فقالت فينوموس: لله درك من سياسي محنك، تستنبط الفوضى الكبرى من الأنظمة الصغرى، إنك لصانع معجزة هي أغرب من لغز أبي الهول، فكيف حللت هذا اللغز؟! - ضربة واحدة على المقتل يا سيدتي حلت اللغز، وهل ثمة مقتل أضعف من الدماغ، مهما تكن الضربة هناك ضعيفة فهي تصرع. وماذا في الرأس غير العقيدة؟! لقد ضربت العقيدة ضربة واحدة فتفتت إلى عقائد، وبتفتتها انقسمت الأسرة الإنسانية إلى أقوام تزعم كلا منها زعيم، وكل زعيم يزعم أن عقيدته محض الحق والصواب، بل هي الشرط المستقيم المؤدي إلى النعيم الأبدي، وبهذه الدعوى أخذ كل زعيم يستفز قومه للجهاد في سبيل العقيدة التي يدينون بها، ومن هنا كان منشأ النزاع.
لقد كان لبني آدم إله واحد، ولكنهم بهذا الانقسام أصبحوا ولهم آلهة عديدة حجبت عنهم ذلك الإله القوي الجبار، كما تحجب السحب الشمس، الشمس تملأ رحاب الكون نورا ولكن الذين تحت السحب لا يرونها، بيد أنهم كانوا يغالطون أنفسهم ظانين أنهم يرونها وما هم راءون إلا أوهامهم وغيهم الذي فيه يعمهون.
وكان الملكوت السماوي ميراثا للنوع البشري كله، فلما تفتت الأسرة البشرية بتفتت عقيدتها صار كل زعيم يدعي الملكوت لقومه وحدهم، فراحت الأقوام وهي على الأرض تتنازع مملكة السماء، ويقاتل بعضها بعضا لامتلاكها، حتى إذا غلبت أمة أمة أخرى احتلت الملكوت، ونصبت رايتها فيه، وطردت الأمة المغلوبة منه.
فالجنة التي أعدها الله في السماء، وجعل الأنهار تجري من تحتها، واصطفى لها الأبرار من عباده، أنزلها العباد إلى الأرض، وجعلوها ساحات للوغى تجري فوقها الدماء.
والملكوت السماوي الذي ملأه الله منازل لقديسيه اغتصبه وكلاؤه الأرضيون المزعومون، وعرضوه للمساومة في سوق البيع والشراء.
فقالت فينوموس ضاحكة: أما قيل كما في السماء كذلك على الأرض؟ وكان الأصوب أن يقال كما على الأرض كذلك في السماء. - لكلا القولين مفاد واحد يا سيدتي؛ لأن تقسيم ملكوت السموات حصصا للعباد ألهى حمير العامة عن تقاسم الخاصة الملكوت الأرضي، ففيما كان وكلاء الله من كهان وحكام يتناهبون أمتار الأرض، كان حميرهم منهمكين بتقاسم أشبار السماء، والمحبة التي أقامها الله ناموسا للإنسانية أطلقها عباده على البهيمة، فإذا بها تصبح ثوبا قشيبا للرثاء، وإذا بحبل المحبة الذي يربط القلوب يصبح في أيدي الأسياد قيدا لإرهاب العبيد وسوطا لتعذيبهم، وإذا بالتسامح يصبح تمثالا والمغفرة جمرة حقد.
ولكن مهما طال الشتاء فالصيف وراءه يطارده، والسحب لا تستطيع الثبات تحت حر الشمس، فانقض الشتاء وانقشعت سحب الغباوة، وامتدت شمس المعرفة تجلو الحقائق ...
فانبرى صاحب الصولة فيرومارس قائلا: ويحك! حديثك ينذرنا بالفشل؛ لأن المعرفة خير يمحق الشر الذي نحن جنوده.
فأجاب صاحب الحنكة ميديوموس: مهلا مهلا يا صاح، لقد سبق حديث سيدتنا ربة الدهاء أن الخير والشر توءمان منذ الأزل، لا ينفصل أحدهما عن الآخر، فإذا لم يكن ثمة خير ونحن جنود الشر فمن نحارب؟! - إذن، ماذا نفعل حين تمحق حرارة شمس المعرفة سحب الغباوة فتنجلي الحقائق؟! - إن زفرة واحدة من أنفاسي ملأت الفضاء قتاما، جعل أشعة الشمس الذهبية حمراء كالدماء. - لله درك، أما كان في وسعك أن تجعل ذلك القتام كثيفا يصد أشعة الشمس صدا ويعيد الظلمة إلى سطح الأرض، فتغيب المعرفة وتبقى الغباوة. - متى ظهرت المعرفة وانجلت الحقائق، عندئذ لا تستطيع قوة أن تقصيها عن فضاء العقول، فليس لي إذن إلا أن أستخدم المعرفة نفسها سلاحا لي لا سلاحا علي.
احمرت صفحة الشمس غضبا لمكر الذين عاثوا في الملكوت فسادا، وإذا أولئك الحمير العميان قد انفتحت أعينهم، وجعلوا يتبينون الملكوت في الكون، فإذا هم لا يرون ملكوتا لا في السماء ولا في الأرض.
Shafi da ba'a sani ba