بحديث: "إنما الأعمال بالنيات" وختمه بحديث "كلمتان حبيبتان إلى الرحمن" وفي كل واحد منهما غرابة، إشارة منه إلى حديث "بدأ الإِسلام غريبًا، وسيعودُ كما بدأ غريبًا .... الخ" وهذه نكتة عجيبة، قل أن تقف عليها في كتاب. وقال ابن بَطّال: نقلًا عن أبي عبد الله بن النَّجّار: التبويب متعلق بالآية والحديث معًا، لأنّ الله تعالى أوحى إلى الأنبياء، ثم إلى محمَّد ﵊، أن الأعمال بالنيات لقوله تعالى: ﴿وَمَا أُمِرُوا إِلَّا لِيَعْبُدُوا اللَّهَ مُخْلِصِينَ لَهُ الدِّينَ﴾ [البينة: ٥] وقال أبو العالية في قوله تعالى: ﴿شَرَعَ لَكُمْ مِنَ الدِّينِ مَا وَصَّى بِهِ نُوحًا﴾ [الشورى: ١٣] قال: وصاهم بالإِخلاص في عبادته، وعن أبي عبد الملك البُوني مناسبة الحديث للترجمة: هي أن بدء الوحي كان بالنية، لأنّ الله تعالى فطر محمدًا ﷺ على التوحيد، وبغَّضَ إليه الأوثان، ووهب له أول أسباب النبوة، وهي الرؤيا الصالحة، فلما رأى ذلك أخلص إلى الله تعالى في ذلك، فكان يتعبد بغار حراء، فقبل الله تعالى عمله، وأتمَّ له النعمة.
وقال المُهَلَّب: قصد البخاري الإِخبار عن النبي ﵊ في حال منشئه، وأن الله تعالى بغض إليه الأوثان، وحبب إليه خِصال الخير، ولزوم الوحدة، فرارًا من قُرناء السوء، فلما لزم ذلك أعطاه الله تعالى على قدر نيته، ووهب له النبوة، كما يقال: الفواتح عنوان الخواتم. وقال ابن المنير في أول التراجم: كان مقدمة النبوة في حق النبي ﷺ الهجرة إلى الله تعالى بالخلوة في غار حراء، فناسب الافتتاح بحديث الهِجرة، وقيل: إنه أراد أن يقيمه مقام الخُطبة للكتاب، وتعقب هذا بأنه لو كان أراد ذلك لكان سياقه قبل الترجمة، وحكى المهلب أن النبي ﷺ خطب به حين قدم المدينة مهاجرًا، فناسب إيراده في بدء الوحي، لأنّ الأحوال التي كانت قبل الهجرة كانت كالمقدمة لها، لأنّ بالهجرة افتُتح الإِذن في قتال المشركين، ويعقبُهُ النصر والظفر والفتح.
قال في "الفتح": وهذا وجهٌ حسن إلا أنني لم أر ما ذكره من كونه ﷺ خطب به أول ما هاجر منقولًا، وقد وقع في باب ترك الحيل بلفظ: