The Considered Statement in Explaining the Miraculous Nature of the Disjointed Letters at the Beginning of the Surahs
القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطعة من فواتح السور
Mai Buga Littafi
مطابع برنتك للطباعة والتغليف-السودان
Lambar Fassara
الأولى
Shekarar Bugawa
٢٠١١
Inda aka buga
الخرطوم
Nau'ikan
القول المعتبر في بيان الإعجاز للحروف المقطّعة من فواتح السور
دراسة في الإعجاز اللغوي والبياني للقرآن الكريم
تأليف: إياس محمد حرب آل خطاب
الطبعة الأولى ٢٠١١
1 / 1
دعاء
أللهمَّ إنْ كنتَ تعلم أن ما ذهبتُ إليه في هذا الكتاب من تأويلٍ لآياتِ كتابك فيه الخير للمسلمين ولطالبي هذا العلم الشريف فيسّره للظهور واكتب له القبول وإنْ كنتَ تعلم أنني انتصرتُ فيه لقولٍ أو لرأيٍ يخالف شرعك وصحيح فهم كتابك أو يوافق بدعةً في دينك فاصرفه عن الظهور واجعله نسيًا منسيًا.
1 / 2
بين يدي الكتاب
الحمد لله رب العالمين، والصلاة والسلام على رسوله الأمين، الذي اشترط النصح لكل المسلمين، وعلى آله وصحبه أجمعين، أما بعدُ:
فما من قارئ لكتاب الله - مسلم أو غير مسلم - إلا وتستوقفه تلك الحروف المقطّعة في بداية بعض السور، وما من باحث في تأويلها بين أقوال المفسرين وغيرهم من أصحاب الآراء والأقوال والادعاءات إلا ويستوقفه مطلق الظن بعلمها ومعرفة مقاصد الله جلَّ في علاه منها، فقد اختلف المفسرون قديمهم وحديثهم في تأويل هذه الحروف على مرِّ العصور، بل لقد كانت أقوالهم وآراؤهم متباينة أشدّ البَوْن بين أصل الحروف اللغوي كالقول بأنها حروف دلت على ذاتها، وبين منتهى العجز في فهمها كالقول بأنها من الأسرار وأنّ الله وحده هو العالم بمراده فيها.
وهذا الكتاب سيغني الباحث - إن شاء الله - عن عناء البحث والاستقصاء لجمع تلك الآراء لمجرد الاطلاع عليها ومعرفة الصحيح من السقيم منها، أو لمعرفة تفسير الحروف وتأويلها على الوجه الصحيح، وبيان أوجه الإعجاز فيها، فقد ذكرت فيه - بحمد الله - ما يقنع الباحث عن هذا العلم، وشرحت فيه من حال التأويل المستحب للحروف، وما يَحسن فيه وما يقبح، وبيّنت فيه مسالك المتحدثين فيها على اختلاف أفهامهم وغاياتهم، وبيّنت الكثير من أوجه الإعجاز وما جاءت به الحروف من دلالات وإشارات ومضامين يعجز البشر عن مجرد التفكير بمثلها، وقد اعتمدت في تلخيصها وإيضاحها على الأقوال المعتبرة وما قارب الصواب منها بحسب الأصول والقواعد المتبعة في علوم القرآن وعلوم الحديث وإقرارات أهل العربية، وما يَحدّها من البلاغة وبيان الإفصاح في كتاب الله، بالإضافة لما تحصل عندي من معرفة بعلم التاريخ والآثار وما
1 / 1
يخص منها اللغات ومقارنتها، واتخذته مقرونًا في بيان الوجوه الصحيحة من كل الآراء، مع إغفال الوجوه السقيمة منها بما تحصل عندي من استقراء وتأمل في غايات الذكر الحكيم، غير مُرجّح لرأي دون آخر ولا مُتّبع لمسلك دون سواه، إلّا ما دلّت عليه إشارة أو دلالة في كتاب الله وسنة نبيه ﷺ أو ما وافق فهمًا صحيحًا لأثرٍ عن السلف من دون أي التباس.
ولست أدعي فيما أكتب علمًا لم يبلغه أحد، إنما هو بيان لوقفات مضيئة على ما ورد ذكره في القرآن من حروف، وما فيها من دلالات وإشارات تُبهر العقول وتُغذّي الروح، رغم أنها كانت على مر العصور موطن تأويل وبحث واختلاف، وكان مَبلغ علم المتبحر في غاياتها ودلالاتها أن يقول: هي من علم الله، أو هي من المتشابه في القرآن. وقد كانت بحق وما زالت كما قيل بأنها تلك الفواتح العظيمة التي تقرع آذان السامعين لتنقلهم من مراتب السمع الخالص إلى أفق التأمل بما تعجز القلوب عن إدراكه من أسرارٍ للبيان الإلهي.
وقد بيّنت في هذا الكتاب أنها أتت للرد على مسالك المتكلمين فيها وفي القرآن بغير علم، وأنها ردت عن نفسها بأعجب ما يكون في الرد من إيجاز، وأدقه معرفة لكمائن النفوس، وأنها جمعت أقوال المفسرين بتكامل عجيب بما جاء فيها من أسرارٍ للنظم الإلهي الأوحد. ولم أغفل بحمد الله عن البيان والتفصيل والتأصيل لأسباب الخلاف الظاهر بين أقوال العلماء والمفسرين، قبل الحديث عن بيانها وتفصيل الأقوال فيها، وقبل بيان بعض دلالاتها وإشارات الإعجاز فيها. على أنني لم أرجع فيما بسطته من أسباب للخلاف والاتفاق في التأويل إلى كتابٍ مُؤلَّف أو قولٍ يروى، ولا وجدت ما ذكرته مجموعًا في مكان، وإنما عرفته بالاستقراء وتأمل كتاب الله وسنة نبيه ﷺ، وما نبّه أهل العلم على إثباته وما حذّروا من إتباعه. وهذا البيان وهذا التفصيل رأيته ضرورة حتمية، تلزمنا نحن المسلمين لتصفية ما علق في أذهاننا من الفهم السقيم لبعض الحقائق الناصعة، وما شابها من تغيير وتبديل؛ لننير بذلك طريق الفهم السليم لمكنونات الذكر الحكيم.
1 / 2
وقد اتبعت طريقًا في سرد الحقائق والشبه، اعتمدت فيه على تفصيلها أولًا، ثم بالرد على المبتدعين والحاقدين من غير احتجاج بما جاء في فواتح السور من دلالات ثانيًا، وذلك ليأتي الرد من بابين: أولاهما الرد بكلام البشر على البشر، كما هو ردي عليهم، وثانيهما بفهم الدلالات وردّها عن نفسها بما نعجز نحن البشر عن مثله، ليُفرّق القارئ بين إعجاز البيان وما يقوله البشر من كلام، فلا يستعجلن أحد في الحكم على شيء قبل المقارنة بما يوافقه من دلالات وإشارات في كلام الله.
هذا وأسأل من يقرأ في كتابي هذا العذر والصفح؛ إن رآني أقل منه منزلة في علم له علاقة أو منهج مُتَّبع هو فيه إمام، أو رأى ما لعله يثيره عليّ، لأنني سلكت في تأليف هذا الكتاب دربًا لم أجد لي فيه مرشدًا إلا ما زكّته النفس عن إيمان ويقين بعد البحث والاستقراء، ولست أدعي فيه السلامة من الخطأ، ولا العصمة من الزلل وأعترف بالتقصير. فقد كان أساس البحث فيه ما انقدح في نفسي من فهمٍ للحروف، فبحثت عنه بما آتاني الله من قوة في كتب السابقين وما سطّر المعاصرون، فلم أجد لما ذهبت إليه فيها قرين، ولم أجد كذلك أن ما ذهبت إليه قد خالف أصلًا من كتاب الله وسنة رسوله ﷺ أو أصلًا من أصول أهل العلم في فهم النصوص، فعلمت أنه لا يحق لي كتمانه، كما لا يحق لي إطفاء شعلة من نور في طريق العلم، وأنني إن فعلت كنت مستحقًّا للجام لا أقوى على احتماله.
ولما كان هذا المسلك من التأليف فيه ما فيه من سعة المطالب، ولا يكون إلا بشحذ الفكر وإعياء النظر، فيجب على المنصف إن كان من أهل العلم الصادقين، أن يعرض عما يجدني أشير إليه باختصار، أو أسهب فيما يدعوه للملل والانتظار، ولْيسارع في التجاوز عنه وعني، وليتذكر بأن الدين النصيحة، ولينتهي إن شاء بالذي ابتدأت به النصيحة فكانت لله أولًا ولْيكتب ما هو خير منه، أو ليأخذ منه ولْيَزد عليه ما شاء، لأكون ابتداءً سببًا في دفع العلماء
1 / 3
الصادقين لطلب المزيد، وأكون انتهاءً بحال تمنى الشافعي أن يكون فيه عندما قال: "بودي أن جميع الخلق تعلموا هذا الكتاب - يعني كتبه - على ألا ينسب إليّ منه شيء" (١). ولْيُعلَم أنني ما كتبت هذا الكتاب إلا لوجه الله تعالى أولًا، ثم ليعلم الناس قارؤهم وكاتبهم أن تأويل القرآن للتوسع في بيان مقاصده بالتدبر والاستقراء ليس تاريخًا يحذو فيه المسلمون حذو أسلافهم الأولين، مرجحين لقول ولغيره منكرين، أو فنًّا يتساوى فيه المبتدعة مع أهل الحق وأهل السنة، ثم ليعلم الناس أن العلم ما هو إلّا "نور يقذفه الله في القلب، وشرطه الإتباع، والفرار من الهوى والابتداع، وفّقنا الله وإياكم لطاعته." (٢)
_________
(١) رواه البيهقي في معرفة السنن والآثار (٢٠٣/ ١) وعنه الذهبي في سير أعلام النبلاء (٧٦/ ١٠) وابن عساكر في تاريخ دمشق (٤٣٢/ ٥١) ورواه الأصبهاني في حلية الأولياء (١١٨/ ٩) ومن طريقه ابن الجوزي في المنتظم (١٣٧/ ١٠).
(٢) من كلام الذهبي في سير أعلام النبلاء (١٣/ ٣٢٣) - ترجمة الإمام عثمان بن سعيد الدارمي
1 / 4
الفصل الأول: تصفية الأذهان مما شاب تأويل الحروف من أوهام
نعلم جميعًا نحن المسلمين بأن كتاب الله قد نزل بحروف عربية وكلمات عربية ونظم عربيّ، ومع ذلك فهو إلهيّ النسب إلهيّ المبدأ وإلهي المنهج، ولا يُحيط بأسرار إعجازه أحد، لا من العرب ولا من سواهم، إلّا ما شاء الله أن يعلموه (وَمَا يَعْلَمُ تَأْوِيلَهُ إِلَّا اللَّهُ)، لأنّ الله قد تعالى بهذا الكتاب - كما تعالى بكل صفاته - عما ينشأ في الأرض من كتب وغايات مبدئها إنساني ومنتهاها إنساني. وإن كان القرآن قد نزل بلغة العرب، فليس لأنها قادرة على استيعاب الوحي الإلهي دون غيرها من اللغات وقد نزل بسواها سابقًا، ولم تُكتبْ آياته بحروفها لكونها أشرف الحروف وأبدعها في البيان قبل التنزيل، بل نزل بلغة العرب لإتمام الرسالة كما أراد الله لها أن تكون عربية، وبما قدّر الله للبيان بأن يكون على لسان العرب. وقد كانت حروف البيان لمن نزل فيهم من أبسط الحروف وأقلها استعمالًا بين حروف البشر، بل وكان استعمالها عزيزًا بينهم، فأعزّها الله بعزّة قوله، وشرّفها بموافقتها منطوق وحيه، فلا فخر للعربية على سواها إلّا بهذا الكتاب وما سار على دربه ووافق شرعه من كِتابةٍ وانتهاجٍ. فكل نبي أُرسل بلغة قومه ليبيّن لهم تشريع العزيز الحكيم، كما أُنزل القرآن بلسانٍ عربيٍّ مبين، على النبي العربي الأمي الأمين ﷺ، وميّزهُ ربّ العِزّة عن غيره بأن كان آخر الكتب السماوية، ويحمل خاتمة الرسالات الإلهية، فكان للعربية من ذلك حسن الخاتمة، وشرف الإفصاح عن المرجع الأخير، بتقديرٍ من خالق البشر العالم الخبير بمواطن اختلاف ألسنة البشر والتقاء أفهامهم على آياته، فلا فضل لعربي على أعجمي ولو كان فخرًا بلغته - وقد كُتبت بحروفها آيات القرآن - إلّا بالتقوى، وما في القرآن من تفضيل حسب دعوة الإتباع، لأن معاني القرآن واضحة بيّنة، ويتساوى في فهمها العربي مع غيره بعد ترجمتها، كما أن تدبر القرآن ليس مقصورًا على العرب دون سواهم، أما التأويل وفهم المقاصد بعد التدبر والتحقق والتأمل فهو العلم والحكمة، ويؤتيه الله من يشاء من عباده.
1 / 5
وهذه الحروف (ن، ق، ص، الم، كهيعص ...) نزلت من مجمل القرآن، وتلذذنا نحن المسلمين بقراءتها وإن لم نعلم ما حملته من مقاصد على وجه اليقين، وليس مِنّا أحد إلّا ويعلم معناها على الأصل، وهو علم من لا يعلم إلا قراءتها، فنحن نعلم بأنها "حروف مقطّعة تنطق بأسماء الحروف لا مسمياتها، ونعلم أن لكل حرف اسمًا، وله مسمى؛ فحين نقول أو نكتب كلمة "كتب"؛ فنحن نضع حروفًا هي الكاف والباء والتاء بجانب بعضها البعض، لتكون الكلمة كما ننطقها أو نقرؤها. ويقال عن ذلك إنها مسميات الحروف، أما أسماء الحروف؛ فهي "كاف" و"باء" و"تاء"." (١) أما البحث في تأويلها وبيان مقاصدها فنتفاوت فيه كما يتفاوت الناس في الفهم، ويختلف عليه العلماء كما تختلف آراؤهم على غيره من مواطن الخلاف، وكل رأي اتسق مع غاية الوحي وسبيله في الإفصاح كان على حق وكل ما خالفهما كان شاذًا وباطلًا.
وقبل الخوض في بيان آراء العلماء في تأويل الحروف وتفصيلها، يجب الوقوف على ثلاثة أمور، لنعلم موطن الخلاف في تأويلها وبيان غاياتها، وهي:
الأول: ذكر مسالك المتحدثين فيها، لنميز الخبيث من الطيب، ولنعطي كل ذي حق حقه، كل حسب غايته.
الثاني: ذكر بعض الأسباب التي تدعوا لفهم القرآن، من غير النظر للخلاف القائم على تأويلها.
الثالث: ذكر سبب الخلاف في تأويل الحروف، وبيان مسببات الخلاف على بيان المقاصد من كلام الله.
_________
(١) تفسير الشعراوي (٧٦٣٠/ ١٢) تفسير سورة الحجر
1 / 6
الباب الأول: مسالك المتحدثين في فواتح السور
المسلك الأول: الذين داروا في فلك التأويل، فكانوا ممن لهم أجر أو أجران، وهم المفسرون بالأثر وأقوال أهل اللغة، وأوَّلوها على أكثر من عشرين قولًا بحسب ما أحصيتها، وبحسب من أحصاها من العلماء (١)، فقالوا عنها مثلًا: هي اسم من أسماء القرآن أو أسماء للسور، وقالوا: هي فواتح يفتتح الله بها القرآن، أو جُعلت فصلًا بين السور، وقالوا: هي حروف مقطّعة من أسماء أو أفعال، وهي قَسَم، وهي من حروف الهجاء لأسماء الله الحسنى، أو فيها اسم الله الأعظم، وهي حروف هجاء موضوع، وهي حروف تحمل في كل منها معنى مختلف، وهي سر القرآن ومما استأثر الله بعلمه، وهي حروف تدل على أصلها كحروف، وجُعلت فواتح لقرع الأسماع، أو هي من حروف المعجم أساس نظم القرآن، وهي إعجازٌ للعرب عن صياغة مثل القرآن بها، وهي إعجازٌ في النظم لكونها تُمثّل أنصاف صفات الحروف، وهي تنبيه لمغايرتها عُرف العرب، وهي ذات دلالة مباشرة على معنى، كتفسير (ألم) بـ (أنا الله أعلم)، وسآتي على ذكر هذه الأقوال لاحقًا بالتفصيل (في الفصل الثاني) من خلال بيان موافقتها أو مخالفتها لأصول التفسير والتأويل. هذا وإن تعددت الأقوال إلّا أنها تدور في فلك التأويل المستحب، والخلاف فيها كان من تعدد الآثار والروايات، وكثرة الضعيف منها عن الصحابة ﵃، وابن عباس تحديدًا، وقد احتجّ أصحاب تلك الآراء بهذه الروايات كلٌّ حسب ما يؤيد رأيه من روايات وإن كان فيها اضطراب واضح، وظنّوا بأنّ وقوفها على التابعين يعضدها في كثير من الأحيان وإن لم تصح عن الصحابة ﵃ أجمعين.
_________
(١) كالرازي في التفسير (٦/ ٢) والزركشي في البرهان (١٧٣/ ١) والسيوطي في الإتقان (٢٦/ ٢)، وقال الحافظ ابن حجر في الفتح أنها بلغت ثلاثين قولًا عند تفسير سورة المؤمن (غافر) (٥٥٤/ ٨) وقصد بالأقوال ما بين الشاذ والمشهور منها.
1 / 7
ويجب التنبيه هنا بأنّ الكثير من علماء الحديث وأهل التفسير قد تساهلوا في نقل الكثير من روايات التفسير في الآثار، كما تساهلوا في نسبة أقوال المتكلمين وأهل اللغة لمعرفة المصدر لكل قول، وذلك لما اقتضاه واقع الحال في التفسير، وجاء هذا التساهل لاعتبارات كثيرة، ذَكر منها أهل الحديث بأنه قد يُستأنس بهذه الأقوال لفهم المعاني، وهذا أمرٌ حاصل، ولكن الاحتجاج به باطل، فالتساهل له أسباب حميده وليس منها تفسير معاني القرآن بمجرد الخبر، والتساهل ليس بدليل على حجية ما نقلوه إن كان ضعيفًا أو فيه شبهة، وقد يُستأنس بهذه الأحاديث لبيان فهم قائليها، ولا يُحتج بها في التوقيع عن رب العالمين، ونقل مقاصد الشارع في آياته عن ظاهر اللفظ بدليل ظنيّ الثبوت أو ظنيّ التأويل، ونقول: "لا يجوز العدول عن ظاهر النص إلا لدليل يجب الرجوع إليه، ولأن النَّبي ﷺ يقول: «دع ما يريبك إلى ما لا يريبك» " (١). هذا إن كانت الروايات من المسند الضعيف أو ما فيه علة لم تبلغ به رد الحديث، وقد نقلها علماء التفسير والمحدثون وقالوا: العهدة على الراوي، أما أقوال العلماء والتابعين المشكوك في نسبتها إليهم فهي أولى بالتمحيص والتدقيق والردّ، لأنها الأكثر والأغلب، فما كان منها جميعًا من المسند الموضوع فهو داخل في قول الرسول ﷺ "من كذب عليَّ متعمدًا فليتبوأ مقعده من النَّار" (٢)، والكذب على القرآن هو كذب على مُبلّغه وقائله، فلا نقول العهدة على الراوي، بل العهدة علينا إن أخذنا بها، وعلم الجرح والتعديل قادر على بيان الحكم الواجب اتباعه فيها. وقد كان هذا القول من أهم أسباب الخلاف في تفسير فواتح السور، وسببًا في تنازع الآراء عليها،
_________
(١) أضواء البيان للشنقيطي (١٨٤/ ٥) تفسير سورة الحج، وقال: "كما هو مقرّر في الأصول" سورة النور (٤٩٨/ ٥)، والحديث بهذا النص عند النسائي (٣٢٧/ ٨) من حديث الحسن بن علي ﵁، قال الألباني: "إسناده صحيح"، ورواه جمع غفير من أهل الحديث منهم الإمام أحمد (٢٠٠/ ١) والترمذي (٦٦٨/ ٤) بلفظ "دع ما يريبك إلى ما لا يريبك، فإن الصدق طمأنينة وإن الكذب ريبة" وهو صحيح، انظر الإرواء للألباني (٤٤/ ١).
(٢) رواه الإمام أحمد (١٦٦/ ٣) والبخاري (٨٠/ ٢) ومسلم (١٠/ ١) وأصحاب السنن وأكثر أهل الحديث.
1 / 8
وقد حاول بعض العلماء الجمع بين تلك الأقوال ولم يستطيعوا، لأنهم وجدوا في بعض الآثار تناقضًا في نفس الرواية أحيانًا، فالأَولى أن يتم تنقيح الصحيح من الضعيف عند الحديث عن الشُبَه وما خفي تفسيره، ولا نكتفي بهذا بل نجتهد لمعرفة أصل المتن وما هو الحق فيه، لكي لا نرمي ما جاءنا من علم التابعين ومن تبعهم من رواة الحديث وأهل التفسير من العصور المفضلة، فهم أعلم وأتقى من أن نرد كلامهم بمجرد كلامنا. ولو تتبعنا أقوال الأئمة من المفسرين - أمثال ابن جرير الطبري - لوجدنا أكثرها من الروايات عن التابعين، وهؤلاء العلماء هم قدوتنا وطريقهم سبيلنا لفهم القرآن لا سواه، ولو وصلنا من العلم ما وصلنا ونقّحنا لهم ما نقّحنا وكان بيننا وبينهم من فضل لما كان إلا كفضل الرضيع على أمه، لأنهم ورّثونا المنهج في ابتغاء العلم وبيّنوا لنا طريق الحق، لذلك سنسير على دربهم في هذه الفواتح لنجد ما قيل فيها من أحاديث وآثار وآراء، فما كان منها صحيحًا عن الرسول ﷺ وضعناه موطن اليقين، وما كان منها عن الصحابة والتابعين وضعنا ضعيفه موطن الشك وصحيحه موطن الظن - لأسباب سأبينها - كما نضع الموضوع منه على رف النسيان. ولا ننسى ما لأهل العربية وفرسان الكلام من علم أتحفونا به، وما جاء في أقوالهم ومؤلفاتهم من بيان وإفهام، فلا نكتفي بإيراد كلامهم، بل نجتهد في معرفة الأصل فيه ونسبته لقائله، فمعرفة الإسناد في اللغة لا تقل أهمية عن معرفته في الأثر، لأن كلام العرب هو الشاهد على فهم كلام الله.
المسلك الثاني: الذين شذّوا وأنزلوا كتاب الله منزلة العلم بالتجريب ولو بحسن نية، كمن جعل من هذه الحروف خبيئة في علم الحساب، أو من قال هي حروف من حساب الجمَّل؛ وهذا عليه الوزر، وهو كما قال الشوكاني: "وإذا تقرر لك أنه لا يمكن استفادة ما ادّعوه من لغة العرب وعلومها لم يبق حينئذٍ إلا أحد أمرين: الأوّل التفسير بمحض الرأي الذي ورد النهي عنه، والوعيد عليه، وأهل العلم أحق الناس بتجنبه، والصدّ عنه، والتنكُّب عن طريقه، وهم أتقى لله سبحانه من أن يجعلوا كتاب الله سبحانه ملعبةً لهم يتلاعبون به، ويضعون حماقات
1 / 9
أنظارهم، وخُزَعْبَلات أفكارهم عليه. الثاني التفسير بتوقيف عن صاحب الشرع، وهذا هو المهيع الواضح، والسبيل القويم، بل الجادة التي ما سواها مردوم، والطريقة العامرة التي ما عداها معدوم، فمن وجد شيئًا من هذا، فغير ملوم أن يقول بملء فيه، ويتكلم بما وصل إليه علمه، ومن لم يبلغه شيء من ذلك فليقل لا أدري، أو الله أعلم بمراده." (١) وقد اعتمد بعض الذين تحدثوا فيها برأيهم هذا، على بعض الآثار التي ذَكرت محاولات اليهود لفهم هذه الحروف زمن التنزيل، وكلها آثارٌ ضعيفة (٢)، ولا يحتج بها حتى لو كانت صحيحة، فكيف نقتدي باليهود لفهم كلام الله؟! وقد كفروا بكلامه قبل التنزيل وبعده بناءً على فهمهم وتأويلهم، فهؤلاء ليسوا معذورين، إذ الجهل بأصول الحديث لا يُعتبر مُسوغًا للخوض في القرآن. ولنا كل العبرة في حديث الرسول ﷺ حين أتاه عمر، فقال: إنا نسمع أحاديث من يهود تعجبنا، أفترى أن نكتب بعضها؟ فقال: "أمتهوكون أنتم كما تهوكت اليهود والنصارى؟ أما والذي نفس محمد بيده لقد جئتكم بها بيضاء نقية، ولو كان موسى حيًّا ما وسعه إلا إتّباعي" (٣)، وفي رواية "ولكني أعطيت جوامع الكلم، واختصر لي الحديث اختصارًا." (٤)
المسلك الثالث: الذين أرادوا إعطاء تفسير لها بغض النظر عن الوسيلة، إما طلبًا للشهرة أو دفاعًا عن القرآن، وكأنها نقيصة في كتاب الله، فرموا القرآن من حيث لا يعلمون بالنقص والتحريف، فكان منهم من إدّعى وجود أمثال للحروف المقطّعة في بعض ألسنة العرب، وأنها كانت معروفة لديهم، وأنها من باب الاختصار للكلام، وأن أصحاب هذا اللسان قد اندثروا واندثرت معهم معاني الحروف، وهذا ما لا دليل عليه من التاريخ والآثار، ولا حتى من
_________
(١) فتح القدير للشوكاني (٣١/ ١)
(٢) كما قال ابن كثير فيها من باب التحقيق (١٦١/ ١)، وهي كما قال.
(٣) رواه الإمام أحمد (٣٨٧/ ٣) وابن أبي شيبة (٢٢٨/ ٦) والبيهقي في شعب الإيمان (٣٤٧/ ١) ورواه الدارمي من وجه آخر (١٢٦/ ١) من حديث جابر بن عبد الله وقال الألباني في الإرواء "حديث حسن" (٣٤/ ٦).
(٤) رواه الخطيب البغدادي في الجامع (١٦١/ ٢) وابن الضريس في فضائل القرآن (٥٤/ ١) بسند صحيح عن الحسن البصري مرسلًا.
1 / 10
قصص الإخباريين، فضلًا عن أنه رمْيٌ لكتاب الله بما لا يليق من دعوى عدم الحفظ. كما أن منهم من إدّعى وجود تفسير لها في لغات الأمم المندثرة من غير العرب، وأنها نزلت كرموز، ولها معاني في اللغات الأخرى، كما قام أحدهم بنقل الحروف إلى اللغة الهيروغليفية (١)، وقام بابتداع تفسير لها، وكأنه لم يقرأ ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مَبِينٍ﴾ فجعلها (بخط مصريّ مُبهم ومُشفّر). وهؤلاء كلهم سائرون في درب مظلم، لا مرشد لهم فيه ولا مُعين، وكلامهم لا يرقى لمراتب النقد العلمي، فالهيروغليفية نوع من خطوط المصريين القدماء وليست بلغة يقوم على فهمها واستدراك معانيها علماء اللغات واللسانيات، والقائلون بهذا القول مُدَّعون لعلمٍ وهو منهم براء، ﴿إِنْ يَتَّبِعُونَ إِلَّا الظَّنَّ وَإِنْ هُمْ إِلَّا يَخْرُصُونَ﴾ وكأن الناس قبلهم لم يفقهوا أصول هذا العلم، فقد كان العرب والمسلمون على دراية بهذا العلم قبل قرابة ألف سنة، وقد فعلوا بلغات العالم القديمة المندثرة ما فعله علماء العصر الحديث، بمحاولة فك رموز اللغات المندثرة، وتفسير معانيها، بل وإيجاد ألفاظها. (٢) ولو كان عند الناس شكٌ فضلًا عن العلماء بأن في هذه الرموز تشابهًا، لوَصَلَنا منهم خبر، بل لما كانت هذه اللغات قد اندثرت أصلًا لمجرد ذكر بعض رموزها في
_________
(١) صدر كتاب "الهيروغليفية تفسر القرآن الكريم" ولا أرى ضرورة للخوض في تفاصيل آراء الكاتب كون الهيروغليفية ليست بلغة، وإنما رموز تمثل أحد خطوط المصريين القدماء، والعلم بمفرداتها ورسمها ونظمها لا يعبر عن ألفاظ لغة أخرى، كما لا تعبر عن نسبة موافقة رسمها لكلمات في لغات أخرى، إضافة أن الكاتب قد أعطى أمثلة على ما لا يقول به أحد من علماء اللغات أو علماء التاريخ أو علماء اللغات المصرية القديمة، ولا يقوله به عاقل حتى، كزعمه أن الفرعون أخناتون هو إبراهيم ﵇! أو تقسيمه ألفاظ الحروف وكأنها شعر لتوافق كلمة بعينها، وأعتبره كلامًا ساقطًا.
(٢) اقرأ ابن وحشية النبطي وريادته في كشف رموز هيروغليفية في كتابه (شوق المستهام في معرفة رموز الأقلام) للدكتور يحي مير علم، حيث يشير العالم العربي يحي مير علم أن ابن وحشية وضع في مخطوطته أكثر من ٨٠ نوعًا من الأقلام القديمة وحروفها وما يقابلها من حروف باللغة العربية، ومن بين هذه اللغات إلى جانب الهيروغليفية، اللغات المصرية القديمة مثل الديموطيقية والهيراطيقية والقبطية القديمة إلى جانب الأشورية والكلدانية والنبطية. وقد نشرت صحيفة الأوبزيرفر البريطانية هذا الخبر بتاريخ ٢٠٠٤/ ١٠/٣ وصحيفة الثورة السورية بتاريخ ٢٠٠٥/ ٣/٢١ - تحت عنوان "العرب .. هل سبقوا شامبليون في حل رموز حجر رشيد؟ " وحدد الزركلي في الأعلام وفات ابن وحشية بعد ٢٩١هـ وهو تاريخ ترجمة كتابه الفلاحة النبطية، وقال: "عالم بالكيمياء ينسب إليه الاشتغال بالسحر والشعوذة، أورد ابن النديم أسماء كثير من مؤلفاته"، ونسب إليه هذا لأنه ترجم بعضا من كتب السحر للعربية كما ترجم الكثير من الكتب المندثرة.
1 / 11
القرآن. فهؤلاء إذن هم الطبقة الأدنى من المتقولين على القرآن، لاشتغالهم بالحروف فقط، وقولهم ساقط يميزه الساذج، ولو أن أحدهم قد رأى في الآثار الضعيفة والموضوعة مسوّغًا لفعله فهو آثم، فالجهل بأصول الحديث لا يُعتبر مسوغًا للطعن في القرآن، وقد صدق فيهم قول الإمام أبي حنيفة: "من طلب المال بالكيمياء أفلس، ومن طلب الدين بالجدال تزندق، ومن طلب غريب الحديث كُذّب." (١) لأن علامة الكذب غرابة المذهب، حتى لو كان سائغًا في عقل صاحبه وله وجهٌ صحيحٌ برأيه، "والفرق بعيد بين علم يُورِد منه المؤلف إشباعًا لكتاب، وبين كتاب يُفرده إشباعًا للعلم نفسه." (٢)
المسلك الرابع: الذين أنزلوا القرآن مراتب كتب التاريخ، وقاسوه بغيره من إرث الأمم، وكأنه حجر رشيد (٣) واعتبروا هذه الحروف كأي رموز غريبة لا تُفهم إلا بفهم اللغات الدارجة أيام التنزيل، وأنّ هذا الكتاب الأوحد خاضع لأبجدياتها، وهذا هو التحريف، وهو كفر بالإجماع، (٤) "ولا خلاف بين المسلمين في أن من جحد من القرآن سورة أو آية أو كلمة أو حرفًا متفقًا عليه أنه كافر" (٥)، وهؤلاء هم الطبقة الأعلى من المتقولين على القرآن، وهم العدو المبين، لاشتغالهم به كله وحجتهم كانت هذه الحروف. فكان منهم مثلًا من عمد إلى قراءة الرسم القرآني دون أي تغيير قراءة سريانية، وزاد عليه بتغيير نقاط الحروف، لإيجاد كلمات
_________
(١) الجامع للخطيب البغدادي (١٥٩/ ٢) من طريق تلميذه أبي يوسف القاضي ويروى القول عنه أيضًا.
(٢) الرافعي - تاريخ آداب العرب ج١ ص ١٨
(٣) حجر رشيد هو حجر نقش عليه نصوص هيروغليفية وديموطيقية ويونانية، كان مفتاح حل لغز الكتابة الهيروغليفية، سمي بحجر رشيد لأنه اكتشف بمدينة رشيد الواقعة على مصب فرع نهر النيل في البحر المتوسط.
(٤) قالها القاضي عياض في كتاب الشفا بتعريف حقوق المصطفى ﷺ ج٢ ص٣٠٥
(٥) ابن قدامة المقدسي، لمعة الاعتقاد - القرآن كلام الله ص٨٢
1 / 12
مشابهة بعد التغيير في اللغة السريانية! (١) ظلمات بعضها فوق بعض، وكأن ألسنة العرب ولغتهم قد انقرضت لعدة قرون، حتى أتوا هم وأحيوها، أو كأنهم وجدوا هذا الكتاب وسور القرآن في بعض الحفائر والكهوف، ولم تتناقله الأجيال تباعًا رسمًا ولفظًا، وهم يعلمون بأن القرآن كان وما زال التلقي له قراءةً وكتابةً ولفظًا بسلاسل هي أشدّ من الحديد، فأسانيد القراءات وطبقات القراء وتراجمهم موثّقة في مئات الكتب، كما هو رسم القرآن وكتابة حروفه، ولا يسعهم قياسه على أي كتاب آخر؛ لأن التلقي لهذا الكتاب أيضًا لم يقتصر على القراءة والكتابة واللفظ، بل زاد عليه بنقل مواضع السكون والسكوت بين الكلمات، وأحكامها في آخر الآيات أيضًا، حتى أن علماء المسلمين من المتخصصين في القراءات قد ألّفوا أكثر من خمسين كتابًا في الوقف والابتداء فقط قبل نهاية القرن الرابع الهجري، ولم يقف النقل للقرآن عند حركة الشفاه في سياق اللفظ، بل تعداه لما هو أعجب وأعظم من أن يفهمه الحاقدون، وهو نقل حركة الفم من غير كلام، كما ثبت من حديث سعيد بن جبير عن ابن عباس ﵄ في قوله تعالى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ .. الآيات﴾ [القيامة: ١٩ - ١٦] "قال: كان رسول الله ﷺ يعالج من التنزيل شدة وكان مما يحرك شفتيه فقال ابن عباس: فأنا أحركهما لكم كما كان رسول الله ﷺ يحركهما وقال سعيد: أنا أحركهما كما رأيت ابن عباس يحركهما فحرك شفتيه فأنزل الله تعالى ﴿لا تُحَرِّكْ بِهِ لِسَانَكَ لِتَعْجَلَ بِهِ إِنَّ عَلَيْنَا جَمْعَهُ وَقُرْآنَهُ﴾ قال: جمعه لك في
_________
(١) صدر كتاب بعنوان "قراءة آرامية سريانية للقرآن - مساهمة في تفسير لغة القرآن" للكاتب كريستوفر لوكسمبورغ الألماني وطرح فيه وجهة نظره ومحاولاته في فهم نصوص القرآن من خلال تحويلها للسريانية، وقد لاقت فكرته رواجًا عند أعداء الإسلام سواءً من العرب الملحدين أو غيرهم من أصحاب الديانات الأخرى، ليس لأنها قدّمت طرحا علميًّا جديدا بل لأنها لامست أحقادًا دفينة فغذّتها وأشعلت فيها الحماس، فهبّ البعض منهم للطعن في القرآن هائمًا ليس في يده إلا كلمات هذا المدعي، فخابوا وخسروا. قال تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤) فصلت﴾
1 / 13
صدرك وتقرأه ﴿فَإِذَا قَرَأْنَاهُ فَاتَّبِعْ قُرْآنَهُ﴾ قال: فاستمع له وأنصت، ﴿ثُمَّ إِنَّ عَلَيْنَا بَيَانَهُ﴾ علينا أن نبينه بلسانك، قال: فكان إذا أتاه جبريل أطرق فإذا ذهب قرأه كما وعده الله ﷿". (١)
فمجال بحثهم هذا بعيد عن القرآن من وجوه عدّة، أيسرها في الذكر: أنه نزل بلسان عربي وصوت عربي، وهو القرآن قبل الكتابة ﴿لِسَانُ الذي يُلْحِدُونَ إِلَيْهِ أَعْجَمِيٌّ وهذا لِسَانٌ عَرَبِيٌّ مَبِينٌ﴾ [النحل: ١٠٣] وكل ما سوى لسانهم وصوتهم وما لا يفهموه كان أعجميًا بعرفهم، قال الشنقيطي: "واعلم أن كل صوت غير عربي تسميه العرب أعجم، ولو من غير عاقل ومنه قول حميد بن ثور يذكر صوت حمامة:
فلم أر مثلي شاقه صوت مثلها ... ولا عربيًا شاقه صوت أعجما" (٢)
ولم نسمع أن العرب قالوا فيما سمعوه من القرآن «ما معنى هذا؟» وبناءً عليه فإن أصحاب هذا الرأي جاهلون تمامًا بما لدينا من علوم خاصة، هي من أعجب العلوم وأشرفها لتلقي القرآن وتجويده ورسمه، وذِكْر أصول اللفظ فيه، وتنوع قراءاته على ألسنة العرب. وإن قال قائل: هم معذورون لجهلهم بعلوم المسلمين الخاصة، قلت: بل إنّ هذا القول لا يقوله إلا مدلس على البشر، وكاذب على التاريخ مزور للآثار، واستغلالهم لعلم مقارنة اللغات مفضوح غير مستور، لأن هذه العلوم حيادية تجريدية، وهي قادرة على إظهار الزيف بنفسها، ومن يقرأ في هذه العلوم وينتهج فيها المبادئ الأساسية من المنهج العلمي، لن يجد دليلًا واحدًا على أن أصل الكتابة العربية كان من لغة شقيقة. وهنا تفصيل لم يتنبه إليه الكثيرون، بأنّ هناك فرقًا بين اللغة (نظام
_________
(١) رواه الإمام أحمد (٣٤٣/ ١) والبخاري (٨/ ١) ومسلم (٣٣٠/ ١) والترمذي (٤٣٠/ ٥) والنسائي (١٤٩/ ٢) وابن حبان (٢٢٦/ ١) والطبري (٦٦/ ٢٤) وابن أبي حاتم (٣٣٨٦/ ١٠) وغيرهم.
(٢) أضواء البيان (٩٨/ ٦) تفسير سورة الشعراء.
1 / 14
يتحقق به الكلام) والكتابة (نظام تتحقق به الحروف) والخط (نظام يتحقق به رسم الحروف)، وعليه فجلُّ ما يجد الباحث وما يستقر عليه من رأي، أن اللغة العربية لغة سامية، كالأكادية والآرامية والعبرية، وكانت الكتابة فيها عربية جنوبية وعربية شمالية، نسبة إلى جزيرة العرب، وأن الكتابة بالحروف العربية الشمالية النبطية للغة العربية هو أقرب الاحتمالات لأصل الحروف المستعملة في الكتابة زمن الرسول ﷺ وقبل بعثته بفترة طويلة، وهو ما أثبته علم الآثار باكتشاف (نقش النمارة) (١) وغيره من النقوش، "وعلى الرغم من أن العربية الشمالية آخر اللغات السامية تدوينًا إلا أنها احتفظت بجل خصائص اللغة السامية الأم، كالإعراب الذي اختفى من كل اللغات السامية باستثناء الأكادية. واللغة السامية الأم هي لغة فرضية تُوُصل إليها بعلم اللغة المقارن (أي مقارنة الساميات ببعضها). ويُعلل ذلك بسبب العزلة النسبية التي عاشتها القبائل العربية التي بقيت في الجزيرة العربية بينما تأثرت لغة القبائل السامية المهاجرة باللغات الأخرى غير السامية التي اتصلت بها وأخذت منها وأعطتها، الشيء الذي أدى إلى حدوث تغيرات لغوية أبعدتها من الأصل السامي وهذا ما وقع للأكادية والعبرية والحبشية وغيرها." (٢) فهذه اللغات السامية ومنها الآرامية - وهي اللغة الأم للسريانية والكلدانية - كانت نشيطة قبل الإسلام، "وظلت الآرامية نشيطة حتى جاء الفتح الإسلامي فأخذ يسري إليها الضعف لاتصال أهلها بالعرب، وهكذا تغلبت عليها العربية في القرن العاشر وبقيت الآرامية لغة دينية مقرها الكنيسة تقام بها الصلوات .. وما زالت مستعملة في كنائس السريان والكلدان والموارنة إلى اليوم" (٣)، والأعجب من هذا أنه كان عند السريان كتابة تدعى بالقلم الكرشوني، وهي كتابة العربية بالأحرف السريانية (٤)، وهي معروفة إلى الآن، فكأن هؤلاء قد نسبوا الجد إلى أحفاد أحفاده بزعمهم. أما الخطوط العربية وغيرها فهي من الفنون، وليست حكرًا على أحد، وقد يستعمل العرب خطوط السريان أو العكس، كما يستعمل العرب الخطوط الفارسية والعكس، وهو حاصل ومتَّبع إلى الآن من تشارك الكتابات في الخطوط، ومن الحق أن يقال بأن العلم ليس فيه انحياز لمذهب أو دين، وهو واقع ملموس، ولكنّ ما قالوه لا يكون إلا إتباعًا لآراء الرهبان والأحبار، وَانْحِيَازًا للطعن في القرآن والإسلام فقط، وبما أن أساس هذا العلم هو المقارنة بين الشبيهين، فأين قرآنهم السرياني؟ وأين نسختهم النقدية؟ حتى لو كانت هذه النسخة سورة واحدة من القرآن من أصغرها لأكبرها، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فأعطونا دليلًا تاريخيًا واحدًا ولو أصغر من حجر رشيد، على إيجاد المترادفات والاقتباسات، (فَإِنْ لَمْ تَفْعَلُوا وَلَنْ تَفْعَلُوا) فأعلمونا بكيفية المعالجة لما خالف لفظه رسمه في كلام العرب وأين ستجدونه؟ هيهات، فهم داخلون في قوله تعالى: ﴿وَلَوْ جَعَلْنَاهُ قُرْآنًا أَعْجَمِيًّا لَقَالُوا لَوْلَا فُصِّلَتْ آيَاتُهُ أَأَعْجَمِيٌّ وَعَرَبِيٌّ قُلْ هُوَ لِلَّذِينَ آمَنُوا هُدًى وَشِفَاءٌ وَالَّذِينَ لَا يُؤْمِنُونَ فِي آذَانِهِمْ وَقْرٌ وَهُوَ عَلَيْهِمْ عَمًى أُولَئِكَ يُنَادَوْنَ مِنْ مَكَانٍ بَعِيدٍ (٤٤) وَلَقَدْ آتَيْنَا مُوسَى الْكِتَابَ فَاخْتُلِفَ فِيهِ وَلَوْلَا كَلِمَةٌ سَبَقَتْ مِنْ رَبِّكَ لَقُضِيَ بَيْنَهُمْ وَإِنَّهُمْ لَفِي شَكٍّ مِنْهُ مُرِيبٍ (٤٥) فصلت﴾. أي أقرآن أعجمي، ورسول عربي؟ (٥) وعليه فهذا المسلك باطل لما سبق و"لقوله تعالى: ﴿بِلِسَانٍ عَرَبِىّ مَبِينٍ﴾ فلا يحمل على ما ليس
_________
(١) نقش النمارة الذي اكتشف في الصحراء السورية، وهو نص مؤرخ بتاريخ ٣٢٨ م ومكتوب بنوع من الخط النبطي القريب من الخط العربي الحالي، وهو عبارة عن رسم لضريح ملك الحيرة امرئ القيس بن عمرو وُصف فيه بأنه "ملك العرب" وموجود في متحف اللوفر، وصورة جيرية له في متحف الخط العربي بسوريا، انظر الملحق نقوش ما قبل الإسلام.
(٢) د. عبد الرحمن السليمان - مقال بعنوان اللغات والآداب السامية في موقع القصة السورية، وانظر (الساميون ولغاتهم لحسن ظاظا) حيث يقول بعد التأكيد على ما ذكر: "مما يؤيد مذهب القائلين بأن العربية الفصحى، وإن كانت آخر وأحدث اللغات السامية من حيث النصوص المكتوبة، هي أقربها إلى السامية الأم، لأنها عاشت في أمية العرب، محفوظة بعيدة عن التغيير والتبديل" ص٥٥
(٣) دراسات في اللغتين السريانية والعربية - إبراهيم السامرائي ص ٨، والقرن العاشر هو بالميلادي
(٤) تاريخ آداب العرب - الرافعي ص٧٠
(٥) أضواء البيان (٩٨/ ٦) تفسير سورة النحل
1 / 15
في لغتهم." (١) لا من كلامٍ ولا من حروف، وهم يعلمون هذا علم اليقين، ولكن الغاية الباطنة هي تسفيه المسلمين وتحقيرهم؛ ليُخفوا ما في عقائدهم ودياناتهم من خزعبلات وتخريف يعلمه الجاهل بأيٍّ من هذه العلوم، وكلامهم ما هو إلا هروب من حسرتهم على فقر دياناتهم وضيق معتقداتهم وضعف وسائل التنصير لديهم.
المسلك الخامس: من كذّب القرآن من قبل أن يقرأها، وتحدث بها على أساس النقص بالقرآن لا الحديث عنها، وهم جهلة الكفرة، والغاية من كلامهم واضحة ولا تخفى على الأطفال، وهي كغاية التوفير مع العدم، فلا نقول لهم إلا ما قاله تعالى للرد على المشركين في ذات المسألة ﴿وَلَتَعْلَمُنَّ نَبَأَهُ بَعْدَ حِينٍ﴾ [ص:٨٨].
الباب الثاني: أسباب تدعوا لفهم القرآن
وهما سببان، الأول: سبب خفي ظننت أنه ما من أحد تنبه إليه، وسأقوم بتفصيله لبيان فائدته، والثاني: سبب ظاهر تنبه إليه الكثيرون، وقامت عليه تفاسير، وسأقوم بذكره وتفصيله للإشارة على أهميته في تأويل حروف الفواتح.
السبب الأول: تفصيل القرآن في الذكر لفهم الآيات مع عدم تقييد القرآن به
وتفصيل القرآن في الذكر هو تقسيم ما فيه من سرد للآيات على ثلاثة أقسام: ذكر ما كان، وذكر ما سيكون، وذكر ما يجب أن يكون، أو بمعنىً آخر: ذكر أخبار من سبق، وذكر الغيبيات، وتشريع الأحكام، وكلها لغاية واحدة وهي التوحيد، وهو تقسيم دل عليه العقل
_________
(١) تفسير البيضاوي (٨٩/ ١) تفسير سورة البقرة
1 / 16
والنقل؛ فالزمن له ماض وحاضر ومستقبل، كذلك الكلام له ماض وحاضر ومستقبل، وهذا التفصيل هو الأساس لنشأة اللغات، - بحسب علم البشر التجريبي - وهذا التقسيم ظاهر في القرآن بالاستقراء، وظاهر بصورة خاصة في أول سورة نزلت من سور الفواتح، وهي سورة القلم. ولكن هل يكون كلام الله مشابها لغيره من الكلام في أصله وتفصيله؟ ولم يأت بما هو أصيل لا تفصيل له! فلنقرأ سورة القلم لنعلم الحق، فهذه السورة قد ابتدأت بالقسم بحرف النون أداة الكلام، وبالقلم أداة الكتابة، وبما يسطرون وهو النظم المعجز، أقسم الله بها جميعًا على نفي صفة الجنون عن الرسول ﷺ، ورفعت من قدر الرسول ﷺ بوصفه أحسن الأوصاف، وبعدها يُظْهر الله الذنب العظيم لمن رد كلام الخالق، ووصف القرآن بأنه من أساطير الأولين، وأن ما ورد فيه ما هو إلا روايات، وهذا الوصف بدوره ينفي التشريع وبيان الحق بحكم الله الظاهر في كتابه العزيز، وينفي أن ذكر الغيب بما فيه من حديث عن الآخرة والبعث والجنة والنار ضرورة عقدية، والإيمان به هو طريق السلامة. فكان رد القرآن صريحًا بوصف القائل بما يستحق من صفات، وتوعده الله بعدها بأن (سَنَسِمُهُ عَلَى الْخُرْطُومِ)، وهنا إشارة وتأكيد بأن في القرآن قصص وذكر لأخبار الأولين، ولكنها ليست مأخوذة مما سطر الأولون، وليست أقاويل على أي اعتبار، بل هي من كلام الله في كتابه العزيز إخبارًا لنا، إما بما لم تذكره الكتب السابقة فيكون من الغيبيات المستحيلة على البشر، أو ذكرته الكتب السابقة على وجه غير صحيح بعد تحريفها وجاء القرآن ببيانه على الوجه الأمثل، فقد تتشابه القصص، ولكن الله يميز كلامه عن غيره بطرق كثيرة، لتكون عبرة لمن يعتبر. وبعد هذا تدور الآيات في السورة على هذا الهدف العظيم، وهو التأكيد على هذا التفصيل والتقريع على من أنكره، فبعد الوعد والوعيد يشبِّه الله حال الكافرين بأصحاب الجنة، ﴿إِنَّا بَلَوْنَاهُمْ كَمَا بَلَوْنَا أَصْحَابَ الْجَنَّةِ إِذْ أَقْسَمُوا لَيَصْرِمُنَّهَا مُصْبِحِينَ (١٧) وَلَا يَسْتَثْنُونَ (١٨) فَطَافَ عَلَيْهَا طَائِفٌ مِنْ رَبِّكَ وَهُمْ نَائِمُونَ (١٩) فَأَصْبَحَتْ
1 / 18
كَالصَّرِيمِ (٢٠) فَتَنَادَوْا مُصْبِحِينَ (٢١) أَنِ اغْدُوا عَلَى حَرْثِكُمْ إِنْ كُنْتُمْ صَارِمِينَ (٢٢) فَانْطَلَقُوا وَهُمْ يَتَخَافَتُونَ (٢٣) أَنْ لَا يَدْخُلَنَّهَا الْيَوْمَ عَلَيْكُمْ مِسْكِينٌ (٢٤) وَغَدَوْا عَلَى حَرْدٍ قَادِرِينَ (٢٥) فَلَمَّا رَأَوْهَا قَالُوا إِنَّا لَضَالُّونَ (٢٦) بَلْ نَحْنُ مَحْرُومُونَ (٢٧) قَالَ أَوْسَطُهُمْ أَلَمْ أَقُلْ لَكُمْ لَوْلَا تُسَبِّحُونَ (٢٨) قَالُوا سُبْحَانَ رَبِّنَا إِنَّا كُنَّا ظَالِمِينَ (٢٩) فَأَقْبَلَ بَعْضُهُمْ عَلَى بَعْضٍ يَتَلَاوَمُونَ (٣٠) قَالُوا يَا وَيْلَنَا إِنَّا كُنَّا طَاغِينَ (٣١) عَسَى رَبُّنَا أَنْ يُبْدِلَنَا خَيْرًا مِنْهَا إِنَّا إِلَى رَبِّنَا رَاغِبُونَ (٣٢) كَذَلِكَ الْعَذَابُ وَلَعَذَابُ الْآخِرَةِ أَكْبَرُ لَوْ كَانُوا يَعْلَمُونَ (٣٣)﴾ والقارئ في التفاسير، يلتبس عليه الحال في التشبيه بين الكافرين وأصحاب الجنة، وهو الرابط لمعرفة هدف السورة، وهو الرد على من قال عن الرسول ﷺ بأنه مجنون وأن القرآن من أساطير الأولين، فنفى بذلك التشريع وعلم الغيب عنه، وفهم الرد سيأتي من فهم وجه الشبه بينهم بناءً على ما يلي:
أولًا: تم ذكر التشبيه في سياق الرد على من وصف القرآن بأنه من أساطير الأولين لما احتواه من قصصهم.
ثانيًا: تم التأكيد على أن القرآن فيه ذكرٌ للأولين، وهذا لاستخلاص العبر، وليس لمجرد الذكر كما في كتب القصص، وجاء التأكيد بإيراد قصه أهل الجنة وتشبيه حال بلواهم بحال بلوى الكافرين.
ثالثًا: ذكر واقع الكافرين وأنهم اعتبروا القرآن ذكرًا لقصصٍ ليس فيها الأمر بأحكام الله وشرعه ووجوب إتباعه، وأصرّوا واستكبروا، وأصحاب الجنة أخذوا فعل أبيهم من توزيع الصدقة على الفقراء والمساكين وقسمة الحق فيما رزقه الله لا لمصلحة دنيوية، بل لنيل رضا الله في الآخرة ولتطهير نفسه؛ أخذوا هذا كله كرواية وقصة لمن سبقهم، وأنْ ليس فيها من حكم بالحق ولا
1 / 19