥) ﴿وَلاَ يُحِيطُونَ بِشَيْءٍ مِّنْ عِلْمِهِ إِلاَّ بِمَا شَاء﴾ (البقرة: ٢٥٥) فالبحث في هذا المجال واسع واسع واسع.
كيفية تحدي نبينا ﷺ للعرب
أما السؤال الرابع: وهو كيفية تحدي نبينا الكريم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- للعرب يستلزم منا بيان شيئين:
الأول: هو ما أكده الله ﷿ في حق كتابه ورسوله.
الثاني: صور التحدي وتصعيد درجته.
1 / 23
أولًا: نقول: إن الله ﷾ أكد في كتابه أن كتابه لا يأتيه الباطل من بين يديه ولا من خلفه، وأنه تنزيل رب العالمين، وأنه أُرسل إلى رسولنا -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- ليخرج الناس من الظلمات إلى النور، وأكد الله ﷾ أن رسوله ﷺ ما ينطق عن الهوى إن هو إلا وحي يوحى علمه شديد القوى، وأكد أن النبي ﷺ لم يكن يتلو قبل بعثته كتابًا ولا يعرف القراءة: ﴿وَمَا كُنتَ تَتْلُو مِن قَبْلِهِ مِن كِتَابٍ وَلاَ تَخُطُّهُ بِيَمِينِكَ إِذًا لاَّرْتَابَ الْمُبْطِلُون﴾ (العنكبوت: ٤٨) وأن النبي ﷺ لم يقل مثلما قال قبل بعثته: ﴿قُلْ لَوْ شَاءَ اللَّهُ مَا تَلَوْتُهُ عَلَيْكُمْ وَلَا أَدْرَاكُمْ بِهِ فَقَدْ لَبِثْتُ فِيكُمْ عُمُرًا مِنْ قَبْلِهِ﴾ (يونس: ١٦).
وأكد أن القرآن ليس بقول شاعر لا بقول كاهن، وأن النبي ﷺ ليس مجنونا ﴿وَمَا صَاحِبُكُم بِمَجْنُون﴾ (التكوير: ٢٢) هذا الافتراءات التي ذكرها أهل مكة في محاربة النبي ﷺ فزعموا أنه شاعر وزعموا أنه ساحر وزعموا أنه كاهن وزعموا أنه مجنون؛ كل ذلك أبطله القرآن، ولكن هذا الخطاب لأهل الإيمان، فلما لم يؤمنوا واستمروا على عنادهم كانت النقطة الثانية هي التحدي.
صورة التحدي التي واجه بها النبي - صلى الله عليه وآلة وصحبه وسلم - هؤلاء المشركين: لماذا؟ لأنهم كما قال الله ﷾ ﴿وَلَوْ أَنَّنَا نَزَّلْنَا إِلَيْهِمُ الْمَلَائِكَةَ وَكَلَّمَهُمُ الْمَوْتَى وَحَشَرْنَا عَلَيْهِمْ كُلَّ شَيْءٍ قُبُلًا مَا كَانُوا لِيُؤْمِنُوا﴾ (الأنعام: ١١١)، ولأنهم بلغوا من الوقاحة والتبجح أن ادّعوا ما لا يستطيعون ﴿لَوْ نَشَاء لَقُلْنَا مِثْلَ هَذَا إِنْ هَذَا إِلاَّ أَسَاطِيرُ الأوَّلِين﴾ (الأنفال: ٣١) من هنا كان التحدي، فأعلنها رسول الله ﷺ صريحة: ﴿قُلْ لَئِنِ اجْتَمَعَتِ الْإِنْسُ وَالْجِنُّ عَلَى أَنْ يَأْتُوا بِمِثْلِ هَذَا الْقُرْآنِ لَا يَأْتُونَ بِمِثْلِهِ وَلَوْ كَانَ بَعْضُهُمْ لِبَعْضٍ ظَهِيرًا﴾ (الإسراء: ٨٨)؛ ليكون ذلك إعلانًا على عجزهم ونداءً على كذبهم فيما ادعوا، فتمادوا في عنادهم وادعوا أن القرآن كذب وافتراء ﴿أَسَاطِيرُ الأَوَّلِينَ اكْتَتَبَهَا فَهِيَ تُمْلَى عَلَيْهِ بُكْرَةً وَأَصِيلًا﴾ (الفرقان: ٥) مع تيقنهم من كذب دعواهم؛ فأنى للأمي صلوات الله وسلامه عليه أن
1 / 24
يكتب؟ وكيف تعلمها؟ ومن أين تعلمها؟ وهو لم يخرج من بين ظهرانيهم، وهم لا علم لهم بهذه الأخبار التي يخبرهم بها -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم- فكان التحدي الثاني ﴿أَمْ يَقُولُونَ افْتَرَاهُ قُلْ فَأْتُواْ بِعَشْرِ سُوَرٍ مِّثْلِهِ مُفْتَرَيَاتٍ﴾ (هود: ١٣) فإن كانت المسألة كذبًا وافتراءا وأساطير فما عليكم إلا أن تأتوا بمثلها، بل بمثل عشر سور فقط مفتراة كما تدّعون، فإن كنتم نسبتم إليه -صلوات الله وسلامه عليه- الكذب والافتراء وأنتم اللذين لقبتموه بالصادق الأمين فما الذي يحول بينكم وبين الافتراء وأنتم أرباب ذلك؟ افتراء افتراء!! فعليكم أن تفتروا مثلما افترى عشر سور مثله مفتريات، فلما عجزوا أيضا بلغ التحدي ذروته فوصل للدرجة العليا ﴿وَإِنْ كُنْتُمْ فِي رَيْبٍ مِمَّا نَزَّلْنَا عَلَى عَبْدِنَا فَأْتُوا بِسُورَةٍ مِنْ مِثْلِهِ وَادْعُوا شُهَدَاءَكُمْ مِنْ دُونِ اللَّهِ إِنْ كُنْتُمْ صَادِقِينَ * فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا فَاتَّقُوا النَّارَ الَّتِي وَقُودُهَا النَّاسُ وَالْحِجَارَةُ أُعِدَّتْ لِلْكَافِرِينَ﴾ (البقرة: ٢٣، ٢٤).
فلم يعد لهم حجة في الادعاء والإنكار والتكذيب، فليسوا مطالبين بأكثر من سورة ومع ذلك هم عاجزون بل لم ولن، انظر -رحمك الله- إلى التعبير بـ"لم ولن" لم تفعلوا ولن تفعلوا، لم نفي الماضي ولن نفي المستقبل، فهم لم يستطيعوا ولن يستطيعوا أن يأتوا بسورة من مثله، فكانت الحجة القاطعة بعدم الاستطاعة إلى قيام الساعة، فلن نفت المستقبل والخطاب لهم ولمن بعدهم، وكأن الله ﷿ يعلمنا هذه العبارة نقولها لكل من سوّلت له نفسه الطعن في القرآن أو تكذيب خير الأنام؛ أن نقول له: فأتوا بسورة من مثله.
والسلام عليكم ورحمة الله وبركاته.
1 / 25
الدرس: ٢ تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات
1 / 27
بسم الله الرحمن الرحيم
الدرس الثاني
(تابع: مقدمة في وجوه الإعجاز - الصرفة، والإخبار بالغيبيات)
لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي في القرآن؟
إن الحمد لله نحمده ونستعينه ونستهديه، ونعوذ بالله تعالى من شرور أنفسنا ومن سيئات أعمالنا، اللهم صلِّ على محمد النبي وأزواجه أمهات المؤمنين وذريته وآل بيته، كما صليت على آل إبراهيم، إنك حميد مجيد؛ وبعد:
انتهينا إلى الحديث عن: لماذا نهتم بالإعجاز اللغوي؟
لا يشك عاقل أن لغة القرآن تختلف عن لغة البشر، وأن تراكيبها وأسلوبها ونظمها متناهٍ في البلاغة والفصاحة، إلى درجةٍ لا يصل إليها أحدٌ من البشر، ولو كان سيدهم -صلى الله عليه وآله وصحبه وسلم ﴿قُلْ مَا يَكُونُ لِي أَنْ أُبَدِّلَهُ مِنْ تِلْقَاءِ نَفْسِي إِنْ أَتَّبِعُ إِلَّا مَا يُوحَي إِلَيَّ﴾ (يونس: ١٥).
فيكفيك دليلًا أن فصاحة سيد الفصحاء وإمام البلغاء لا ترقى لفصاحة القرآن، فما بالكم بمن دونه من البشر وذلك سائر البشر؛ ولذلك كان الاهتمام بالجانب اللغوي في القرآن لإبراز الفروق بين كلام الرحمن وكلام الإنسان، وصنفت في ذلك التصانيف؛ فالباقلاني في (إعجاز القرآن) أسهب في إثبات أن القرآن ليس شعرًا ولا سجعًا، وعرض نماذج لما يفتخر به العرب من شعرهم ونثرهم، ووازن بينه وبين القرآن لبيان الفرق الشاسع بينهما، والجرجاني صنف كتابه (دلائل الإعجاز) للاستدلال بنظرية النظم على تفرد القرآن في ذلك، وابن أبي الإصبع المصري صنف كتابًا سماه (تحرير التحبير في صناعة الشعر والنثر وبيان إعجاز القرآن) فيتضح لك من العنوان مراد الرجل أن من تأمل الشعر والنثر بان له إعجاز القرآن في الجانب اللغوي؛ ولذلك أذكر لكم موازنة ذكرها الباقلاني في كتابه (إعجاز القرآن)؛ ليستدل بها على الفروق بين كلام الله وبين كلام العرب، فجعل الفروق في نقاط:
1 / 29