191

Juyin Wakan Zamani daga Baudelaire Zuwa Zamani na Yanzu (Sashe na Farko): Nazarin

ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة

Nau'ikan

إنه لم يعد يجد الراحة والاطمئنان في الواقع التاريخي أو الموضوعي المحيط به، ولا عاد يشعر بقربه من حقيقة عالية كانت تطل على أسلافه وترعاهم. ولذلك راح يخلق لنفسه عالما جديدا من خياله، ويبدع بالكلمة الشاعرة وحدها مملكة غير واقعية، مملكة تتعمد أن تعلن العداء على كل ما هو مألوف، وتناقض كل ما كان يفوح برائحة الثبات والاطمئنان.

إن الشعر الحديث أشبه بحكاية أو «حدوتة» عظيمة لم تسمع من قبل، ولكنها حدوتة وحيدة شديدة الوحدة. إنه بستان تنمو الزهور فيه، ولكنه يمتلئ كذلك بالأشواك والأحجار والأصباغ الكيماوية وعجائب علم النبات الحديث، وتكثر فيه الثمار، كما تكثر العقاقير والسموم الخطرة. وإذا أراد القارئ أن يتجول في لياليه أو يعيش في جوه المتقلب فلا بد أن يستعد لتحمل أقصى ما يستطيعه من العذاب والشقاء. وإذا أمكنه أن يسمع شيئا فربما سمع في هذا الشعر صوت الحب الوحيد العنيد الذي يرفض أن يستهلكه القراء «والمعجبون»، بل يؤثر أن يضل في المتاهات أو يتحدث في الفراغ على أن يتحدث إلينا أو يتقرب منا. إن القصيدة الواحدة تمتلئ بأطلال الواقع الذي فككه الخيال الجريء ومزقه. ولكن هناك عوالم أخرى غير واقعية تسبح فوقها، وتكون مع تلك الأطلال ذلك السحر الذي يدفع الشعراء إلى تأليف شعرهم.

لقد امتلأت لغة الشعر الحديث كما قدمنا بالأنغام الناشزة والصور المتنافرة، ولكنها ستظل لغة شعرية وإن استعصت على الفهم في معظم الأحيان. إن الشعراء يحسون اليوم أكثر من أي وقت مضى أنهم وحيدون مع اللغة، ولكنهم يحسون كذلك أن اللغة هي ملجؤهم والمنقذ الوحيد لهم. كما يعرف أكثرهم وحدة أنه يتصل على الرغم من كل شيء بنوع من الخلود الذي يمتد إلى الأزل ويتصل بالأبد، وأعني به حرية اللغة وقدرتها المستمرة على أن تبتكر، وتجرب، وتلعب، وتغني فتسحر الأسماع والقلوب.

خاتمة

يتغير الشعر كما يتغير كل كائن حي، ويتجدد

1

على الدوام بمعايير وأساليب جديدة. ولكن لعلنا لا نكون مخطئين إذا قلنا إنه ظل يتحرك بين طرفين؛ بين التعليم من ناحية والسحر من ناحية أخرى. ذلك يؤكد على المعنى والفكرة، ويريد أن ينبه العقل ويرتفع بالنفس ويهذب الضمير ويغير العالم بالموضوع الشريف والحكمة السامية، وهذا يؤكد سحر الكلمة وعذوبة النغم وجمال الإيقاع ويريد أن يوحي ويخلق الجو والانطباع ويهدف في النهاية إلى القرب من مثله الأعلى في الموسيقى أو في الصمت. على أن هذا لا يمنع وجود طرق أخرى عديدة بين هذين الدربين المتباعدين، فالشعراء العظام - مثل هوميروس ودانتي وشيكسبير - قد علموا وسحروا، وأفادوا العقل بقدر ما أسعدوا القلب، ومن حسن حظهم أن الأزمنة التي عاشوا فيها كانت تنتظر من الشاعر أن يكون حكيما ذا نظرة خاصة في الحياة، كما كانت تتوقع منه أن يمتع الأذان والمشاعر بحلاوة النغم وعذوبة الألحان. أما الشاعر الحديث فهو أقل حظا من زميله القديم، لم يعد في مقدوره أن يكون معلما بنفس الدرجة التي كان عليها أسلافه. لقد نازعه العالم في كثير مما كان وقفا عليه، وأصبح الفلكي والجغرافي وعالم النفس والتاريخ والأساطير القديمة ... إلخ؛ يعرفون عن موضوعاتهم أكثر مما يعرف، بل لقد أصبح عليه في مجال الأخلاق أن ينافس الكاهن والشيخ والفيلسوف والصحفي. ما من أحد يسمح له الآن بحقوقه «الشرعية» القديمة؛ إنه مطالب بأن يكون شاعرا فحسب، أما معنى الشعر أو وظيفة الشاعر فأمر لا يعرفه الجمهور ولا يعني نفسه بمعرفتها. ربما يكون هذا أحد الأسباب التي جعلت الشاعر يرتد إلى التصور السحري القديم عن الشعر، ويتحول من جديد إلى ساحر كل قوته في تأثيره على الآخرين؛ أي يتحول إلى ما كان الرومان يسمونه «فاتيس»

2

ويقصدون به الساحر والكاهن والرائد والمتنبئ، والملهم الذي ينطلق بلسان قوة عالية غامضة، أو بالأحرى تنطق هذه القوة بلسانه، وقد ينجح هذا الساحر حقا في النفاذ إلى أعماق النفس البشرية والتعبير عما يستقر في قلوب الكثيرين دون أن يتمكنوا من التعبير عنه. غير أن وظيفته الأساسية تظل هي الإيحاء وإحداث الأثر وتحريك النفوس وامتلاك الأسماع؛ أي السحر بمعناه الشامل. لم يكن هناك أحد أشد إحساسا بهذه الوظيفة المتميزة من طائفة الشعراء التي تسمى خطأ أو صوابا باسم الرمزيين، ابتداء من بودلير ورامبو وفيرلين ومالارميه إلى أتباعهم والمتأثرين بهم أو الثائرين عليهم في القرن العشرين. لقد عاشت هذه الطائفة للشعر وحده، وأراد أصحابها - وكان لهم ما أرادوه - أن يكونوا شعراء فحسب، وأن يكتبوا شعرا خالصا يملك قوة السحر وتأثيره، ويقدم موسيقى الكلمة والإيقاع على الفكرة والمعنى والمضمون، ويعنى بالصنعة والشكل عناية النحات بصياغة تمثاله، ويقف بعيدا عن مطامع المجتمع ومادية العصر وغرور العلم.

وطبيعي أن يكون الشعر الذي اصطلح على تسميته بالشعر الرمزي قد تغير كثيرا على يد الأجيال التي خلفت أولئك الرواد. فقد أخذ يعبر عن تجارب جديدة، واختلف مفهومه عن السحر والصنعة والرمز، واقتحم آفاقا حرمها الرواد على أنفسهم أو حرمتها عليهم نزعتهم الإستيطيقية البحتة، ونزل بعض أصحابه من «برجهم العاجي» إلى الواقع واستخدموا لغة الناس وحاولوا أن يكون الشعر قوة تغير الحياة. أصبح بعضهم معلما ومبشرا بإنسانية جديدة مثل ستيفان جورجه، وبعضهم الآخر نبيا أو ثائرا مثل ألكسندر بلوك، واشتغل فريق منهم بالسياسة مثل وليم بتلر ييتس وجورجه، وغاص فريق في بحار التجربة الصوفية إلى أبعد مما فعل الرواد مثل رلكه وييتس وبلوك في مراحلهم الأولى. غير أنهم ظلوا على كل حال بعيدين أو مترفعين إلى حد كبير، وظلت رؤيتهم بوجه عام رؤية غيبية أو صوفية أو روحانية، وبقيت مثاليتهم مرتبطة بالجمال الخالص البعيد على الرغم مما تناولوه في بعض الأحيان من موضوعات قبيحة أو عادية. ولكنهم قد حافظوا في كل الأحوال على احترامهم الذي بلغ حد التقديس للشعر ورسالته، وأخذوا عملية الخلق مأخذ الجد والتعبد والفناء، وأبقوا على المعنى الذي ورثوه عن الرواد من أن الشعر ضرب من السحر أو السر الملهم الذي يحرك القلوب ويثير الخيال. أي أنه شيء لا سبيل إليه إلا بالإخلاص الكامل في التعبير عن تجربة فردية عميقة متميزة، تجربة نابعة الاختيار الشخصي الحر والإيمان المطلق بالذات الصادقة الجسورة المتفردة والمنفردة معا.

Shafi da ba'a sani ba