The Civilization of the Arabs - Gustave Le Bon
حضارة العرب - غوستاف لوبون
Mai Buga Littafi
مؤسسة هنداوي للنشر والثقافة القاهرة
Inda aka buga
مصر
Nau'ikan
حضارة العرب
تأليف
غوستاف لوبون
ترجمة
عادل زعيتر
1 / 7
إسكملة من البرونز المكفت بالفضة للسلطان محمد بن قلاوون، صنعت في القرن الثالث عشر من الميلاد (متحف الآثار العربية بالقاهرة، من تصوير المؤلف الفوتوغرافي).
1 / 8
ـ
1 / 9
«إن القوة لم تكن عاملًا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغةً لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغالبين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبله».
«ولم ينتشر القرآن، إذن بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا، كالترك والمغول».
«أدرك الخلفاء السابقون، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرًا؛ فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم، تاركين لهم قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقًا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم».
غوستاف لوبون
1 / 10
مقدمة المترجم
بسم الله الرحمن الرحيم
١
كان من نتائج اصطراع الشرق والغرب منذ قرون مضت، وإلقاء العرب الرعب في قلوب الأوربيين -أن صار الأوربيون يشعرون بمذلة الخضوع للحضارة العربية التي لم يتحرروا من سلطانها إلا منذ زمن قريب، فأخذوا ينكرون فضل العرب على أوربة وتمدينهم لها، وأصبح هذا الإنكار من تقاليد مؤرخي أوربة وكتابها الذين لم يقروا لغير اليونان والرومان بتمدينها، وقد ساعدهم على هذا ما عليه العرب والمسلمون من التأخر في الزمن الأخير، فلم يشاؤوا أن يروا للعرب رقيًا تاريخيًا أعظم مما هم عليه الآن غير ناظرين إلى أن نجم حضارة العرب أفل منذ أجيال، وأنه لا يصح اتخاذ الحال دليلًا على الماضي.
ولم تخل أوربة، مع ذلك، من مؤرخين أبصروا ما للعرب من فضلٍ في تمدين أوربة فألفوا كتبًا اعترفوا فيها للعرب بما ليس فيه الكفاية.
وقد راع هذا الجحود العلامة الفرنسي الكبير غوستاف لوبون، وهو الذي هدته رحلاته في العالم الإسلامي ومباحثه الاجتماعية إلى أن العرب هم الذين مدنوا أوربة، فرأى أن يبعث عصر العرب الذهبي من مرقده، وأن يبديه للعالم في صورته الحقيقية ما استطاع، فأخرج في سنة ١٨٨٤ كتاب «حضارة العرب» الذي نعرض ترجمته على الناطقين بالضاد.
سلك العلامة لوبون في تأليف كتاب: «حضارة العرب» طريقًا لم يسبقه إليها أحد، فجاء جامعًا لعناصر هذه الحضارة وتأثيرها في العالم، شاملًا لعجائبها مفصلًا لعواملها،
1 / 11
باحثًا في قيام دولة العرب، وفي أسباب عظمتهم وانحطاطهم، مبتعدًا عن أوهام الأوربيين التقليدية في العرب والإسلام.
وقد استعان لوبون بطريقة التحليل العلمي على الخصوص، فأوضح في هذا الكتاب الصلة بين الحاضر والماضي، ووصف فيه يمزق العرب وبيئاتهم، ودرس فيه أخلاقهم وعاداتهم وطبائعهم ونظمهم ومعتقداتهم وعلومهم وآدابهم وفنونهم وصناعتهم وتأثيرهم في المشرق والمغرب، وأسباب عظمتهم وانحطاطهم.
٢
لم يكن العرب، على رأي لوبون، من الأجلاف قبل الإسلام، وقد رأى أن السجايا الخُلقية للعرق العربي هي التي عينت اتجاهه، وأنه، وإن أمكن ظهور حضارة أمة ولغتها بغتة على مسرح التاريخ، لا يكون هذا إلا نتيجة نضج بطيء، وأن تطور الأشخاص والأمم والنظم والمعتقدات لا يتم إلا بالتدريج، وأن درجة التطور العالية التي تبدو للعيان لا تبلغ إلا بعد الصعود في درجات أخرَ، فإذا ما ظهرت أمة ذاتُ حضارة راقية كانت هذه الحضارة ثمرة ماضٍ طويل، ورأى لوبون، أيضًا، أن جهل الناس لهذا الماضي الطويل لا يعني عدم وجوده، وأن الحضارة التي أقامها العرب في أقل من مائة سنة، وهي من أنضر الحضارات التي عرفها التاريخ، ليس مما يأتي عفوًا، وأنه كان للعرب قبل الإسلام حضارة لم تكن دون حضارة الأشوريين والبابليين تقدمًا، وكان العرب، عدا الآثار القليلة التي كشف عنها، لغةٌ ناضجة وآداب راقية، وكان العرب ذوي صلات تجارية بارتي أمم العالم عالمين بما يتيم خارج جزيرتهم، فالعرب الذين هذا شأنهم كانوا، لا ريب، من ذوي القرائح التي لا تتم إلا بتوالي الوراثة وبثقافة سائقة مستمرة، والعرب الذين صقلت أدمغتهم على هذا الوجه استطاعوا أن يبدعوا حضارتهم الزاهرة بعد خروجهم من جزيرتهم في مدة قصيرة.
ثم أيد لوبون وجهة نظره بقوله: «إن البرابرة الذين قوضوا دعائم الإمبراطورية الرومانية قاموا بجهود عظيمة دامت قرونًا كثيرة قبل أن يقيموا حضارةً على أنقاض الحضارة اللاتينية، ويخرجوا من ظلمات القرون الوسطى».
ثم ذهب لوبون إلى أن المعتقدات القديمة في جزيرة العرب كانت قد ضعفت، وفقدت الأصنام قوتها ودب الهرم في آلهتها، وأنه كان في الجزيرة العربية، خلا النصارى واليهود، من كانوا يعيدون إلهًا واحدًا، وهم الحنفاء.
1 / 12
ولكن لوبون، الذي ذكر استعداد العرب القيام برسالتهم العظمى، أشاد بفضل الرسول الأعظم على العرب، وزعامته الكبرى لهم، فالرسول في نظره «كان يبدو رابط الجأش إذا ما هزم، ومعتدلًا إذا ما نصر»، وذهب لوبون إلى أن الرسول الأعظم «كان شديد الضبط لنفسه، كثير التفكير، صموتًا حازمًا، سليم الطوية ... صبورًا قادرًا على احتمال المشاق، ثابتًا بعيد الهمة، لين الطبع وديعًا ... وكان مقاتلًا ماهرًا، فكان لا يهرب أمام المخاطر، ولا يُلقي بيديه إلى التهلكة، وكان يعمل ما في الطاقة لإنماء خُلُق الشجاعة والإقدام في بني قومه ... وكان عظيم الفطنة».
ورأى لوبون أن السيد الرسول الذي كانت تلك صفاته أتى العرب، الذين لا عهد لهم بالمثل العليا، بمثل عالٍ اهتدوا به، فاكتسب العرب بهذا المثل العالي آمالًا متماثلة، وتوجهت به جهودهم إلى غرض واحد، وصاروا مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل نشره في أنحاء الدنيا، ثم قال: «إن محمدًا أصاب في بلاد العرب نتائج لم تصب مثلها جميع الديانات التي ظهرت قبل الإسلام، ومنها اليهودية والنصرانية، ولذلك كان فضل محمد على العرب عظيمًا ... وإذا ما قيست قيمة الرجال بجليل أعمالهم كان محمد من أعظم من عرفهم التاريخ ... والتعصب الديني هو الذي أعمى بصائر مؤرخي الغرب عن الاعتراف بفضل محمد».
٣
قامت عظمة الرومان على عبادة رومة، وكانت رومة سيدة العالم حين كان الروماني يضحي بنفسه في سبيل عظمتها، ثم فقدت الأمم الإغريقية والرومانية والآسيوية مثلها العليا، ولم يبق لحب الوطن والدين والاستقلال والأمة والمدينة أثر في نفوس أبنائها، وصارت الأثرة كل ما في قلوب هؤلاء، «والأثرة إذا كانت دليل قوم عجزوا عن مقاومة قومٍ آخرين مستعدين للتضحية بأنفسهم في سبيل معتقداتهم».
وصار العرب أمةً واحدةً يفضل الإسلام، وأصبح الإسلام مثل العرب الأعلى، واكتسب العرب به من الحمية ما استعدوا معه لفتح العالم إعلاءً لشأنه بقيادة زعمائهم الماهرين.
ولم تكن جزيرة العرب قبل الإسلام سوى ميدان حرب دائم واسع لما تأصل في العرب من الطبائع الحربية، فقد جاء الإسلام وألف بين قلوب العرب ووجهوا جميع قواتهم إلى البلاد الأجنبية، وهم الذين ورثوا الشجاعة أبًا عن جد، صرعوا الأغارقة والفرس بفضل يقينهم، وصار الناس يدخلون في الإسلام، وينتحلون لغة العرب أفواجًا.
1 / 13
وهنا يبدو إنصاف العلامة لوبون في بيان أسباب ذلك، فقد صرح بأن وضوح الإسلام من أسباب انتشاره، وبأن وضوحه هذا مشتقٌ من قوله بالتوحيد المحض الذي فيه سر قوته.
ومن أسباب انتشار الإسلام، كما بين لوبون، ما أمر به من العدل والإحسان، وما انطوى عليه من التهذيب للنفوس والتسامح والملاءمة لمناحي العلم واكتشافاته.
ثم رد العلامة لوبون على الزعم القائل: «إن الإسلام انتشر بالقوة»، فمما قاله: «إن القوة لم تكن عاملًا في انتشار القرآن ما ترك العرب المغلوبين أحرارًا في أديانهم، فإذا حدث أن اعتنق بعض الأقوام النصرانية الإسلام، واتخذوا العربية لغةٌ لهم، فذلك لما رأوه من عدل العرب الغاليين مما لم يروا مثله من سادتهم السابقين، ولما كان عليه الإسلام من السهولة التي لم يعرفوها من قبل».
«ولم ينتشر القرآن، إذن، بالسيف، بل انتشر بالدعوة وحدها، وبالدعوة وحدها اعتنقته الشعوب التي قهرت العرب مؤخرًا، كالترك والمغول».
«أدرك الخلفاء السابقون، الذين كان عندهم من العبقرية السياسية ما ندر وجوده في دعاة الديانات الجديدة، أن النظم والأديان ليست مما يفرض قسرًا؛ فعاملوا أهل كل قطر استولوا عليه بلطف عظيم تاركين قوانينهم ونظمهم ومعتقداتهم، غير فارضين عليهم سوى جزية زهيدة، في الغالب، إذا ما قيست بما كانوا يدفعون سابقًا في مقابل حفظ الأمن بينهم، فالحق أن الأمم لم تعرف فاتحين متسامحين مثل العرب، ولا دينًا سمحًا مثل دينهم».
«وما جهله المؤرخون من حلم العرب الفاتحين وتسامحهم كان من الأسباب السريعة في اتساع فتوحهم، وفي سهولة اعتناق كثير من الأمم لدينهم ونظمهم ولغتهم التي رسخت وقاومت جميع الغارات، وبقيت قائمة حتى بعد تواري سلطان العرب عن مسرح العالم».
وأكثر لوبون، في مواضع كثيرةٍ، من ذكر الأمثلة على تسامح العرب ورأفتهم بالمغلوبين، ومن ذلك «أن العرب حاصروا الإسكندرية حصارًا دام أربعة عشر شهرًا، وقيل في اثنائه ثلاثةٌ وعشرون ألف جندي من العرب، وأن عمرو بن العاص كان سمحًا رحيمًا نحو أهل الإسكندرية مع تلك الخسارة التي أصيب بها العرب، ولم يقس عليهم، وصنع ما يكسب به قلوبهم، وأجابهم إلى مطالبهم، وأصلح أسدادهم وترعهم، وأنفق الأموال الطائلة على شؤونهم العامة».
1 / 14
ولذلك لم يكد القرن الأول من الهجرة ينقضي حتى كانت راية النبي العربي تخفق فوق البلاد الواقعة بين الهند والمحيط الأطلنطي، وبين القفقاس والخليج الفارسي وفوق إسبانية.
٤
وبحث العلامة لوبون في القرآن وأصول الإسلام، وفيما يسنده بعض كتاب أوربة إلى الإسلام من عوامل الانحطاط، كعقيدة القضاء والقدر (الجبرية) وأحوال المرأة، ومبدأ تعدد الزوجات.
رأى لوبون أنه ليس في القرآن من الجبرية ما ليس في الأديان الأخرى، وأن فريقًا من فلاسفة الوقت الحاضر وعلمائه يقول: إن مجرى الحوادث تابعٌ لسنة لا تتبدل، وأن الجبرية الإسلامية نوعٌ من التسليم الهادئ الذي يعلم به الإنسان كيف يخضع لحكم القدر من غير تبرم وملاومة، «وتسليم مثل هذا وليد مزاجٍ أكثر منه عقدة، والعرب كانوا جبريين بمزاجهم قبل ظهور محمد، فلم يكن لجبريتهم تأثير في ارتقائهم، كما أنها لم تؤد إلى انحطاطهم».
ولما تناول لوبون حال المرأة في الإسلام بين أن الرجال كانوا، قبل ظهور الرسول، يعدون منزلة النساء متوسطةً بين الأنعام والإنسان، وأنهم كانوا يرونها أداة للاستيلاد والخدمة، وأن عادة الوأد كانت شائعةً بين عرب الجاهلية، ثم جاء الإسلام وحسن حال المرأة، وكان أول دينٍ رفع شأنها، ومنحها حقوقًا إرثيه لا تجد مثلها في القوانين الأوربية، وأمر بمعاملتها بأحسن مما في تلك القوانين، وبين لوبون، أيضًا، أن نقصان شأن المرأة حدث خلافًا للإسلام، لا بسبب الإسلام، وأن الإسلام، الذي كان أول دين رفع شأن المرأة بريء من خفضه، وأنه اتفق للنساء أيام حضارة العرب ما اتفق لأخواتهن حديثًا في أوربة من التقدم، ثم التمس لوبون العذر للشرقيين في مراقبة المرأة، فقال: «إن الشرقيين، إذ كانوا مطلعين بغرائزهم على سرائر الأمور، وكانوا يرون من طبيعة المرأة أن تكون غادرة غير وفية، كما أن الطيران من طبيعة الطير، وكانوا حريصين على صفاء نسلهم، اتخذوا ما يروقهم من وسائل الحذر منعًا لحدوث ما يخشون».
وأنحى لوبون باللائمة على مؤرخي أوربة الذين قالوا: إن مبدأ تعدد الزوجات هو ركن الإسلام، وإنه علة انحطاط الشرقيين، فمبدأ تعدد الزوجات، كما أوضح لوبون، لم يكن خاصًا بالإسلام، فقد عرفه اليهود والفرس والعرب وغيرهم من أهم الشرق قبل
1 / 15
ظهور الرسول، ولم تر الأمم التي اعتنقت الإسلام شيئًا جديدًا فيه، وعند لوبون: «أن حب الشرقيين الجم لكثرة الأولاد وميلهم الشديد إلى حياة الأسرة، وخلق الإنصاف الذي يردعهم عن ترك المرأة غير الشرعية بعد أن يكرهوها خلافًا لما يقع في أوربة، وغير ذلك من الأسباب الكثيرة، كلها أمور تحفز الشرائع إلى تأييد العادات التي هي وليدة الطبائع، وإذا نظرنا إلى أن القوانين لا تلبث أن تطابق العادات كان لنا أن نقول: إن تعدد الزوجات غير الشرعي في أوربة لا يلبث أن تؤيده القوانين»، ولم ير لوبون سببًا لجعل مبدأ تعدد الزوجات الشرعي عند الشرقيين أدنى مرتبةً من مبدأ تعدد الزوجات السري الخبيث الذي يؤدي إلى زيادة اللُّقطاء في أوربة.
وإنما عزا لوبون سقوط الدولة العربية وانحطاط العرب إلى صفات العرب الحربية المتأصلة التي كانت نافعةً في دور فتوحهم، فالعرب بعد أن تمت فتوحهم أخذ ميلهم إلى الانقسام يبدو، وصارت دولتهم تتجزأ، وقوضوا كيانهم بسلاحهم أكثر مما قوض بسلاح الأمم الأخرى، وعزا لوبون انحطاط العرب، أيضًا، إلى ما حدث من قبض أناس من ذوي العقول المتوسطة على زمام دولتهم الواسعة بعد أن كان يدير شؤونها رجالٌ من العباقرة، وإلى ما ألفه العرب من الترف، وما أصابهم من فتورٍ في الحماسة لمثلهم الأعلى، وإلى تنافس مختلف الشعوب التي خضعت لسلطانهم، وإلى فساد الدم العربي الذي نشأ عن توالد العرب وتلك الشعوب.
وعلى ما في هذه الأسباب من الصحة لا نعتقد أن لوبون أصاب حين ظن أن من أصول الإسلام النظام الأساسي القائل بجمع جميع السلطات في يد سيد مطلق، وحين عزا انحطاط العرب إلى هذا النظام الذي حمل به الناس كما ادعى، على التمسك بأحكام الماضي الإسلامية غير المطابقة لاحتياجاتهم المتحولة، فبعد أن أوضح لوبون أن نظام العرب ديموقراطيٌ، وأن مبدأ المساواة التامة ساد الجميع بفضله، وأن الفقهاء ساروا على مبدأ «لا ينكر تغُّير الأحكام يتغير الأمكنة والأزمان»، وأن المسلمين في عصر خلفاء بغداد وقرطبة الزاهر كانوا يعلمون، بما يأتون من ضروب الاجتهاد، كيف يوفقون بين هذه الأحكام واحتياجات الأمم التي انتحلتها، كان من الخطأ ذهابه إلى أن نظام الحكم المطلق هو من أصول الإسلام، جاء في القرآن: ﴿وَلْتَكُنْ مِنْكُمْ أُمَّةٌ يَدْعُونَ إِلَى الْخَيْرِ وَيَأْمُرُونَ بِالْمَعْرُوفِ وَيَنْهَوْنَ عَنِ الْمُنْكَرِ وَأُولَئِكَ هُمُ الْمُفْلِحُونَ﴾ ... ﴿وَشَاوِرْهُمْ فِي الْأَمْرِ فَإِذَا عَزَمْتَ فَتَوَكَّلْ عَلَى اللَّهِ﴾ ... ﴿وَأَمْرُهُمْ شُورَى بَيْنَهُمْ﴾ ... إلخ، وقال الرسول الأعظم: «الدين النصيحة لله ولكتابه، ولرسوله ولأئمة المسلمين وعامتهم» ... و«إن الله يرضى لكم
1 / 16
أن تعبدوه وحده، ولا تشركوا به شيئًا، وأن تعتصموا بحبل الله جميعًا، وأن تناصحوا من ولاه الله أمركم» ... و«ما تشاور قومٌ إلا هدوا لأرشد أمرهم» ... و«إن الناس إذا رأوا الظالم فلم يأخذوا على يديه أوشك أن يعمهم الله بعقاب من عنده» ... إلخ.
٥
وبعد أن أوضح العلامة لوبون أن الإسلام ألف بين قلوب العرب، وأنهم فتحوا العالم بفضله متخذين ما أمرهم به من العدل والإحسان والتسامح والرأفة بالأمم المغلوبة دستورًا لهم، قال: «كان من سياسة العرب الثابتة، إذا ما أرادوا الاستقرار بقطر؛ أن يكونوا على وثام مع الأهلين المغلوبين، وأن يحترموا دينهم وشرائعهم، وأن يكتفوا بأخذ جزيةٍ طفيفة منهم»، وإلا كان همهم تمويل الجنود وأخذ الغنائم.
وأثبت لوبون، بما لا يترك للشك مجالًا، أن عبد الرحمن الغافقي لم يهدف من غزوه لفرنسة إلا الاستقرار بها واتخاذها قاعدة للاستيلاء على أوربة، وأن النصر الذي أحرزه شارل مارتل في بواتيه لم يكن مهمًا كما زعم المؤرخون، بدليل عجز شارل مارتل عن استرداد أية مدينة استولى عليها العرب عسكريًا في فرنسة، وبدليل بقاء العرب، بعد معركة بواتيه مدة قرنين في جنوب فرنسة، وبدليل محالفة بعض أمراء فرنسة العرب على شارل مارتل الذي أخذ ينهب بلادهم، ثم قال لوبون: «إن النتيجة المهمة الوحيدة التي أسفر عنها انتصار شارل مارتل في بواتيه هي أنه جعل العرب أقل جرأة على غزو شمال فرنسة، ونتيجةٌ مثل هذه لم تكف لتكبير أهمية انتصار هذا القائد الفرنجي».
ثم ألمع لوبون، بعد أن ذكر غاية العرب من غزو فرنسة، إلى تخوف مؤرخي الغرب على مصير أوربة فيما لو كان النصر قد تم العرب في معركة بواتيه وكانت غايتهم الاستيلاء، وقال: «لنفرض، جدلًا، أن النصارى عجزوا عن دحر العرب، وأن العرب وجدوا جو شمال فرنسة غير بارد ولا ماطر كجو إسبانية فطابت لهم الإقامة الدائمة به، فماذا كان يصيب أوربة؟ كان يصيب أوربة النصرانية المتبربرة مثل ما أصاب إسبانية من الحضارة الزاهرة تحت راية النبي العربي، وكان لا يحدث في أوربة، التي تكون قد هذبت، ما حدث فيها من الكبائر، كالحروب الدينية وملحمة سان بارتلمي ومظالم محاكم التفتيش، وكل ما لم يعرفه المسلمون من الوقائع التي ضرجت أوربة بالدماء عدة قرون».
وقد خصص العلامة لوبون فصلًا للحروب الصليبية أشار فيه، غير مرة، إلى الفرق بين الفتح العربي والغارات الصليبية من حيث التسامح وحسن معاملة المغلوبين
1 / 17
والسياسة الرشيدة، فقال: «كانت أوربة، ولا سيما فرنسة، في القرن الحادي عشر الذي جردت فيه الحملة الصليبية الأولى في أشد أدوار التاريخ ظلامًا ... ولم يكن الصراع العظيم الذي كان يتمخض عنه العالم غير نزاع عظيم بين أقوام من الهمج، وحضارةٍ تعد من أرقى الحضارات التي عرفها التاريخ».
وقال لوبون، بعد أن ذكر الفظائع الوحشية وأعمال التخريب والسلب التي اقترفها الصليبيون في طريقهم إلى القدس، وذبحهم لمئات الألوف من المسلمين والعرب والأبرياء: «كان سلوكهم حين دخلوا القدس غير سلوك الخليفة الكريم عمر بن الخطاب نحو النصارى».
ثم قال لوبون، الذي روى لنا أن أول ما بدأ به قائد الحملة الصليبية الثالثة ريكاردوس هو قتله صبرًا ثلاثة آلاف أسير مسلم سلموا أنفسهم إليه بعد أن قطع لهم عهدًا بحقن دمائهم: «ليس من الصعب أن يتمثل المرء درجة تأثير تلك الكبائر في صلاح الدين النبيل الذي رحم نصارى القدس فلم يمسهم بأذى، والذي أمد فليب أوغست وقلب الأسد ريكاردوس بالأزواد والمرطبات في أثناء مرضهما، فقد أبصر الهوة العميقة بين تفكير الرجل المتمدن وعواطفه وتفكير الرجل المتوحش ونزواته».
وتمنى العلامة لوبون أن يكون العرب قد استولوا على العالم، ومنه أوربة، لما كان فيهم من نبيل الطبائع وكريم السجايا، فأعرب عن ذلك بقوله: «يروى، مع التوكيد، أن موسى بن نصير فكر، بعد فتح إسبانية، في العودة إلى سورية من بلاد الغول وألمانية وفي الاستيلاء على القسطنطينية، وفي إخضاع العالم القديم لأحكام القرآن، وأنه لم يعقه عن ذلك العمل العظيم سوى أمر الخليفة إياه بأن يعود إلى دمشق، فلو وفق موسى بن نصير لذلك لجمل أوربة مسلمة، ولحقق للأمم المتمدنة وحدتها الدينية ولأنقذ أوربة، على ما يحتمل، من دور القرون الوسطى الذي لم تعرفه إسبانية بفضل العرب».
٦
ولم يكن دور الفتح سوى وجه من وجوه تاريخ العرب، ولم تعن إقامة دولةٍ عظيمة إبداع حضارة، والعرب قد أبدعوا حضارة جديدة، ولم يلبث دور ازدهار حضارتهم أن بدأ بعد أن فرغوا من فتوحهم، وما بذلوا من الجهود في الوقائع الحربية وجهوا مثله إلى الآداب والعلوم والصناعة، وأبدعوا فيها بسرعة ما أبدعوه فيها ضروب القتال، وكان لا بد من وجود عوامل لصعود العرب في سلم الحضارة والإبداع فيها.
1 / 18
رجع العلامة غوستاف لوبون هذه العوامل، خلا ما تقدم، إلى بيئة العرب وذكائهم اللامع وخيالهم الخصب وحيويتهم، وقال:
لم يلبث العرب بعد خروجهم من صحاري جزيرتهم أن وجدوا أنفسهم أمام ما بهرهم من آثار الحضارة الإغريقية اللاتينية، وأن أدركوا تفوقها الثقافي، كما أدركوا تفوقها الحربي فيما مضى، فجدوا، من فورهم؛ ليكونوا على مستواها.
ويتطلب استمراء حضارة راقية ذكاءً مثقفًا ... وقد أثبتنا أن العرب كانوا أيام الرسول ذوي ثقافة أدبية رفيعة.
والحق أن الرجل المثقف قد يجهل أمورًا كثيرة، وإنما يتعلمها بسهولة؛ لما فيه من الاستعداد الذهني، وقد أظهر العرب في دراسة العالم، الجديد في أعينهم، من الحماسة كالاستعداد، الذي أبدوا لفتحه.
ولم يتقيد العرب في دراسة تلك الحضارة، التي واجهتهم فجأةً، بمثل التقاليد التي أثقلت كاهل البيزنطيين منذ زمن طويل، فكانت الحرية من أسباب تقدمهم السريع ... ولم يلبث أن تجلى استقلال العرب الروحي الطبيعي وخيالهم وقوة إبداعهم في مبتكراتهم الحديثة، وقد رأينا أنه لم يمض سوى وقت قصير حتى طبعوا على فن العمارة وسائر الفنون، ثم على مباحثهم العلمية، طابعهم الخاص الذي يبدو أول وهلةٍ في آثارهم.
وقد استدل لوبون على أن العرب خرجوا من جزيرتهم أصحاب ذكاء مصقول من عجز البرابرة الذين قضوا على الدولة الرومانية، ومن عجز الترك والمغول الذين قضوا على الدولة العربية عن إبداع أية حضارة لعقولهم الغليظة، مع توافر عوامل البيئة، فقال:
يبدو لنا الفرق بين الأمم التي تكون على جانب كبير من الذكاء، كالأمة العربية والأمم المنحطة، كبرابرة القرون الوسطى الذين قضوا على دولة الرومان، وأجلاف الترك والمغول الذين غمر طوفانهم دولة محمد.
فلقد أبدع العرب من فورهم، بعد أن استعانوا بحضارة اليونان وحضارة الرومان وحضارة الفرس، حضارةً جديدة أفضل من الحضارات التي جاءت قبلها، وكانت عقول البرابرة عاجزةً عن إدراك كنه الحضارة التي قهروا أهلها، وكان انتفاعهم بها ممسوخًا في بدء الأمر، ولم يسيروا بها نحو الرقي إلا بعد أن صقلت أدمغتهم فصارت قادرةً على إدراك معانيها بعد زمن طويل.
1 / 19
والواقع أن تقدم أولئك البرابرة الذين هدموا الدولة الرومانية لم يحدث إلا بتوالي الأجيال، وأنهم لبطء تقدمهم لم يستطيعوا إقامة حضارة جديدة على أنقاض حضارة القرون الأولى إلا بعد جهود استمرت قرونًا كثيرة.
أما الترك والمغول فلم يكن لهم، على رأي لوبون، شأنٌ في ميدان الحضارة، ولم يقدروا على الانتفاع بحضارة العرب انتفاعًا كافيًا، فضلًا عن عدم استطاعتهم إبداع أيَّ شيء بتوالي القرون.
حقًا إن العرب أخذوا ينظمون شؤونهم بعد انتهاء دور الفتوح، فحولوا جهودهم إلى ميدان الحضارة، وأبدعوا حضارة أينعت فيها الآداب والعلوم والفنون، وبلغت الذروة.
وهنا نذكر أن العلامة لوبون، الذي رأى أن العرب أثبتوا منذ ساعة اتصالهم بالعالم الخارجي أنهم من ذوي العقول الناضجة المستعدة للتمدن والتمدين، لم يسعه، حين تكلم عن تهمة حرق مكتبة الإسكندرية، سوى ردها عنهم بحرارةٍ في الكلمات الآتية، وهي:
وأما إحراق مكتبة الإسكندرية المزعوم فمن الأعمال الهمجية التي تأبها عادات العرب، والتي تجعل المرء يسأل: كيف جازت هذه القصة على بعض العلماء الأعلام زمنًا طويلًا؟ وهذه القصة دحضت في زماننا فلا نرى أن نعود إلى البحث فيها، ولا شيء أسهل من أن تثبت، بما لدينا من الأدلة الواضحة، أن النصارى هم الذين أحرقوا كتب المشركين في الإسكندرية قبل الفتح العربي بعناية كالتي هدموا بها التماثيل، ولم يبق منها ما يحرق.
٧
رأى العرب ذوو الذكاء اللامع والخيال الخصب والحيوية أنفسهم، في دور الفتح، في بيئات متباينة واقعة بين بلاد الهند والمحيط الأطلنطي، وكان لهذه البيئات تأثيرٌ متنوع فيهم مع تشابه صفاتهم الخاصة بعرقهم، فكان ما ترى من تفاوت في آثارهم الماثلة القائمة في تلك الأقطار، ومن وجود أوجه شبه بينها على العموم.
قال لوبون: «كان شأن العرب بالنسبة إلى المهندسين الأجانب الذين استخدموهم في دور الفتح كشأن الرجل الغني الذي يقيم لنفسه بيتًا، فكما أن المهندس الذي يرسم بيت ذلك الغني يراعي فيه، لا ريب، ذوقه، نرى مهندسي الروم قد راعوا ذوق العرب فيما أقاموا لهم من المباني الأولى، فتجلت عبقرية العرب فيها.
1 / 20
ولم يلبث العرب، بعد أن تحرروا من المؤثرات الأجنبية، أن أصبح لعمارتهم من الأشكال والنقوش الخاصة ما صار من المتعذر معه خلطها بغيرها، وإن أمكن أن يرى شيءٌ من الأثر البيزنطي أو الفارسي أو الهندي في بعض زخارفها مع محافظة البناء في مجموعة على طابعه العربي».
ولكن إيداع فن عمارة جديد لا يكفي لجعله أفضل من غيره، فقد يكون الفن الذي ظهر قبله خيرًا منه، فإلى هذا انتبه العلامة لوبون، وقال: «يكفي الإنسان أن ينظر إلى إحدى البنايات التي أقيمت في دور راقٍ من أدوار الحضارة العربية، مسجدًا كان ذلك البناء أو قصرًا، أو أن ينظر إلى ما صنع فيه من دواة أو خنجر أو جلد قرآنٍ؛ ليرى لهذه الآثار طوابع خاصةً لا يتطرق الوهم إليه في أصلها، والباحث في مصنوعات العرب، كبيرةً كانت أو صغيرة، لا يرى فيها أية صلة ظاهرة بمصنوعات أية أمة أخرى، فالإبداع في مصنوعات العرب تامٌ واضح ...
وتتجلى قوة الإبداع الفني في الأمم في سرعة تحويل ما ظفرت به من عناصر الفن، وجعله ملائمًا لاحتياجاتها وابتكارها بذلك فنًا جديدًا، فإذا تحقق هذا لدينا علمنا أن العرب لم تسبقهم أمة ...
وما على المرء إلا أن ينظر إلى آثار العرب الأدبية والفنية؛ ليعلم أنهم حاولوا تزيين الطبيعة دائمًا، وذلك لما اتصف به الفن العربي من الخيال والنضارة والبهاء وفيض الزخارف والتفنن في أدق الجزئيات.
والأمة العربية، قد رغبت بعد أن اغتنت (والأمة العربية أمة شعراء، وأيُّ شاعر لا يكون متفننًا) في تحقيق خيالاتها فأبدعت تلك القصور الساحرة التي يخيل إلى الناظر أنها مؤلفة من تخاريم رخامية مرصعة بالذهب والحجارة الكريمة.
ولم يكن لأمة مثل تلك العجائب، ولن يكون، فهي وليدة جيل فتيً مضى، وخيال خصب ذوى، ولا يطمعن أحدٌ في قيام مثلها في الدور الحاضر المادي الفاتر الذي دخل البشر فيه».
ولم يستطع العلامة لوبون أن يمنع نفسه، وهو المفكر الوقور، من التغني بآثار العرب، وإبداء ذلك في كل مناسبة، ومن ذلك قوله عن جامع الصخرة في القدس: «والمرء قد يفكر في تلك القصور السحرية التي يبصرها بخياله أحيانًا، ولكن الخيال دون الحقيقة في أمر جامع عمر».
والخلاصة: أن لوبون رأى أن فنون العرب آية في الإعجاز، وأنها تورث العجب العجاب.
1 / 21
ولم ير لوبون أن انتفاع الفن العربي، بما أذخرته الأجيال السابقة مما يضره، فعند لوبون أن كل جيل يقتبس من الأجيال الماضية، وهو يضيف إلى ما أقتبسه إذا كان على ذلك من القادرين، قال لوبون: «أثبت العلم الرفيع أن أصول الفن اليوناني مقتبسةٌ من الآشوريين والمصريين ... وأن العرب والأغارقة والرومان والفينيقيين والعبريين وكل أمة أخرى استفادوا من مجهودات الماضي، ولولا ذلك لكان لزامًا أن تبدأ كل أمة بما بدأت به الأمم الأخرى، ولسُدَّ باب التقدم، وكل ما تفعله الأمة في بدء الأمر هو أنها تقتبس من الأمم التي جاءت قبلها، ثم تضيف إلى ما أخذته أمورًا أخرى ...
وإذا أنعمت النظر في المباني العربية، كالقصور التي أقامها العرب في الأندلس أو المساجد التي أقاموها في القاهرة، رأيت العناصر الأولى التي تألفت منها بلغت من التمازج درجة يتعذر معها الانتباه إلى المصادر التي اشتقت منها».
٨
ولم يكن النشاط الذي يحفز الإنسان إلى التقدم قويًا في أمة مثل قوته في العرب، كما شهد به العلامة غوستاف لوبون، ولذلك نال العرب درجة رفيعة من الثقافة بعد أن أتموا فتوحهم بزمن قصير، وكانت لهم مبتكراتٌ فيما ورثوه من علوم الأولين.
والواقع أن حب العرب للعلم كان عظيمًا، وأن الخلفاء لم يتركوا طريقًا لاجتذاب العلماء ورجال الفن إلا سلكوها، وأن أحد خلفاء بني العباس شهر الحرب على قيصر الروم؛ ليأذن لأحد الرياضيين المشهورين في التدريس ببغداد، وأن العلماء ورجال الفن والأدباء من جميع الملل والنحل أخذوا يتقاطرون إلى بغداد التي كانت مركز الثقافة العالمية، كما أخذوا يتقاطرون إلى عاصمة الأندلس، قرطبة، التي كانت مركزًا للعلوم والفنون والصناعة.
قال لوبون: «كانت معارف اليونان واللاتين القديمة أساسًا لثقافة متعلمي العرب في الدور الأول، وكان هؤلاء الطلاب الذين يتلقون في المدرسة ما ورثه الإنسان من علوم الأولين، وكان اليونان أساتذة العرب الأولين إذن، ولكن العرب المفطورين على قوة الإبداع والنشاط لم يكتفوا بحال الطلب الذي اكتفت به أوربة في القرون الوسطى، فلم يلبثوا أن تحرروا من ذلك الدور الأول ...
والإنسان يقضي العجب من الهمة التي أقدم بها العرب على البحث، وإذا كانت هنالك أمم قد تساوت هي والعرب في ذلك، فإنك لا تجد أمة فاقت العرب على ما يحتمل ...
1 / 22
ولم يلبث العرب، بعد أن كانوا تلاميذ معتمدين على كتب اليونان، أن أدركوا أن التجربة والترصد خيرٌ من أفضل الكتب ... ويعزى إلى بيكن، على العموم، أنه أول من أقام التجربة والترصد، اللذين هما ركن المناهج العلمية الحديثة، مقام الأستاذ، ولكنه يجب أن يعترف اليوم بأن ذلك كله من عمل العرب وحدهم.
ومنح اعتماد العرب على التجربة مؤلفاتهم دقةً وإبداعًا لا ينتظر مثلهما من رجل تعود درس الحوادث في الكتب ...
ونشأ عن منهاج العرب التجريبي وصولهم إلى اكتشافات مهمة ...
ولما آل العلم إلى العرب حولوه إلى غير ما كان عليه، فتلقاه ورثثهم مخلوقًا خلقًا آخر ...»
٩
ولم يقتصر فضل العرب في ميدان الحضارة على أنفسهم، فقد كان لهم الأثر البالغ في الشرق والغرب، والمشرق والمغرب مدينان لهم في تمدنهما، ولم يتفق لأمة فيهما ما للعرب من النفوذ.
ذلك ما رآه لوبون، وهو القائل: «إن الأمم التي كانت لها سيادة العالم، كالآشوريين والفرس والمصريين والأغارقة والرومان، توارت تحت أعفار الدهر ولم تنزل لنا غير أطلالٍ دارسة، وعادت أديانها ولغاتها وفنونها لا تكون سوى ذكريات، والعرب، وإن تواروا أيضًا، لم تزل عناصر حضارتهم، وإن شئت فقل: ديانتهم ولغتهم وفنونهم، حية ...
«وأنشأ العرب بسرعة حضارة جديدة كثيرة الاختلاف عن الحضارة التي ظهرت قبلها، وتمكنوا من حمل أمم كثيرة على انتحال دينهم ولغتهم وحضارتهم الجديدة، واتصلت بالعرب أممٌ قديمة كشعوب مصر والهندوس، واعتنقت معتقدات العرب وعاداتهم وطبائعهم وفن عمارتهم، واستولت بعد ذلك أمم كثيرة على الأقطار التي فتحها العرب، وظل نفوذ العرب فيها ثابتًا، ويلوح لنا أن رسوخ هذا النفوذ أبديٌ في جميع البقاع الآسيوية والإفريقية التي دخلوها، والتي تمتد من مراكش إلى الهند».
وشمل فضل العرب قاهريهم أيضًا، مع عجز هؤلاء عن الانتفاع بحضارة العرب كما كان يجب، وانتحل أكثر قاهري العرب دين العرب وفنونهم وعلومهم، واتخذ أكثرهم العربية لغة له، ولم يدر في خلد أحدهم إقامة حضارةٍ مقام حضارة العرب، فحضارة
1 / 23
العرب أينما حلت ثبتت أصولها، ولم يقدر فاتح على زعزعتها، وهي من المناعة ما استطاعت أن تهيمن به على الأمم التي حاولت هدمها.
قال لوبون: «لا نرى في التاريخ أمةً ذات أثرٍ بارز كالعرب، فجميع الأمم التي اتصل العرب بهم اعتنقت حضارتهم، ولو حينًا من الزمن، ولما غاب العرب عن مسرح التاريخ انتحل قاهروهم، كالترك والمغول، إلخ، تقاليدهم وينوا للعالم ناشرين لنفوذهم، أجل، لقد ماتت حضارة العرب منذ قرون، ولكن العالم لا يعرف اليوم في البلاد الممتدة من سواحل المحيط الأطلنطي إلى الهند، ومن البحر المتوسط إلى الصحراء غير أتباع النبي ولغتهم».
وعندما تكلم العلامة لوبون عن عرب الأندلس قال: «لم يكن العرب يتمون فتح إسبانية حتى بدأوا يقومون برسالة الحضارة فيها، فاستطاعوا في أقل من قرن أن يحيوا ميت الأرضين ويعمروا خرب المدن، ويقيموا فخم المباني ويوطدوا وثيق الصلات التجارية بالأمم الأخرى، ثم شرعوا يتفرغون الدراسة العلوم والآداب، ويترجمون كتب اليونان واللاتين، وينشؤون الجامعات التي ظلت وحدها ملجأ للثقافة في أوربة زمنًا طويلًا».
ثم رأي لوبون أن إسبانية هبطت إلى الدرك الأسفل من الانحطاط بعد جلاء العرب عنها، وذلك بعد قوله: «لا يسعنا سوى الاعتراف بأننا لم نجد بين وحوش الفاتحين من يؤاخذ على اقترافه مظالم قتلٍ كتلك التي اقترفت ضد المسلمين، ومما يرثي له أن حرمت إسبانية عمدًا هؤلاء الملايين الثلاثة الذين كانت لهم إمامة السكان الثقافية والصناعية».
ورأى لوبون، والحق ما رأى، أن العرب مدنوا أوربة مادة وعلمًا وأخلاقًا، «فقد كان عرب الأندلس يتصفون بالفروسية المثالية خلا تسامحهم العظيم، فكانوا يرحمون الضعفاء، ويرفقون بالمغلوبين، ويقفون عند شروطهم، وما إلى هذا من الخلال التي اقتبستها الأمم النصرانية بأوربة منهم مؤخرًا ... وأثر عرب الأندلس في أخلاق الناس، فهم الذين علموا الشعوب النصرانية، وإن شئت فقل حاولوا أن يعلموها التسامح الذي هو أثمن ما تصبو إليه الإنسانية ... ويمكن القول بأن التسامح الديني كان مطلقًا في دور ازدهار العرب ... ومثل هذا التسامح مما لم تصل إليه أوربة بعد ما قامت به في أكثر من ألف سنة من الحروب الطاحنة، وما عانته من الأحقاد المتأصلة، وما منيت به من المذابح الدامية».
وقد أفاض العلامة لوبون في إيضاح تمدين العرب لأوربة، وانتهى إلى ما يأتي: «إنه كان للحضارة الإسلامية تأثيرٌ عظيم في العالم، وإن هذا التأثير خاص بالعرب وحدهم فلا نشاركهم فيه الشعوب الكثيرة التي اعتنقت دينهم، والعرب هم الذين هذبوا بتأثيرهم الخلقي البرابرة الذين قضوا على دولة الرومان، والعرب هم الذين فتحوا لأوربة ما كانت
1 / 24
تجهله من عالم المعارف العلمية والأدبية والفلسفية، فكانوا متمدنين لنا وأئمة لنا ستة قرون ... وظلت ترجمات كتب العرب، ولا سيما الكتب العلمية، مصدرًا وحيدًا، تقريبًا للتدريس في جامعات أوربة خمسة قرون أو ستة قرون ... وإذا كانت هناك أمةٌ تقر بأننا مدينون لها بمعرفتنا لعالم الزمن القديم فالعرب هم تلك الأمة ... فعلى العالم أن يعترف للعرب بجميل صنعهم في إنقاذ تلك الكنوز الثمينة اعترافًا أبديًا، قال مسيو ليبرى: لو لم يظهر العرب على مسرح التاريخ: لتأخرت نهضة أوربة الحديثة في الآداب عدة قرون».
ولم يغب عن بال لوبون أن يرد على قول بعض الكتاب إن معظم علماء العرب في بلاد الإسلام ليسوا من أصلٍ عربي، فقد قال: «إن تلك البلاد مما ملكة العرب، وإن الدم العربي مما جرى في عروق أبنائها، وإن علوم العرب مما كان لها نصيبٌ منه زمنًا طويلًا، وإنه إذا أبيح لأحدٍ أن يجادل في الآثار التي صدرت عن مدارس العرب كان ذلك من قبيل إباحته لنفسه أن يجادل في مؤلفات علماء فرنسة بحجة أنهم من الشعوب الكثيرة التي تألف من مجموعها الشعب الفرنسي كالنورمان، والسلت، والأكيتان ... إلخ».
وعند العلامة لوبون أن أوربة أخذت حضارتها من عرب الأندلس على الخصوص، وهو لم ير للحروب الصليبية كبير فضلٍ في تمدين أوربة خلا ما اقتبسه الأوربيون في اثنائها من وسائل ترف الشرق، وطراز عمارته وصنائعه، قال لوبون: «إن استفادة الصليبيين من علوم العرب الخالصة كانت ضعيفة إلى الغاية خلافًا لما ذهب إليه كثير من المؤرخين، فالجيوش الصليبية إذ كانت جاهلة للعلماء لم تكن لتبالي بالمعارف والأصول مبالاتها بشكل البناء أو الأسلوب الصناعي».
وسأل لوبون، بعد أن أثبت فضل العرب على أوربة وتمدينهم لها: «لماذا ينكر علماء الوقت الحاضر تأثير العرب؟» فكان جوابه: «إن استقلالنا الفكري لم يكن، بالحقيقة، في غير الظواهر، وإننا لسنا من أحرار الفكر في بعض الموضوعات كما نريد.
فالمرء عندنا ذو شخصيتين: الشخصية العصرية التي كونتها الدراسات الخاصة والبيئة الخُلقية والثقافية، والشخصية القديمة غير الشاعرة التي جمدت وتحجرت بفعل الأجداد وكانت خلاصةً لماضٍ طويل.
والشخصية غير الشاعرة وحدها، ووحدها فقط، هي التي تتكلم عند أكثر الناس، وتمسك فيهم المعتقدات نفسها مسماةً بأسماء مختلفة، وتملي عليهم آراءهم فيلوح ما تملي عليهم من الآراء حرةً في الظاهر فتحترم.
فالحق أن أتباع محمد ظلوا أشد ما عرفته أوربة من الأعداء إرهابًا بعدة قرون، وأنهم عندما كانوا لا يرعدوننا بأسلحتهم، كما في زمن شارل مارتل والحروب الصليبية، أو
1 / 25
يهددون أوربة بعد فتح القسطنطينية، كانوا يذلوننا بأفضلية حضارتهم الساحقة، وأننا لم نتحرر من نفوذهم إلا بالأمس.
وتراكمت مبتسراتنا الموروثة ضد الإسلام والمسلمين في قرون كثيرة، وصارت جزءًا من مزاجنا، وأضحت طبيعةً متأصلة فينا تأصل حقد اليهود على النصارى الخفي أحيانًا والعميق دائمًا.
وإذا أضفنا إلى مبتسراتنا الموروثة ضد المسلمين مبتسرنا الموروث الذي زاد مع القرون بفعل ثقافتنا المدرسية البغيضة القائلة «إن اليونان واللاتين وحدهم منبع العلوم والآداب في الزمن الماضي» أدركنا، بسهولة، سر جحودنا العام لتأثير العرب العظيم في تاريخ حضارة أوربة.
ويتراءى لبعض الفضلاء أن من العار أن يرى أن أوربة النصرانية مدينةٌ في خروجها من دور التوحش لأولئك الكافرين، فعارٌ ظاهر كهذا لا يقبل إلا بصعوبة».
ووضع لوبون العرب في صف اليونان والرومان، ورآهم أرقى من جميع أمم الغرب التي عاشت قبل عصر النهضة، فكان في هذا أكثر إنصافًا من بعض كتاب العرب المعاصرين الذي استهوتهم الثقافة الأوربية المدرسية، فأخذوا يسايرون رجالها متجاهلين ما لأمتهم العربية من المقام العريض في ميدان الحضارة راغبين بالأغارقة والرومان عنها حينما يتكلمون في تاريخ الحضارة العالمية.
واعترف لوبون للعرب بظهور رجالٍ عظماء منهم كما تشهد بذلك اكتشافاتهم، ولكنه أبدى ارتيابه في ظهور عباقرةٍ منهم كنيوتن وليبنتز، فتعد ذلك هفوة من العلامة لوبون الذي ذكر في غير موضع أن لافوازيه مدين لعلماء العرب في علم الكيمياء، وأن كليبر وكوبرنيك مدينان لعلماء العرب في علم الفلك مثلًا، فقد قال: «يرى بعض المؤلفين أن لافوازيه هو واضع الكيمياء، وقد نسوا أننا لا عهد لنا بعلم من العلوم، ومنها علم الكيمياء، صار ابتداعه دفعةً واحدةً، وأنه وجد عند العرب من المختبرات ما وصلوا به إلى اكتشافاتٍ لم يكن لافوازيه ليستطيع أن ينتهي إلى اكتشافاته بغيرها»، وقال نقلًا عن العلامة سيديو: «إن العرب سبقوا كليبر وكوبرنيك في اكتشاف حركات الكواكب السيارة على شكل بيضي، وفي نظرية دوران الأرض»، وقال: «ترى في كتب العرب من النصوص ما تعتقد به أن نفوسهم حدثتهم ببعض اكتشافات العلم الحديث المهمة»، فإذا كانت الحضارة العامة سلسلة حلقات، وكانت حضارة العرب من أهم تلك الحلقات كان من المتعذر ظهور نيوتن وليبنتز وغيرهما من أركان حلقة الحضارة الحديثة بدونها، والفضل للمتقدم.
1 / 26