The Famous Saying of Imam Malik on the Attribute of Istiwa

Abdul Razzaq bin Abdul Mohsin Al-Badr d. Unknown

The Famous Saying of Imam Malik on the Attribute of Istiwa

الأثر المشهور عن الإمام مالك ﵀ في صفة الاستواء

Mai Buga Littafi

الجامعة الإسلامية بالمدينة المنورة

Lambar Fassara

السنة الثالثة والثلاثون،العدد الحادي عشر بعد المائة

Shekarar Bugawa

١٤٢١هـ/٢٠٠٠م

Nau'ikan

مقدمة ... الأثر المشهور عن الإمام مالك ﵀ في صفة الاستواء دراسة تحليلية بقلم: عبد الرزاق بن عبد المحسن البدر بسم الله الرحمن الرحيم إنَّ الحمد لله نحمده ونستعينه ونستغفره، ونعوذ بالله من شرور أنفسنا ومن سيّئات أعمالنا، من يهده الله فلا مضلّ له، ومن يضلل فلا هادي له، وأشهد أن لا إله إلا الله وحده لا شريك له، وأشهد أنّ محمدًا عبده ورسوله. ﴿يأَيُّهَا الذِينَ آمَنُوا اتَّقُوا الله حَقَّ تُقَاتِهِ ولا تَمُوتُنَّ إلاَّ وأنتُم مُسْلِمُونَ﴾ . ﴿يأيّها الناسُ اتّقُوا ربَّكمُ الَّذي خَلَقَكُم مِن نَفْسٍ واحِدَةٍ وخَلَقَ مِنْها زَوْجَها وبَثَّ مِنْهُما رِجالًا كَثِيرًا وَنِساءً واتَّقُوا اللهَ الَّذِي تَسَاءَلُونَ بِهِ والأَرْحامَ إِنَّ اللهَ كان عَلَيْكُمْ رَقِيبًا﴾ . ﴿يَأَيُّهَا الَّذِينَءَامَنُوا اتَّقُوا اللهَ وقُولُوا قَوْلًا سَدِيدًا يُصْلِحْ لَكُمْ أَعْمالَكمْ ويَغْفِرْ لَكمْ ذُنوبَكُمْ ومَن يُطِعِ اللهَ ورَسُولَهُ فَقَدْ فَازَ فَوْزًا عَظِيمًا﴾ . أما بعد، فلا ريب في عِظم فضل وكبر شرف العلم بأسماء الله وصفاته الواردة في كتابه وسنة رسوله ﷺ وفهمها فهمًا صحيحًا سليمًا بعيدًا عن تحريفات المحرّفين وتأويلات الجاهلين؛ إذ إنَّ شرف العلم تابعٌ لشرف معلومه، وما من ريب أنَّ أجَلَّ معلوم وأعظمه وأكبره هو الله الذي لا إله إلاّ هو رب العالمين، وقيّوم السموات والأرضين، الملك الحقّ المبين، الموصوف بالكمال كلّه، المنزَّه عن كلِّ عيب ونقص، وعن كلِّ تمثيل وتشبيه في كماله ﴿ذَالِكُمْ اللهُ رَبِّي عَلَيْهِ تَوَكَّلْتُ وَإِلَيْهِ أُنِيبُ فَاطِرُ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ جَعَلَ لَكُمْ مِنْ أَنفُسِكُمْ أَزْوَاجًا وَمِنَ الأَنْعَامِ أَزْوَاجًا يَذْرَؤُكُمْ فِيهِ لَيْسَ كَمِثْلِهِ شَيْءٌ وَهُوَ السَّمِيعُ البَصِيرُ﴾ ١. ولا ريب أنَّ العلم بالله تعالى وبأسمائه وصفاته وأفعاله أجَلُّ العلوم وأفضلُها وأشرفُها، ونسبة ذلك إلى سائر العلوم كنسبة معلومه إلى سائر المعلومات،

١ سورة الشورى، الآيتان: (١٠،١١) .

1 / 13

والعلم به – سبحانه - هو أصل كلِّ علم، وهو أصل علم العبد بسعادته وكماله ومصالح دنياه وآخرته، والجهل به مستلزم للجهل بنفسه ومصالحها وكمالها وما تزكو به، فالعلم به – سبحانه - عنوان سعادة العبد في الدنيا والآخرة، والجهل به أصل شقاوته في الدنيا والآخرة، ومن عرف الله عرف ما سواه، ومن جهل ربّه فهو لما سواه أجهل، قال الله تعالى: ﴿وَلاَ تَكُونُوا كالَّذِينَ نَسُوا اللهَ فَأَنسَاهُمْ أَنفُسَهُمْ﴾ ١، وقد دلّت هذه الآية على معنى شريف عظيم، وهو أنَّ من نسيَ ربَّه أنساه ذاتَه ونفسَه فلم يعرف حقيقته ولا مصالحه، بل نسي ما به صلاحه وفلاحه في معاشه ومعاده فصار معطَّلًا مهملًا٢. ولهذا فإنَّ العناية بفهم هذا العلم وضبطه وعدم الغلط فيه أمر متأكّد على كلِّ مسلم، وقد كان أئمّة المسلمين، الصحابة ومن تبعهم بإحسان على نهجٍ واحدٍ في هذا العلم وعلى طريقة واحدة، ليس بينهم في ذلك نزاع ولا خلاف، "بل كلُّهم [بحمد الله] على إثبات ما نطق به الكتاب والسنة كلمةً واحدةً من أوّلهم إلى آخرهم، لم يسوموها تأويلًا، ولم يحرّفوها عن موضعها تبديلًا، ولم يُبدوا لشيء منها إبطالًا، ولا ضربوا لها أمثالًا، ولم يدفعوا في صدورها وأعجازها، ولم يقل أحدٌ منهم يجب صرفها عن حقائقها وحملها على مجازها، بل تلقّوها بالقبول والتسليم، وقابلوها بالإيمان والتعظيم، وجعلوا الأمر فيها كلَّها أمرًا واحدًا، وأجرَوْها على سنن واحد، ولم يفعلوا كما فعل أهل الأهواء والبدع حيث جعلوا القرآن عِضين، وأقرّوا ببعضها وأنكروا بعضَها من غير فُرقان مبين"٣. بل زاد المعطِّلة على ذلك فجعلوا جحد الصفات وتعطيل الربّ عنها توحيدًا، وجعلوا إثباتها لله تشبيهًا وتجسيمًا وتركيبًا، فسمّوا الباطل باسم الحق

١ سورة الحشر، الآية: (١٩) . ٢ انظر: مفتاح دار السعادة لابن القيّم (ص:٨٦) . ٣ إعلام الموقعين (١/٤٩) .

1 / 14

ترغيبًا فيه، وزخرفًا ينفقونه به، وسمّوا الحقَّ باسم الباطل تنفيرًا عنه، والناس أكثرهم مع ظاهر السكّة، ليس لهم نقد النقّاد١. ولا يأمن جانب الغلط في هذا الباب الخطير من لا يتعرّف على نهج السلف ويسلك طريقتهم، فهي طريقة سالمة مأمونة مشتملة على العلم والحكمة، وكلامهم في التوحيد وغيره قليلٌ كثيرُ البركة٢، فهم لا يتكلّفون، بل يعظِّمون النصوص، ويعرفون لها حرمتها، ويقفون عندها، ولا يتجاوزونها برأي أو عقل أو وَجْدٍ أو غير ذلك. فهم بحقٍّ الأئمةُ العدول والشهود الأثبات، ولا يزال بحمد الله في كلِّ زمان بقايا منهم "يدعون من ضلَّ إلى الهدى، ويصبرون منهم على الأذى، يُحيون بكتاب الله الموتى، ويبصِّرون بنور الله أهلَ العمى، فكم من قتيل لإبليس قد أحيوه، وكم من ضالٍّ تائهٍ قد هدوه، فما أحسن أثرهم على الناس وأقبح أثر الناس عليهم، ينفون عن عباد الله تحريف الغالين، وانتحال المبطلين، وتأويل الجاهلين، الذين عقدوا ألوية البدعة، وأطلقوا عِقال الفتنة، فهم مختلفون في الكتاب، مخالفون للكتاب، مجمعون على مفارقة الكتاب، يقولون على الله، وفي الله، وفي كتاب الله بغير علم، يتكلّمون بالمتشابه من الكلام، ويخدعون جهّال الناس بما يشبّهون عليهم، فنعوذ بالله من فتن المضلّين"٣. ولهذا فإنَّ دراسة آثار هؤلاء وأقوالهم المنقولة عنهم في نصر السنة وتقرير التوحيد والردّ على أهل الأهواء يُعدّ من أنفع ما يكون لطالب العلم، للتمييز بين الحقّ والباطل، والسنة والبدعة، والهدى والضلال؛ لأنَّ هؤلاء الأئمة قد مضوا

١ انظر: مدارج السالكين لابن القيم (١/٢٦،٢٧) . ٢ انظر: مدارج السالكين (١/١٣٩)، وشرح العقيدة الطحاوية (ص١٩) . ٣ مقتبس من مقدّمة كتاب الردّ على الزنادقة والجهمية للإمام أحمد بن حنبل.

1 / 15

في معتقدهم على ما كان عليه رسول الله ﷺ وصحابته من بعده، فهم بنبيّهم محمد ﷺ مقتدون، وعلى منهاجه سالكون، ولطريقته مقتفون، وعن الأهواء والبدع المضلّة معرضون، وعلى الصراط المستقيم والمحجّة البيضاء سائرون، يوصي بذلك أولُهم آخرَهم، ويقتدي اللاحقُ بالسابق؛ ولهذا "لو طالعتَ جميع كتبهم المصنّفة من أوّلهم إلى آخرهم، قديمهم وحديثهم - مع اختلاف بلدانهم وزمانهم، وتباعد ما بينهم في الديار، وسكون كلّ واحد منهم قطرًا من الأقطار - وجدتَهم في بيان الاعتقاد على وتيرة واحدة ونمطٍ واحد، يجرون فيه على طريقة واحدة، لا يحيدون عنها، ولا يميلون فيها، قولهم في ذلك واحد، ونقلهم واحد، لا ترى بينهم اختلافًا، ولا تفرّقًا في شيء ما وإن قلّ، بل لو جمعتَ جميعَ ما جرى على ألسنتهم ونقلوه عن سلفهم وجدته كأنّه جاء من قلب واحد، وجرى على لسانٍ واحد"١، والسبب في ذلك هو لزوم الجميع سنة النبي ﷺ، وبُعدُهم عن الأهواء والبدع، فهم كما قال الأوزاعي ﵀: "ندور مع السنة حيث دارت"٢، فهذا شأنهم وديدنُهم، يدورون مع السنة حيث دارت نفيًا أو إثباتًا، فلا يثبتون إلاَّ ما ثبت في الكتاب والسنة، ولا ينفون إلاَّ ما نفي في الكتاب والسنة، لا يتجاوزون القرآن والحديث. وهؤلاء الأئمة لم يكفّوا عن الخوض فيما خاض فيه من سواهم لعجز منهم عن ذلك أو لضعف وعدم قدرة بل الأمر كما قال عمر بن عبد العزيز ﵀: " ... فإنَّ السابقين عن علم وقفوا، وببصر نافذ كفّوا، وكانوا هم أقوى على البحث ولم يبحثوا"٣. ومن كان على نهج هؤلاء فهو في طريق آمنة

١ الحجة للتيمي (٢/٢٢٤،٢٢٥)، وهو من كلام أبي المظفر السمعاني. ٢ رواه اللالكائي في شرح الاعتقاد (١/٦٤) . ٣ رواه ابن بطّة في الإبانة (١/٣٢١) .

1 / 16

وسبيل سالمة، قال محمد بن سيرين ﵀: "كانوا يقولون: إذا كان الرجل على الأثر فهو على الطريق"١. ولما كان الأمر بهذه المثابة وعلى هذا القدر من الأهمية أحببت أن أقدّم دراسة لأحد الآثار المرويّة عن السلف الصالح ﵏ في تقرير التوحيد وردّ البدع والأهواء؛ ليكون - إن شاء الله - أنموذجًا للتدليل على عِظم فائدة العناية بآثار السلف وعظم ما يحصله من عُنيَ بذلك من فوائد وثمار ومنافع. ولهذا نشطت في إعداد هذه الدراسة للأثر المشهور عن الإمام مالك ﵀ عند ما جاءه رجل وقال له: يا أبا عبد الله ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾ كيف استوى؟، فتأثّر مالك – ﵀ من هذه المسألة الشنيعة وعلاه الرحضاء [أي العَرَق]، وقال في إجابته لهذا السائل: "الاستواء غير مجهول، والكيف غير معقول، والإيمان به واجب، والسؤال عنه بدعة"، وأمر بالسائل أن يُخرج من مجلسه، وهو أثر عظيمُ النفع جليلُ الفائدة. ويمكن أن أحدِّد أهمّ الدوافع التي شجّعت لتقديم هذه الدراسة لهذا الأثر خاصة في النقاط التالية: أوّلًا: أنَّ هذا الأثر قد تلقّاه الناس بالقبول، فليس في أهل السنة والجماعة من ينكره، كما يذكر ذلك شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀ -٢، بل إنَّ أهل العلم قد ائتمّو به واستجودوه واستحسنوه٣. ثانيًا: أنَّه من أنبل جواب وقع في هذه المسألة وأشدّه استيعابًا؛ لأَنَّ فيه نبذ التكييف وإثبات الاستواء المعلوم في اللغة على وجه يليق بالله عز وجل٤.

١ رواه ابن بطة في الإبانة (١/٣٥٧) . ٢ مجموع الفتاوى (١٣/٣٠٩) . ٣ انظر: مجموع الفتاوى لابن تيمية (٥/٥٢٠) . ٤ انظر: مجموع الفتاوى (٥/٥٢٠) .

1 / 17

ثالثًا: أنَّ قوله هذا ليس خاصًّا بصفة الاستواء، بل هو بمثابة القاعدة التي يمكن أن تُقال في جميع الصفات. رابعًا: محاولة أهل البدع في القديم والحديث تبديل معناه وتحريف مراده بطرق متكلّفة وسبل مختلفة. خامسًا: محاولة أحد جهّال المعاصرين التشكيك في ثبوته والطعن في أسانيده. سادسًا: التنبيه إلى أنَّ بعض أتباع الأئمة في الفروع لم يوَفَّقوا إلى العناية بمذهب أئمّتهم في الأصول، ولهذا ترى في بعض من يتعصّبون إلى مذهب الإمام مالك ﵀ في الفروع من يخالفه في أصول الدين، ويفارقه في أساس المعتقد بسبب غلبة الأهواء وانتشار البدع. إلى غير ذلك من الأسباب، وقد جعلت هذه الدراسة بعنوان: (الأثر المشهور عن الإمام مالك ﵀ في صفة الاستواء دراسة تحليلية) أما الهدف من هذه الدراسة فهي إعطاء هذا الأثر مكانته اللائقة به واستخراج الدروس والقواعد العلمية المستفادة منه، والردّ على تحريفات المناوئين، وتشكيكات المحرّفين. وقسمته إلى تمهيد وأربعة فصول وخاتمة على النحو التالي: التمهيد، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ترجمة موجزة للإمام مالك بن أنس ﵀. المبحث الثاني: في ذِكر معتقد أهل السنة والجماعة في صفة الاستواء بإيجاز. المبحث الثالث: في بيان أهمية القواعد وعِظم نفعها في معرفة صفات الباري.

1 / 18

الفصل الأول: في تخريج هذا الأثر، وبيان ثبوته، وذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة وأقوال السلف الصالح، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: تخريج الأثر، وبيان ثبوته عن الإمام مالك ﵀. المبحث الثاني: ذكر الشواهد عليه من الكتاب والسنة. المبحث الثالث: ذكر نظائر هذا الأثر ممّا جاء عن السلف الصالح. المبحث الرابع: ذكر كلام أهل العلم في التنويه بهذا الأثر، وتأكيدهم على أهميّته، وجعله قاعدة من قواعد توحيد الأسماء والصفات. الفصل الثاني: في ذكر معنى هذا الأثر، وبيان مدلوله وما يُستفاد منه من ضوابط في توحيد الأسماء والصفات، وفيه أربعة مباحث: المبحث الأول: في معنى قوله: "الاستواء غير مجهول" والضوابط المستفادة منه. المبحث الثاني: في معنى قوله: "الكيف غير معقول" والضوابط المستفادة منه. المبحث الثالث: في معنى قوله: "الإيمان به واجب" والضوابط المستفادة منه. المبحث الرابع: في معنى قوله: "السؤال عنه بدعة" والضوابط المستفادة منه. الفصل الثالث: في إبطال تحريفات أهل البدع لهذا الأثر. الفصل الرابع: في ذكر فوائد عامة مأخوذة من هذا الأثر، وفيه ثلاثة مباحث: المبحث الأول: ذكر ما في قولهم: "حتى علاه الرّحضاء" من فائدة. المبحث الثاني: ذكر ما في قوله: "ما أراك إلاَّ مبتدعًا" من فائدة.

1 / 19

المبحث الثالث: ذكر ما في قوله: "أخرجوه عنِّي" من فائدة. الخاتمة: وفيها خلاصة البحث وأهمّ نتائجه. هذا وإني أسأل الله الكريم أن يتقبّل مني هذا العمل بقبول حسن، وأن يجعله لوجهه خالصًا، وللحق موافقًا، وأن يغفر لي ولوالديّ وللإمام مالكٍ ولجميع أئمة المسلمين، وللمسلمين والمسلمات، والمؤمنين والمؤمنات الأحياء منهم والأموات، إنَّه هو الغفور الرحيم.

1 / 20

* تمهيد المبحث الأول: ترجمة موجزة للإمام مالك بن أنس ﵀ ... تمهيد: لعل من الحسن قبل الشروع في الموضوع أن أُمهِّد بذكر بعض الأمور المهمّة بين يديه، وذلك من خلال المباحث التالية: المبحث الأول: ترجمة موجزة للإمام مالك بن أنس ﵀ -١. أولًا: نسبه: هو شيخ الإسلام، حجّة الأمة، إمام دار الهجرة، أبو عبد الله مالك بن أنس بن مالك بن أبي عامر بن عَمرو بن الحارث بن غيمان بن خُثيل بن عَمرو بن الحارث، وهو ذو أصبح بن عوف بن مالك بن زيد بن شدّاد بن زرعة، وهو حِمير الأصغر، الحِميري ثم الأصبحي المدني، حليف بني تَيم من قريش، فهم حلفاء عثمان أخي طلحة بن عبيد الله أحدِ العشرة. وأمُّه هي عالية بنت شريك الأزدية. وأعمامه هم: أبو سُهيل نافع، وأُويس، والربيع، والنضر، أولاد أبي عامر. ثانيًا: مولده: قال الذهبي ﵀: "مولد مالك على الأصح في سنة ثلاث وتسعين، عام موتِ أنس خادم رسول الله ﷺ، ونشأ في صَون ورفاهية وتجمّل".

١ وهي ملخّصة من سير أعلام النبلاء للذهبي (٨/٤٨ وما بعدها)، وللوقوف على مصادر ترجمة الإمام مالك انظر هامش السير، الصفحة المتقدّمة.

1 / 21

ثالثًا: نشأته وطلبه للعلم: طلب مالكٌ العلمَ وهو ابن بضع عشرة سنة، وتأهّل للفتيا، وجلس للإفادة وله إحدى وعشرون سنة، وحدّث عنه جماعة وهو حيٌّ شابٌّ طريٌّ، وقصدَه طلبة العلم من الآفاق في آخر دولة أبي جعفر المنصور وما بعد ذلك، وازدحموا عليه في خلافة الرشيد، إلى أن مات. رابعًا: شيوخه: طلب الإمام مالك ﵀ العلمَ وهو حدَثٌ بُعيد موت القاسم وسالم، فأخذ عن نافع، وسعيد المقبري، وعامر بن عبد الله ابن الزبير، وابن المنكدر، والزهري، وعبد الله بن دينار، وخلق. وقد أحصى الذهبي ﵀ شيوخه الذين روى عنهم في الموطأ وذكر إلى جنب كلِّ واحد منهم عدد ما روى عنه الإمام مالك ورتّبهم على حروف المعجم. خامسًا: تلاميذه: قال الذهبي ﵀: "وقد كنت أفردتُ أسماء الرواة عنه في جزء كبير يُقارب عددهم ألفًا وأربع مائة، فلنذكر أعيانهم، حدّث عنه من شيوخه: عمّه أبو سُهيل، ويحيى بن أبي كثير، والزهري، ويحيى بن سعيد، ويزيد بن الهاد، وزيد بن أبي أُنيسة، وعمر بن محمد بن زيد، وغيرهم، ومن أقرانه: معمر، وابن جريج، وأبو حنيفة، وعمرو بن الحارث، والأوزاعي، وشعبة، والثوري ... "، وذكر آخرين. سادسًا: مؤلفاته: من مؤلفاته ﵀: ١- الموطأ. ٢- رسالة في القدر كتبها إلى ابن وهب.

1 / 22

٣- مؤلف في النجوم ومنازل القمر. ٤- رسالة في الأقضية. ٥- رسالة إلى أبي غسان بن مطرّف. ٦- جزء في التفسير. وأما ما نقله عنه كبار أصحابه من المسائل والفتاوى والفوائد فشيءٌ كثيرٌ. سابعًا: ثناء العلماء عليه: ١- قال الشافعي: "العِلمُ يدور على ثلاثة: مالك، والليث، وابن عيينة". ٢- وروي عن الأوزاعي أنه كان إذا ذكر مالكًا يقول: "عالم العلماء، ومفتي الحرمين". ٣- وعن بقيّة أنَّه قال: "ما بقي على وجه الأرض أعلم بسنّةٍ ماضية منك يا مالك". ٤- وقال أبو يوسف: "ما رأيت أعلمَ من أبي حنيفة، ومالك، وابن أبي ليلى". ٥- وذكر أحمد بن حنبل مالكًا فقدّمه على الأوزاعي، والثوري، والليث، وحماد، والحَكم، في العلم، وقال: "هو إمام في الحديث، وفي الفقه". ٦- وقال القطّان: "هو إمام يُقتدى به". ٧- وقال ابن معين: "مالكٌ من حُجج الله على خلقه". ٨- وقال أسد بن الفرات: "إذا أردتَ الله والدارَ الآخرة فعليك بمالكٍ". ثامنًا: أقواله في السنة: ١- قال مطرّف بن عبد الله: سمعتُ مالكًا يقول: "سنَّ رسول الله ﷺ ووُلاة الأمر بعده سُننًا، الأخذُ بها اتّباع لكتاب الله، واستكمالٌ بطاعة الله، وقوّةٌ على دين الله، ليس لأحد تغييرها، ولا تبديلُها، ولا النّظرُ في شيء خالفها، من

1 / 23

اهتدى بها فهو مهتدٍ، ومن استنصر بها فهو منصور، ومن تركها اتّبع غير سبيل المؤمنين، وولاّه الله ما تولّى، وأصلاه جهنّم وساءت مصيرًا". ٢- وروى إسحاق بن عيسى عن مالك ﵀ أنَّه قال: "أكلّما جاءنا رجلٌ أجدلُ من رجل تركنا ما نزل به جبريل على محمد ﷺ لجدلِه". ٣- وقال أبو ثور: سمعت الشافعيَّ يقول: "كان مالك إذا جاءه بعض أهل الأهواء قال: أمَا إني على بيّنة من ديني، وأمَّا أنت فشاكٌّ، اذهب إلى شاكٍّ مثلكَ فخاصمه". ٤- وقال يحيى بن خلف الطَرسوسي: "كنت عند مالك فدخل عليه رجل، فقال: يا أبا عبد الله ما تقول فيمن يقول: القرآن مخلوق؟ فقال مالك: زنديق، اقتلوه، فقال: يا أبا عبد الله، إنّما أحكي كلامًا سمعته، قال: إنّما سمعته منك، وعظَّم هذا القول". ٥- وروى ابن وهب عن مالك ﵀ أنّه قال: "الناس ينظرون إلى الله ﷿ يوم القيامة بأعينهم". ٦- وقال القاضي عياض: قال معنٌ: "انصرف مالكٌ يومًا فلحقَه رجلٌ يُقال له: أبو الجويرية، متّهمٌ بالإرجاء، فقال: اسمع مني، قال: احذر أن أشهد عليك، قال: والله ما أريد إلاَّ الحق، فإن كان صوابًا فقُل به، أو فتكلّم، قال: فإن غلبتني، قال: اتبعني، قال: فإن غلبتُك، قال: اتّبعتُك، قال: فإن جاء رجل فكلّمنا، فغلبنا؟ قال: اتّبعناه، فقال مالك: يا هذا، إنَّ الله بعث محمدًا ﷺ بدين واحد، وأراك تتنقّل". ٧- وعن مالك قال: "الجدالُ في الدِّين ينشئ المراء، ويذهب بنور العلم من القلب ويقسّي، ويورث الضِّغن". تاسعًا: وفاته: قال القعنبي: "سمعتهم يقولون: عُمر مالك تسع وثمانون سنة، مات سنة تسع وسبعين ومائة".

1 / 24

وقال إسماعيل بن أبي أُويس: "مرض مالك، فسألتُ بعض أهلنا عما قال عند الموت، قالوا: تشهّد، ثم قال: ﴿للهِ الأَمْرُ مِن قَبْلُ وَمِن بَعْدُ﴾ ١، وتوفي صبيحة أربع عشرة من ربيع الأول سنة تسع وسبعين ومائة، فصلَّى عليه الأمير عبد الله بن محمد بن إبراهيم بن محمد بن علي بن عبد الله بن عباس الهاشمي، وَلَد زينب بنت سليمان العباسية، ويُعرف بأمِّه"، رواها محمد بن سعد عنه، ثم قال: "وسألتُ مصعبًا، فقال: بل مات في صفر، فأخبرني معن بن عيسى بمثل ذلك". وقال أبو مصعب الزهري: "مات لعشر مضت من ربيع الأول سنة تسع". وقال محمد بن سحنون: "مات في حادي عشر ربيع الأول". وقال ابن وهب: "مات لثلاث عشرة خلت من ربيع الأول". قال القاضي عياض: "الصحيح وفاته في ربيع الأول يوم الأحد لتمام اثنين وعشرين يومًا من مرضه". قال الذهبي: "تواترت وفاتُه في سنة تسع، فلا اعتبار لقول من غلِط وجعلها في سنة ثمان وسبعين، ولا اعتبار بقول حبيب كاتبه، ومطرِّف فيما حكي عنه، فقالا: سنة ثمانين ومائة". ونقل عن القاضي عياض أنَّ أسد بن الفرات قال: "رأيتُ مالكًا بعد موته، وعليه طويلة وثياب خضر وهو على ناقة، يطير بين السماء والأرض، فقلت: يا أبا عبد الله، أليس قد متَّ؟ قال: بلى، فقلت: فإلامَ صِرتَ؟، فقال: قدِمتُ على ربي وكلّمني كفاحًا، وقال: سلني أعطِك، وتمنَّ عليَّ أُرضِك". فرحمه الله، وغفر له، وأسكنه الفردوس الأعلى من الجنّة.

١ سورة الروم، الآية: (٤) .

1 / 25

المبحث الثاني: في ذكر معتقد أهل السنة والجماعة في صفة الاستواء بإيجاز الاستواء صفةٌ من صفات الكمال الثابتة لذي العظمة والجلال – سبحانه -، وقد دلّ النقل على هذه الصفة حيث أثبتها الربٌّ – سبحانه - لنفسه في كتابه، وأثبتها له رسوله ﷺ في سنّته، وأجمع على ثبوتها المسلمون. وقد وردت هذه الصفة في القرآن الكريم في مواطن عديدة، وكان ورودها فيه على نوعين: تارة معدّاة بـ (على)، وتارة معدّاة بـ (إلى) . ١- أمّا النوع الأول: وهو مجيئها معدّاة بـ (على) فقد ورد في القرآن الكريم في سبعة مواضع، حيث تمدّح بها الرب – سبحانه -، وجعلها من صفات كماله وجلاله، وقرنها بما يبهر العقول من صفات الجلال والكمال، مما يدل على ثبوت هذه الصفة العظيمة لله ثبوت غيرها من الصفات. قال الشيخ العلاّمة محمد الأمين الشنقيطي ﵀: "اعلموا أنَّ هذه الصفة التي هي الاستواء صفةُ كمال وجلال تمدّح بها ربُّ السموات والأرض، والقرينة على أنّها صفة كمال وجلال أنَّ الله ما ذكرها في موضع من كتابه إلاَّ مصحوبة بما يبهر العقول من صفات جلاله وكماله التي هي منها، وسنضرب مثلًا بذكر الآيات: فأوّل سورة ذكر الله فيها صفة الاستواء حسب ترتيب المصحف سورة الأعراف قال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُغْشِي الَّيلَ النَّهَارَ يَطْلُبُهُ حَثِيثًا وَالشَّمْسَ وَالقَمَرَ وَالنُّجُومَ مُسَخَّرَاتٍ بِأَمْرِهِ أَلاَ لَهُ الخَلْقُ

1 / 26

وَالأَمْرُ تَبَارَكَ اللهُ رَبُّ العَالَمِينَ﴾ ١، فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال. الموضع الثاني في سورة يونس قال: ﴿إِنَّ رَبَّكُمُ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى الْعَرْشِ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مَا مِن شَفِيعٍ إِلاَّ مِن بَعْدِ إِذْنِهِ ذَلِكُمُ اللهُ رَبُّكُمْ فَاعْبُدُوهُ أَفَلاَ تَذَكَّرُونَ إِلَيْهِ مَرْجِعُكُمْ جَمِيعًا وَعْدَ اللهِ حَقًاّ إِنَّهُ يَبْدَؤُا الخَلْقَ ثُمَّ يُعِيدُهُ لِيَجْزِيَ الَّذِينَ آمَنُوا وَعَمِلُوا الصَّالِحَاتِ بِالْقِسْطِ وَالَّذِينَ كَفَرُوا لَهُمْ شَرَابٌ مِنْ حَمِيمٍ وَعَذَابٌ أَلِيمٌ بِمَا كَانُوا يَكْفُرُونَ هُوَ الَّذِي جَعَلَ الشَّمْسَ ضِيَاءً وَالقَمَرَ نُورًا وَقَدَّرَهُ مَنَازِلَ لِتَعْلَمُوا عَدَدَ السِّنِينَ وَالْحِسَابَ مَا خَلَقَ اللهُ ذَلِكَ إِلاَّ بِالْحَقِّ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لِقَوْمٍ يَعْلَمُونَ إِنَّ فِي اخْتِلافِ الَّيْلِ وَالنَّهَارِ وَمَا خَلَقَ اللهُ فِي السَّمَوَاتِ وَالأَرْضِ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَّقُونَ﴾ ٢. فهل لأحد أن ينفيَ شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال. الموضع الثالث في سورة الرعد في قوله جلّ وعلا: ﴿اللهُ الَّذِي رَفَعَ السَّمَوَاتِ بِغَيْرِ عَمَدٍ تَرَوْنَهَا ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ وَسَخَّرَ الشَّمْسَ وَالقَمَرَ كُلٌّ يَجْرِي لأَجَلٍ مُسَمَّى يُدَبِّرُ الأَمْرَ يُفَصِّلُ الآيَاتِ لَعَلَّكُمْ بِلِقَآءِ رَبِّكُمْ تُوقِنُونَ وَهُوَ الَّذِي مَدَّ الأَرْضَ وَجَعَلَ فِيهَا رَوَاسِيَ وَأَنْهَارًا وَمِن كُلِّ الثَّمَرَاتِ جَعَلَ فِيهَا زَوْجَيْنِ اثْنَيْنِ يُغْشِي الَّيْلَ النَّهَارَ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَتَفَكَّرُونَ وَفِي الأَرْضِ قِطَعٌ مُتَجَاوِرَاتٌ وَجنَّاتٌ مِنْ أَعْنَابٍ وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ صِنْوَانٍ يُسْقَى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ ٣، وفي القراءة الأخرى: ﴿وَزَرْعٌ وَنَخِيلٌ صِنْوَانٌ وَغَيْرُ

١ سورة الأعراف، الآية: (٥٤) . ٢ سورة يونس، الآيات: (٣ ٦) . ٣ سورة الرعد، الآيات: (٢ ٤) .

1 / 27

صِنْوَانٍ تُسْقِى بِمَآءٍ وَاحِدٍ وَنُفَضِّلُ بَعْضَهَا عَلَى بَعْضٍ فِي الأُكُلِ إِنَّ فِي ذَلِكَ لآيَاتٍ لِقَوْمٍ يَعْقِلُونَ﴾ . فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال. الموضع الرابع في سورة طه: ﴿طَهَ مَا أَنزَلْنَا عَلَيْكَ القُرآنَ لِتَشْقَى إِلاَّ تَذْكِرَةً لِمَن يَخْشَى تَنْزِيلًا مِمَّنْ خَلَقَ الأَرْضَ وَالسَّمَوَاتِ العُلَى الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى لَهُ مَا فِي السَّمَوَاتِ وَمَا فِي الأَرْضِ وَمَا بَيْنَهُمَا وَمَا تَحْتَ الثَّرَى وَإِن تَجْهَرْ بِالقَوْلِ فَإِنَّهُ يَعْلَمُ السِّرَّ وَأَخْفَى اللهُ لاَ إِلَهَ إِلاَّ هُوَ لَهُ الأَسْمَآءُ الحُسْنَى﴾ ١. فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على الجلال والكمال. الموضع الخامس في سورة الفرقان في قوله: ﴿وَتَوَكَّلْ عَلَى الحَيِّ الَّذِي لاَ يَمُوتُ وَسَبِّحْ بِحَمْدِهِ وَكَفَى بِهِ بِذُنُوبِ عِبَادِهِ خَبِيرًا الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّاٍم ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ الرَّحْمَنُ فَاسْأَلْ بِهِ خَبِيرًا﴾ ٢. فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الكمال والجلال.

١ سورة طه، الآيات: (١ ٧) . ٢ سورة الفرقان، الآيات: (٥٨،٥٩) .

1 / 28

الموضع السادس في سورة السجدة في قوله تعالى: ﴿أَمْ يَقولُونَ افْتَرَاهُ بَلْ هُوَ الحَقُّ مِن رَّبِّكَ لِتُنذِرَ قَوْمًا مَا أَتَاهُمْ مِن نَذِيرٍ مِن قَبْلِكَ لَعَلَّهُمْ يَهْتَدُونَ اللهُ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ وَمَا بَيْنَهُمَا فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ مَا لَكُمْ مِن دُونِهِ مِن وَلِيٍّ وَلاَ شَفِيعٍ أَفَلاَ تَتَذَكَّرُونَ يُدَبِّرُ الأَمْرَ مِنَ السَّمَآءِ إِلَى الأَرْضِ ثُمَّ يَعْرُجُ إِلَيْهِ فِي يَوْمٍ كَانَ مِقْدَارُهُ أَلْفَ سَنَةٍ مِمَّا تَعُدُّونَ ذَلِكَ عَالِمُ الغَيْبِ وَالشَّهَادَةِ العَزِيزُ الرَّحِيمُ الَّذِي أَحْسَنَ كُلَّ شَيْءٍ خَلَقَهُ وَبَدَأَ خَلْقَ الإِنسَانِ مِن طِينٍ ثُمَّ جَعَلَ نَسْلَهُ مِن سُلاَلَةٍ مِن مَآءٍ مَهِينٍ ثُمَّ سَوَّاهُ وَنَفَخَ فِيهِ مِن رُوحِهِ وَجَعَلَ لَكْمُ السَّمْعَ وَالأَبْصَارَ وَالأَفْئِدَةَ قَلِيلًا مَا تَشْكُرُونَ﴾ ١. فهل لأحد أن ينفي شيئًا من هذه الصفات الدالة على هذا من الجلال والكمال. الموضع السابع في سورة الحديد في قوله تعالى: ﴿هُوَ الأَوَّلُ وَالآخِرُ وَالظَّاهِرُ وَالبَاطِنُ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ هُوَ الَّذِي خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ فِي سِتَّةِ أَيَّامٍ ثُمَّ اسْتَوَى عَلَى العَرْشِ يَعْلَمُ مَا يَلِجُ فِي الأَرْضِ وَمَا يَخْرُجُ مِنْهَا وَمَا يَنزِلُ مِنَ السَّمَآءِ وَمَا يَعْرُجُ فِيهَا وَهُوَ مَعَكُمْ أَيْنَمَا كُنتُمْ وَاللهُ بِمَا تَعْمَلُونَ بَصِيرٌ﴾ ٢٣. أما النوع الثاني: وهو مجيئها معدّاة بـ (إلى) فقد ورد في القرآن في موطنين:

١ سورة السجدة، الآيات: (٣ ٩) . ٢ سورة الحديد، الآيات: (٣،٤) . ٣ منهج ودراسات لآيات الأسماء والصفات (ص:١٥ ١٧) .

1 / 29

الأول في سورة البقرة، قال الله تعالى: ﴿هُوَ الَّذِي خَلَقَ لَكُمْ مَا فِي الأَرْضِ جَمِيعًا ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ فَسَوَّاهُنَّ سَبْعَ سَمَوَاتٍ وَهُوَ بِكُلِّ شَيْءٍ عَلِيمٌ﴾ ١. الثاني: في سورة فُصّلت، قال الله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ فَقَالَ لَهَا وَلِلأَرْضِ ائْتِيَا طَوْعًا أَوْ كَرْهًا قَالَتَا أَتَيْنَا طَآئِعِينَ﴾ ٢. والاستواء معناه معلوم في لغة العرب، لا يجهله أحد منهم، والله قد خاطب عباده في القرآن الكريم بكلام عربيٍّ مبين، والاستواء معناه في اللغة العلوّ والارتفاع٣. ولهذا فإنَّ مذهب السلف في الاستواء هو إثباته لله ﷿ كما أثبته لنفسه، وكما أثبته له رسوله ﷺ من غير تحريف ولا تعطيل، ومن غير تكييف ولا تمثيل، بل يؤمنون بأنَّ الله مستو على عرشه استواء يليق بجلاله وكماله، ولا يشبه استواء أحد من خلقه - تعالى الله عن ذلك -، ومعنى الاستواء عندهم العلوّ والارتفاع، ولا خلاف بينهم في ذلك. قال شيخ الإسلام ابن تيمية ﵀: "وكلام السلف والأئمة ومن نقل مذهبهم في هذا الأصل كثير يوجد في كتب التفسير والأصول.

١ سورة البقرة، الآية: (٢٩) . ٢ سورة فصّلت، الآية: (١١) . ٣ هذا إذا كان معدًّى بـ (إلى) أو (على)، أما إذا كان مطلقًا كقوله تعالى: ﴿ولمَّا بَلَغَ أَشُدَّهُ وَاسْتَوَى﴾ فإنَّ معناه: كمُل وتمَّ، وأمَّا إذا كان مقرونًا بواو (مع) التي تعدي الفعل إلى المفعول معه نحو: "استوى الماء والخشبة" فإنَّ معناه ساواها، انظر: مختصر الصواعق (ص:٣٢٠) .

1 / 30

قال إسحاق بن راهويه: حدّثنا بشر بن عمر: سمعت غير واحد من المفسّرين يقولون: " ﴿الرَّحْمَنُ عَلَى العَرْشِ اسْتَوَى﴾: أي ارتفع"١. وقال البخاري في صحيحه: قال أبو العالية: "استوى إلى السماء: ارتفع"، قال: وقال مجاهد: "استوى: علا على العرش"٢. وقال الحسين بن مسعود البغوي في تفسيره المشهور: "وقال ابن عباس وأكثر مفسري السلف: استوى إلى السماء: ارتفع إلى السماء، وكذلك قال الخليل بن أحمد"٣. وروى البيهقي في كتاب الصفات قال: قال الفرّاء: "ثم استوى، أي صعد، قاله ابن عباس، وهو كقولك للرجل: كان قاعدًا فاستوى قائمًا"٤. وروى الشافعي في مسنده عن أنس ﵁ أنَّ النبي ﷺ قال عن يوم الجمعة: "وهو اليوم الذي استوى فيه ربّكم على العرش"٥.

١ أورده الذهبي في العلو، وقال الألباني - حفظه الله - (ص:١٦٠ مختصره):"وهذا إسناد صحيح مسلسل بالثقات الحفاظ ... ". ٢ صحيح البخاري (١٣/٤٠٣ الفتح) . ٣ تفسير البغوي (١/٥٩) . ٤ الأسماء والصفات (٢/٣١٠) . ٥ مسند الشافعي (ص:٧٠ ٧١)، ورواه الذهبي في العلو من طريق الشافعي (ص:٢٩ ٣٠) ثم قال: "إبراهيم وموسى ضعفاء، أخرجه الإمام محمد بن إدريس في مسنده، وقد أخرجه الدارقطني من طريق حمزة بن واصل المنقري، عن قتادة، عن أنس، ومن طريق عنبسة الرازي، عن أبي اليقظان عثمان بن عُمير، عن أنس، عن ابن محمد بن شعيب بن سابور، عن عمر مولى عفرة، عن أنس. وأخرجه القاضي أبو أحمد العسّال في كتاب المعرفة له عن رجال، عن جرير ابن عبد الحميد، عن ليث بن أبي سليم، عن عثمان بن أبي حميد وهو أبو اليقظان عن أنس، ورواه من طريق سلام بن سليمان، عن شعبة وإسرائيل وورقاء، عن ليث أيضًا. وساقه الدارقطني من رواية شجاع بن الوليد، عن زيادة بن خيثمة، عن عثمان ابن أبي سليمان، عن أنس، والظاهر أنَّ عثمان أبو اليقظان، وحدّث به الوليد ابن مسلم، عن عبد الرحمن بن ثابت بن ثوبان، عن سالم بن عبد الله، عن أنس ابن مالك، وهذه طرق يعضد بعضها بعضًا، رزقنا الله وإيّاكم لذّةَ النظر إلى وجهه الكريم".

1 / 31

والتفاسير المأثورة عن النبي ﷺ والصحابة والتابعين مثل تفسير محمد بن جرير الطبري، وتفسير عبد الرحمن بن إبراهيم المعروف بدُحيم، وتفسير عبد الرحمن بن أبي حاتم، وتفسير أبي بكر بن المنذر، وتفسير أبي بكر عبد العزيز، وتفسير أبي الشيخ الأصبهاني، وتفسير أبي بكر بن مردويه، وما قبل هؤلاء من التفاسير مثل تفسير أحمد بن حنبل وإسحاق بن إبراهيم، وبقي بن مخلد وغيرهم، ومن قبلهم مثل تفسير عبد بن حميد، وتفسير سُنيد، وتفسير عبد الرزاق، ووكيع بن الجراح فيها من هذا الباب الموافق لقول المثبتين ما لا يكاد يُحصى، وكذلك الكتب المصنّفة في السنة التي فيها آثار النبي ﷺ والصحابة والتابعين"١. وجاء عن الخليل بن أحمد قال: "أتيت أبا ربيعة الأعرابي وكان من أعلم من رأيت وكان على سطح فلما رأيناه أشرنا إليه بالسلام، فقال: استووا، فلم ندر ما قال، فقال لنا شيخ عنده: يقول لكم: ارتفعوا، قال الخليل: هذا من قوله تعالى: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾ " ٢، أي: ارتفع وعلا٣. والاستواء سواء عُدّيَ بـ"إلى" أو بـ"على" فمعناه العلو والارتفاع، قال شيخ الإسلام ابن تيمية – ﵀: "ومن قال: استوى بمعنى عَمَدَ، ذكره في قوله: ﴿ثُمَّ اسْتَوَى إِلَى السَّمَآءِ وَهِيَ دُخَانٌ﴾؛ لأنَّه عُدي بحرف الغاية، كما يقال: عمدت إلى كذا، وقصدت إلى كذا، ولا يقال: عمدت على كذا ولا قصدت عليه، مع أنَّ ما ذُكر في تلك الآية لا يُعرف في اللغة أيضًا، ولا هو قول أحد من

١ درء تعارض العقل والنقل (٢/٢٠ ٢٢)، وانظر أيضًا: مجموع الفتاوى (٥/٥١٨ وما بعدها) . ٢ سورة فصّلت، الآية: (١١) . ٣ أورده الذهبي في العلو (ص:١٧١ مختصره) .

1 / 32