ومن المرجَّح أن مؤلف "الثقافة" (^١) لم يطَّلع على رسالة (^٢) العلامة الشيخ محمود حسن الديوبندي (م ١٨ ربيع الأول سنة ١٣٣٩ هـ) المعروف بشيخ الهند، فإنما طُبعت بعد وفاة مؤلف "الثقافة" (م سنة ١٣٤١ هـ).
وهذا جُلُّ ما انتهى إلينا من أخبار الكتب والرسائل في موضوع الأبواب والتراجم للبخاري في الماضي.
* وسرُّ الغموض في هذه الأبواب والتراجم: تنوُّع مقاصد المؤلف الإمام، وبُعد مراميه، وفرط ذكائه وحِدَّة ذهنه، وتعمُّقه في فهم الحديث، وحرصه على الاستفادة منه أكبر استفادة ممكنة، فهو كنحلة حريصة توَّاقة، تجتهد أن تتشرَّب من الزهرة آخر قطرة من الرحيق، ثم تحولها إلى عسل مصفًّى فيه شفاء للناس.
وشأن الإمام البخاري مع الحديث النبوي شأن العاشق الصادق، والمحب الوامق، مع الحبيب الذي أسبغ الله عليه نعمة الجمال والكمال، وكساه ثوبًا من الروعة والجلال، فهو لا يكاد يملأ عينيه منه، وهو كلَّما نظر إليه اكتشف جديدًا من آيات جماله، فازداد افتتانًا وهُيامًا، ورأى جماله يتجدَّد في كل حين، وإذا الوجه غير الوجه، والجمال غير الجمال، فلا قديم في الحب، ولا إعادة عند المحب، وصدق الشاعر:
يَزِيْدُكَ وَجْهُهُ حُسنًا … إِذَا مَا زِدْتَهُ نَظَرًا
ولذلك نرى الإمام البخاري لا يكاد يشبع من استخراج المسائل، واستنباط الفوائد، والنزول إلى أعماق الحديث، والتقاط الدرر منه، والخروج على قرائه بها، حتى يذكر حديثًا واحدًا أكثر من عشرين مرة.