The Biography of the Prophet - Ragheb Al-Sergani
السيرة النبوية - راغب السرجاني
Nau'ikan
مقدمات نزول الوحي
جاء في صحيح البخاري وغيره عن عائشة ﵂ وأرضاها، وعائشة وإن لم تكن معاصرة لأحداث نزول الوحي، لكنها سمعت هذا من رسول الله ﷺ، أو من الصحابة، تقول السيدة عائشة ﵂ وأرضاها: (أول ما بدئ به رسول الله ﷺ من الوحي الرؤيا الصالحة في النوم، فكان لا يرى رؤيا إلا جاءت مثل فلق الصبح).
كانت هناك مقدمات للوحي قبل أن ينزل جبريل ﵇ على رسول الله ﷺ في غار حراء، من هذه المقدمات: الرؤيا الصالحة، فقد كانت تأتي مثل فلق الصبح، يعني: كان يرى الرؤيا فتقع تمامًا كما رآها ﷺ، فكان هذا نوعًا من إنباء بالغيب، وهذا أمر غريب، فهو وإن لم يكن تصريحًا بالرسالة، لكنه شيء لافت للنظر، وتمهيد لأمر عظيم.
وهل هذه هي المقدمة الأولى التي حدثت لرسول ﷺ قبل نزول الوحي أم أن هناك مقدمات أخرى؟ الحقيقة لم يكن هذا هو التمهيد الأول، بل وجدت أشياء أخرى، فقد سبقت هذا بعض الأحداث العجيبة جدًا في مكة، أحيانًا كان يراها ﷺ وحده، وأحيانًا أخرى يراها معه غيره، مثل: سلام الحجر عليه، يقول الرسول ﷺ كما في صحيح مسلم: (إني لأعرف حجرًا بمكة كان يسلم علي قبل أن أبعث، إني لأعرفه الآن)، وهذا قبل البعثة وقبل نزول الوحي، ومؤكد أن الرسول ﷺ لم يكن يعرف تفسير هذا الأمر؛ لأنه ﷺ تفاجأ بأمر الوحي، ولم يكن يعرف أنه سيكون رسول الله إلى الناس.
وأغرب من سلام الحجر حادثة شق الصدر، فقد ثبت في صحيح مسلم ومسند أحمد وصحيح ابن حبان (أن جبريل شق صدر رسول ﷺ وهو غلام، واستخرج قلبه واستخرج منه علقة، وقال: هذا حظ الشيطان منك، ثم غسل قلبه في طست من ذهب بماء زمزم، ثم لأم صدر رسول الله ﷺ.
وأخبر أنس بن مالك ﵁ وأرضاه أنه رأى أثر المخيط في صدره ﷺ.
وللعلم فهناك ممن لا يؤمن بالغيبيات ولا بقدرة الله ﷿ تنكر لهذه القصة، وهم في الحقيقة لا يؤمنون أن الله ﷿ قادر على هذا الأمر، ويقولون: لِمَ لمْ ينزع الله منه هذا الحظ من دون حاجة إلى ذلك؟ هذه حجتهم، وإلا فهم في الحقيقة ينكرون القدرة الإلهية، وإنما يقولون هذا حياءً، وقد التقيت مع أحد العلمانيين وتكلمت معه طويلًا في هذا الأمر، وهو ينكره تمامًا، فقلت له: هذا في صحيح مسلم، فقال: لعله نقله بالخطأ.
فهو ينكر أن يكون شق صدره في هذا العمق من التاريخ.
إذًا: هذا نوع من الإعداد والتربية والتهيئة لرسول الله ﷺ، كأنه يقول له: أنت إنسان مختلف، تحدث لك أمور غريبة، وكل هذا من باب التمهيد، حتى إذا ما أتت الرسالة يكون لديه شبه تهيؤ لها، وأنها سبب تلك الأشياء الغريبة التي كانت تقع له، والآن هذا تفسير كل شيء: أنت رسول من عند رب العالمين ﷾.
وهذا نوع من الإعداد أيضًا لأهل مكة، ولأهل جزيرة العرب لما تعلم بهذه القصة تضع هذا الإنسان في وضعية تختلف عن كل الناس في جزيرة العرب، بل عن كل الناس التي خلقت قبل هذا.
الأهم من كل هذا أن هذا اختبار لإيمان المسلمين بقدرة الله ﷿، المسألة مسألة إيمان، إذا كنت ستصدق بأن ملكًا يمكن أن ينزل من السماء إلى الأرض ثم يعود في لمح البصر، وأن الملائكة تحارب مع المسلمين، وتنزع قرى وجبالًا بأكملها، أو توزع الأرزاق على أهل الأرض في كل لحظة، إذا كنت تؤمن بكل هذه الأمور، وبكل هذه القدرات للملائكة، فلا بد أنك تؤمن بهذا الأمر البسيط بالمقارنة إلى غيره، فعملية جراحية ليست كرفع قرية كاملة أو جبل أو هذه الإمكانيات الهائلة للملائكة، مع العلم أن الملائكة لا تعمل هذه الأشياء بقدرة ذاتية فيها، أبدًا؛ لكن لأن الله ﷿ يريد وهو قادر على تحقيق ما يريد.
أما من في قلبه شك فيصعب عليه أن يصدق هذه القصة أو غيرها، مثل: الإسراء والمعراج، وشق القمر أو غير ذلك من الأحداث التي حدثت في زمان رسول الله ﷺ، ومنها: معجزة القرآن الكبرى، فهو دليل لا يقاوم على إمكانية وقدرات الله ﷾.
ثم تقول السيدة عائشة ﵂: (ثم حبب إليه الخلاء)، أي: أن الله ﷿ هو الذي دفعه لذلك، كان يصعد ﷺ كل سنة فترة معينة من الزمن -لعله شهر رمضان- يختلي بنفسه في غار حراء، يتفكر في خالق هذا الكون، كيف يمكن أن نعبد هذا الإله، والعرب بصفة عامة كانوا يعرفون أن الله ﷿ هو الذي خلق هذا الكون، وهو الذي خلقهم: ﴿وَلَئِنْ سَأَلْتَهُمْ مَنْ خَلَقَ السَّمَوَاتِ وَالأَرْضَ لَيَقُولُنَّ اللَّهُ﴾ [لقمان:٢٥]، لكن العرب كانوا يسجدون للأصنام، ويق
4 / 4