Juyin Wakan Zamani daga Baudelaire Zuwa Zamani na Yanzu (Sashe na Farko): Nazarin
ثورة الشعر الحديث من بودلير إلى العصر الحاضر (الجزء الأول) : الدراسة
Nau'ikan
فهذه الأشياء التي تذكر واحدة بعد الأخرى دون أن تكون بينها علاقة؛ لم يهدف إليها الشاعر في ذاتها بل أراد أن تكون علامات على النفي والرفض والتهشيم والتحطيم، وبذلك تكون في نفس الوقت علامة على القلق الذي لا تذكره لغة القصيدة بل توحي به وتخلقه.
وهكذا نستطيع أن نقول بوجه عام - وإن كان التعميم شيئا كريها!- إن الشاعر القديم كان يسعى للاتصال بالعالم والناس وكانت نفسه تريد أن تألفهما وتقترب منهما، سواء نجحت في ذلك أم خاب أملها فيه.
ونحن في حياتنا اليومية نصف أشياء كثيرة بالشاعرية، فنقول مثلا عن مكان خال - مهما يكن فقره وبؤسه - إنه شاعري، أو نصف وجها عجوزا معبرا أو حفلا بهيجا بأنهما شاعريان؛ فنفهم في كل الأحوال أن هناك صلة ود بين النفس وبين ما تراه من الظواهر الحسية الخارجية تجعلها تسكن إليها وتأنس بها. أما في الشعر الحديث فالأمر مختلف.
فالشاعر يتعمد أن يجعل المألوف غريبا والقريب بعيدا! وكل من يقرأ لكبار الشعراء المعاصرين يخيل إليه أن هناك قوة خفية تدفعهم دفعا إلى تحطيم الصلة بينهم وبين العالم أو بينهم وبين غيرهم من الناس، ومن يتابع الرواية الحديثة يلاحظ أيضا أن أسلوبها يحرص على هذا الإغراب وقطع الصلة بين الناس والأشياء أو بينهم وبين بعضهم البعض، ابتداء من روايات فلوبير الأخيرة إلى روايات وأقاصيص هيمنجواي وألبير كامي والروائيين الجدد. وكأنها تحرص على إبراز التضاد بين الإنسان والعالم أو بينه وبين الناس عن طريق تفتيت الحدث إلى وحدات منفصلة لا تجمع بينها رابطة سببية، أو حذف الروابط في العبارة ووضع الكلمات إلى جانب بعضها البعض كأنها كتل متنافرة لا تدخل في سياق أو معنى عام.
ولقد سمعنا جميعا بالضجة التي أثارها برتولت برشت وناقدوه منذ العشرينيات باصطلاحه المعروف عن «الإغراب» الذي جعله شعارا لنظريته في المسرح الملحمي. كما وجدنا شاعرا كبيرا مثل أبوللينير يتكلم قبل موته بقليل عن «المناطق الغريبة» التي ينتظر أن ينطلق الشعر إليها.
يقول الكاتب الروائي النمسوي «روبرت موزيل»: «إن الشاعر يحس حتى في الصداقة والحب بأنفاس الكراهية والتقزز التي تبعد الكائنات عن بعضها البعض» والشعور بأن قرب الإنسان من الإنسان هو في حقيقة الأمر بعد عنه، يكاد أن يكون موضوعا ثابتا من موضوعات الشعر الحديث.
فقصيدة «أغنية» للشاعر الإيطالي «أنجارتي» (راجع النصوص) تنتهي بحزن (غير عاطفي!) يعبر عنه قوله: إن الحبيبة بعيدة كما لو كانت في مرآة، وإن الحب يكشف عن «القبر اللامتناهي» للعزلة الباطنة. ولوركا يقول في إحدى قصائده: «ما أبعدني حين أكون قريبا منك! وما أقربني حين أكون بعيدا عنك!» والشاعر الألماني كارل كرولوف يقول في «قصيدة حب» (1955م) التي تجدها فيما بعد: «هل ستسمعينني خلف الوجه المعشوشب للقمر الذي يتفتت؟ والليل يتكسر كالصودا، أسود وأزرق.» وكأن هذه الصور الصلبة وهذا التحطم والتناثر والانكسار يعبر عن فشل محاولته للقرب من الحبيبة كما يعبر عن خلاصه المنتظر على يد اللغة الشاعرة الخلاقة، وهو في الواقع خلاصه الوحيد.
ونجد في قصيدة أخرى للوركا (تجد مقتطفات منها في هذه المجموعة) كيف يتحول بعد الأموات - وهو شيء طبيعي - إلى بعد مطلق. والجزء الأخير من قصيدة لوركا هذه عن مصارع الثيران سانشيز ميخياس (1935م) يحمل هذا العنوان «نفس غائبة». إنه لا يذكر الميت ولا الموت بكلمة واحدة وإنما يقول: «إن أحدا لم يعد يعرفه، لا الثور ولا الخيل والنمال في بيته، ولا الطفل والمساء، ولا الحجر الذي يرقد تحته. لقد صار بعيدا عنه بحيث لا يستطيع التذكر نفسه أن يصل إليه. لكنني أغنى باسمك.» غير أن هذا الغناء لا يجدي أيضا؛ فالشاعر الذي غلبته الوحدة واليأس من الوصول إلى الصديق البعيد لم يعد يملك إلا أن يغني عن النسيم الحزين الذي يسري بين شجيرات الزيتون.
وقل مثل هذا عن قصائد رافائيل ألبرتي التي نشرها في سنة 1929م بعنوان «عن الملائكة» والتي تجد مختارات منها في هذا الكتاب.
فالملائكة التي يتحدث عنها الشاعر - كالملائكة التي تحدث عنها رامبو - ليس لها أي معنى ديني. إنها كائنات «خرساء كالأنهار والبحار»، خلقها خيال شاعر وحيد. هناك صراع درامي خفى يدور بينها وبين الإنسان وينتهي إلى انقطاع كل أمل في الاتصال بينهما. فالإنسان يعلم أن الملاك موجود، غير أنه لا يراه، ولا النور يراه، ولا الريح وزجاج النوافذ تراه، والملاك أيضا لا يرى الإنسان ولا يعرف المدن التي يسير فيها، لأنه بلا عيون، ولا ظلال، ولأنه «يغزل الصمت في شعره»، وما هو إلا «ثقب وحيد رطب، ونبع جف الماء فيه». لقد مات بيننا نحن البشر، أضاع المدينة وأضاعته. ومع أن من الصعب تفسير هذه القصائد (التي وصفها البعض خطأ بالسيريالية)، إلا أن الرمز الذي تدور حوله لا يستعصي على الفهم، لقد كانت الملائكة دائما كائنات نورانية مباركة، سواء أرسلت إلى الناس لتبشرهم بنعمة الله أو تنذرهم بغضبه ونقمته. كان الإنسان يحس صلة بينه وبينها ، وكان يشعر أنه ليس وحيدا في هذا الكون، وأن هناك كائنا علويا يرعاه ويتذكر وجوده على الأرض البائسة. غير أنه يبدو أن الملائكة التي يصورها الشاعر قد سئمت الإنسان فلم تعد تعرفه أو تهتم بشأنه، بل ولم تعد تذكر منه إلا صورا للقبح والفساد والفناء.
Shafi da ba'a sani ba