Juyin Wakan Zamani daga Baudelaire Zuwa Zamani na Yanzu (Sashe na Farko): Nazarin
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Nau'ikan
وإذا كان من واجب دارس الشعر أن يقوم بوظيفة سقراط في «توليد» النص وبعثه من جديد في عقل القارئ وقلبه، فهناك واجب آخر لا يقل عنه أهمية، وهو أن يخفي نفسه حين يفعل هذا بقدر الإمكان. إن دراسة النصوص في هذا الكتاب تعنى بالوقوف عند الجزئيات المتعلقة ببناء العبارة واختيار الكلمة وظواهر الإيقاع والنغم والصوت ودلالتها جميعا على الخلفية العقلية والفلسفية للشاعر والعصر. وقد يسخط هذا بعض المتذوقين الذين يكرهون تفتيت القصيدة وتشريحها - وهي الكائن الحي - بمبضع الناقد القاسي. وقد يغضبهم أنه يحاول أن يقرأ النص قراءة قد لا يوافقونه عليها إيمانا منهم بأن لكل قصيدة من التفسيرات بقدر ما لها من القراء، وأن التحليل يفسد الإحساس العام الذي يخرج به. ولست في الحقيقة ضد هذه الآراء، فمن الواجب أن يبدأ الدارس بالمعنى الكلي والانطباع العام الذي يوحي به النص في مجموعه، ومن الواجب أيضا أن ينتهي إليه. ولكن هذا لا يمنع أن التحليل الدقيق ضروري في المرحلة المتوسطة، وبخاصة في نصوص بلغت من إحكام البناء وتعقيد العبارة وغموض الإشارات والرموز والخروج عن القواعد اللغوية والنحوية المألوفة ما تبلغه على سبيل المثال بعض قصائد مالارميه.
ليس الدارس أو الشارح سوى الدليل الذي يساعد صاعد الجبل ويمده بالحبال التي تعينه على اجتياز الصخور الوعرة، أما الطريق نفسه والاستمتاع بالرحلة كلها فشيء لا بد أن يعتمد فيه صاعد الجبل - أي القارئ - على ذاته. وغني عن الذكر أن التحليل والتفسير يضران أشد الضرر إذا لم نخرج منهما بحكم أو تذوق عام للعمل الفني ثم لصاحبه وعصره. وهذا كلام يصدق على القصيدة كما يصدق على اللوحة والتمثال والسيمفونية. وإذا كان التحليل شيئا هاما وضروريا، فإن المبالغة فيه قد تصبح أمرا لا يحتمل. والسبب في هذا بسيط. فما زلت أومن بأن في كل عمل فني عظيم شيئا يستعصي في نهاية الأمر على التفسير. ومن الخطأ أن ندعي العلمية في هذا المجال فنزعم أن ما يستعصي على التحليل لا أهمية أو لا وجود له. إن الخسارة في هذه الحالة لا تعوض، هذا شيء تدركه العقول والنفوس الحساسة. والمهم بعد كل شيء أن لا يفرض التفسير «الجاهز» من خارج النص، ولا يبالغ الدارس في عمله حتى لا يصبح التفسير مرضا أو جنونا يتسلط عليه، بحيث لا يترك شيئا إلا فسره، ولو كان واضحا كالشمس! إن كل ما يطمع فيه المفسر أو الناقد هو أن يعينك على تجربة القصيدة في مجموعها وفي أجزائها. فهو يعمد إلى التحليل ولكنه لا ينسى التركيب، أي لا ينسى المبدأ أو البناء العام الذي تقوم عليه. وهو لا يفرض تجربته عليك، بل يضع يدك على ما توصل إليه من أسرارها وخصائصها ثم يترك لك أن تجرب وتتذوق بنفسك. وماذا يكون التذوق وأي جدوى من التجربة إن لم نعرف قبل ذلك شيئا عن الاستعارات والرموز التي استخدمها الشاعر، والوزن الذي اختاره، والكلمات التي فضلها على غيرها، والتجديد الذي ذهب إليه في بنية العبارة أو معنى الكلمة أو الرؤية الكونية والإنسانية التي تستتر وراء عمله ... إلى آخر ما يكشف عنه اجتهاد الدارسين؟ •••
بقيت كلمة أخرى عن النماذج المختارة وأسلوب الترجمة. أما عن الاختيار فقد التزمت كما قلت من قبل بفترة زمنية محددة لا تخرج عن القرن العشرين، كما تقيدت بمجال معين لا يتجاوز الآداب الفرنسية والإسبانية والإيطالية والألمانية. وأنا أعلم أن هذا التحديد يظلم الشعر الحديث في كتاب يحمل مثل عنوانه الطموح، وأعلم أن القارئ سيفتقد أسماء كبيرة لمعت في سمائه بل سيفتقد بلادا بأكملها في الغرب والشرق وبين الشعوب الناهضة لم تذكر بكلمة واحدة.
والواقع أنه لا بد لأي كاتب أن يحدد نفسه حتى لا يضل في التيه. والكتاب الذي بين يديك لا يريد إلا أن يكون مدخلا لقراءة الشعر الحديث وتتبع أصوله بقدر الطاقة وفي فترة زمنية محددة تمتد من منتصف القرن التاسع عشر إلى منتصف القرن العشرين. إنه يهتم قبل كل شيء ببنائه ولا يفكر في تقديم لوحة شاملة - أو بانوراما - تضم كل أعلامه.
إن مثل هذه المحاولة تخرج بطبيعة الحال عن هدف الكتاب. ثم إنها تفوق قدرة إنسان واحد وحياته، ولا بد أن تتضافر فيها جهود عشرات وعشرات.
توخيت في النماذج المختارة كما قلت ألا تخرج عن القرن العشرين؛ ولذلك اكتفيت من الشعراء الثلاثة الكبار - بودلير ورامبو ومالارميه - بالنصوص الواردة في متن الدراسة وأحسب أنها تقدم صورة وافية لهم. ثم أضفت إليها في المختارات بعض قصائد من فيرلين حتى تتم صورة هؤلاء الأربعة الكبار، وقد كان المقصود بالمختارات أن تكون «تطبيقا» للمبادئ النظرية التي يعالجها الجزء الخاص بالدراسة، وأن تكشف عن البناء الجديد الذي يحاول أن يلقي الضوء عليه. ولذلك فقد كان من الواجب أن تتم في حدود أضيق بكثير مما هي عليه، وأن تستبعد شعراء كبارا لم يكن لهم تأثير حاسم على الشعر الحديث ولا مشاركة مباشرة في بنائه. ولكنني اقتنعت بعد القراءة والتفكير أن الأمور في الأدب عموما لا يمكن أن تؤخذ بهذا التحديد الرياضي الدقيق، وأن عددا من الشعراء الكبار قد أسهموا بغير شك في تكوين صورة الشعر الحديث إن لم يكن بقصائدهم نفسها فبآرائهم ومواقفهم في الفن والحياة. ولذلك يجد القارئ، مثلا نماذج مختلفة من شعر أونامونو وماتشادو في إسبانيا، وبول فيرلين وجول سوبرفيي في فرنسا، وشتيفان جورجه ورلكه وهسه وكاروسا وبنسولت وكستنر في ألمانيا ممن لا يمثلون الطابع الجديد للشعر الحديث بالمعنى الدقيق. ولقد فكرت أن أضم إليهم مختارات من شعراء «الموجة الثانية» التي سبق الحديث عنها من أمثال ألكسندر بلوك ووليم بتلر ييتس أو من الدائرين بشكل أو آخر في نفس فلكهم مثل كونستانتين كافافيس اليوناني أو آندره آدي المجري أو غيرهما من مشاهير الشعراء في العالم السلافي والأنجلوسكسوني والشرقي والإفريقي. وفكرت كذلك أن أضم إلى المختارات نماذج من شعراء التعبيرية وفي مقدمتهم جورج تراكل وجورج هايم ثم طرحت الفكرة جانبا، لا لأن معظم هؤلاء الشعراء ليس لهم دور حاسم في بناء الشعر الحديث كما يفهمه هذا الكتاب، بل كذلك لاقتناعي بأن الكثيرين منهم يحتاجون إلى دراسات مستقلة أرجو - إن بقي في العين نور وفي العمر بقية - أن أفرغ لها أو يلتفت إليها غيري في المستقبل، وإن الاهتمام العام بحركة الشعر الحديث في وطننا العربي أو خارج حدوده، والدراسات والترجمات التي تتوالى على نحو جدير بالحمد والثناء، لتجعلنا نطمع ألا يطول بنا الانتظار.
4
ولقد فكرت أيضا أن أضم إلى المختارات عددا من قصائد الشعراء في العالم الأنجلوسكسوني ممن لهم تأثير لا شك فيه على الشعر الحديث، مثل ييتس وياوند وأودن واديث سيتويل وديلان توماس وغيرهم. لكنني استبعدت الفكرة كذلك راجيا أن يقوم بها من هم أقدر مني وأوثق صلة بالشعر الإنجليزي والأمريكي . على أنني قد خرجت عن هذه القاعدة في استثناء واحد أود أن أستأذن القارئ بشأنه فقد أوردت بعض النصوص من ت. س. إليوت، لا لشهرته ولا لحبي القديم له فحسب، بل لأنني تحدثت عنه في الكتاب بشيء قليل من التفصيل، وأصبح من الضروري أن أورد نماذج تطبيقا لما قلته. وقد أعدت نشر قصيدة «الرجال الجوف» التي كنت قد ترجمتها ونشرتها سنة 1952م في مجلة الثقافة القاهرية، كما اهتديت في سائر القصائد بالترجمة القيمة التي قام بها الأستاذ ماهر شفيق فريد وأرجو أن تجد سبيلها إلى النور في وقت قريب.
وأما عن الأسس التي أقمت عليها اختياري للقصائد فأرجو ألا ينزعج القارئ إذا قلت إنها لم تقم على أساس معين! صحيح أنني راعيت فيها - باستثناء الشعراء الكبار الذين ذكرتهم والذين ينتمون إلى الكلاسيكية الجديدة أو الرومانتيكية المتأخرة كما قلت - أن تكون ممثلة لبناء الشعر الحديث كما يبينه الكتاب. ولكن لا بد من الاعتراف بأن كل اختيار يقوم على الذوق الخاص قبل أي اعتبار آخر، لأن كل اختيار إنما هو في الواقع اختيار للنفس. والحقيقة أنني لا أملك تفسيرا آخر للإكثار من نصوص بعض الشعراء دون بعضهم الآخر. صحيح أن مجموعات الشعر التي بين يدي لم تسعفني في بعض الحالات. ولكن لا بد من الاعتراف بأن ذوقي الشخصي هو الذي تحكم إلى حد كبير في اختيار النصوص كما تحكم أيضا في عددها. ولهذا فإني أرجو ألا يفاجأ القارئ إذا لاحظ السخاء الزائد مع بعض الشعراء دون بعضهم الآخر (مثل أنجارتي الإيطالي، وإلوار الفرنسي، ولوركا وألبرتي واليخاندر الإسبان، وبن وكرولوف الألمانيين). وهناك حالة واحدة لا بد من ذكرها وهي حالة الشاعر الإيطالي «أويجنيو مونتاله» الذي لم أستطع أن أورد له نصا واحدا على الرغم من اقتناعي بأهميته في الشعر الحديث. ولا يرجع السبب في هذا إلى قلة النصوص التي وجدتها عنه وعن الشعر الإيطالي الحديث بوجه عام فحسب، بل لأنني لم أستطع أن أتذوق شعره على الإطلاق! وقد كان حظي مع الشعر الإيطالي سيئا في مجموعه، وإني لأرجو أن أعرض هذا في مستقبل الأيام.
أما عن أسلوب الترجمة فقد كنت أطالع مع كل نص أترجمه شبح الحكمة الإيطالية المعروفة: «أيها المترجم، أيها الخائن»! وإذا كانت الترجمة تنطوي حقا على الخيانة فلا بد أن تكون ترجمة الشعر هي الخيانة العظمى. ولقد طالما سألت نفسي وأنا أعمل في هذه النصوص إلى متى أضيف إلى ذنوبي الكثيرة ذنب الترجمة؟ كنت كذلك أسألها كيف نترجم القصيدة - وهي كيان فني مكتف بذاته، ونظام لغوي مرتبط بلغته - بغير أن ننزع منها روحها ونفقدها أهم ما يميزها من نبر وإيقاع وإحساس؟ ثم أجدني أرد عليها بقولي: وكيف نعزل أنفسنا عن التجارب الشعرية عند الأمم المختلفة؟ وكيف نرجو لشعرنا العربي أن ينمو ويتجدد ويستجيب لعقولنا وأذواقنا وهمومنا إذا ظل بعيدا عن التطور الهائل في الشعر العالمي الحديث؟ وكيف نرضى أن تظل أسماء أعلامه بعيدة عن قرائنا؟ أليس من الواجب «توصيل» هذه التجارب إليهم بأي وسيلة مهما كان من عجز هذه الوسيلة؟
Shafi da ba'a sani ba