Al'adunmu a Fuskantar Zamani
ثقافتنا في مواجهة العصر
Nau'ikan
ومن هذا الخطأ المزدوج ترتبت عندنا - في ثقافتنا العربية الحديثة - نتائج، منها أن قادة التعليم الجامعي في بلادنا، اشترطوا دراسة اليونانية واللاتينية، كأنما هما لازمتان لا غنى عنهما لمن أراد أن تتكامل ثقافته، وكأنهما لم تكونا إبان النهضة الأوروبية لصيقتين بطبيعة الثقافة الأوروبية عندئذ، في خروجها من ضيق العصور الوسطى إلى رحابة العصور الحديثة؛ ومن تلك النتائج أيضا أن قر في أذهاننا أن القيم الإنسانية العليا لا تصاحب العلوم الطبيعية، ما دام قادة المذهب الإنساني في أوروبا إبان نهضتها قد أغفلوا تلك العلوم من الصورة المثلى، وكأنما إغفالهم هذا لم يكن صدفة محضة، بل كان ضرورة حتمية تدوم مع العصور جميعا؛ ولهذا أصبح مألوفا على ألسنة المتكلمين وأقلام الكاتبين، أن نسمع وأن نقرأ بأن المغالاة في العلوم الطبيعية على حساب الدراسات الإنسانية قد يكون مفسدة لكياننا الإنساني! ونريد بهذا الحديث بيان الخطأ في هذين الموضعين.
أما عن دراسة اليونانية واللاتينية؛ فأحب أن أجعلها واضحة منذ البداية. إن موضوع الحديث هنا ليس هو ضرورة هذه الدراسة من حيث إن هاتين اللغتين أصل ثقافي، لا بد من دراسته إذا أردنا أن ندرس فروعا كثيرة أخرى، كالفلسفة والقانون الروماني، بل إذا أردنا أن نكون على علم من الداخل بالمصطلح العلمي في فروع العلوم الطبيعية جميعا؛ فدراسة هاتين اللغتين ضرورة ليس لنا حيالها اختيار؛ لكن موضوع الحديث هنا هو السؤال عما إذا كانت دراسة هاتين اللغتين، وما كتب بهما من تراث يوناني وروماني، ضرورة تقتضيها النظرة «الإنسانية»، كما كانت الحال في نظر النهضة الأوروبية. والرأي عندي هو أن ما قد عد ضرورة إنسانية في أوروبا النهضة - وفي إيطاليا بصفة خاصة - إنما عد كذلك للصلة الشديدة التي كانت تربط الثقافة الأوروبية بسالفتيها من يونانية ولاتينية، فإذا أرادت تلك الثقافة أن تتنفس الهواء الطلق، بعد أن فكت عن خناقها قبضة اللاهوتيين إبان العصور الوسطى؛ فأين كانت لتجد ذلك الهواء الطلق تتنفسه إلا في تراثها، ولا سيما أن ذلك التراث يحمل في حصائله كل ما كان ينقص الإنسان الثائر على القيود، من قيم الحركة الفكرية، وحب الحياة؟!
فإذا أردنا نحن اليوم أن نصنع الصنيع نفسه، بأن نتيح للإنسان ثقافة تمكنه من اكتساب القيم الإنسانية التي ينشدها، فإنما يتحقق لنا ذلك، لا بضرورة التوسع في دراسة اليونانية واللاتينية، بل بضرورة الاستعانة بتراثنا نحن، كما استعانت أوروبا النهضة بتراثها؛ وبذلك تتحقق الموازاة بين الموقفين.
أقول ذلك عابرا، بعد أن لم تعد مسألة اليونانية واللاتينية قضية تشغل الأذهان، كما كانت تشغلها في الثلاثينيات؛ فقد راجعت ما قاله أستاذنا الدكتور طه حسين في كتابه «مستقبل الثقافة في مصر » (1938م)، وقد خصص للحديث في هذا الموضوع فصلا كاملا (من صفحة 275 إلى صفحة 299، في الجزء الثاني من الكتاب)، يعرض فيه رأيه في ضرورة اليونانية واللاتينية لا في تعليمنا الجامعي وحده، بل في التعليم الثانوي كذلك، ما دام هذا التعليم الثانوي مرحلة مؤدية إلى المرحلة الجامعية؛ وقد خيل إلي أن أستاذنا في دفاعه الحار، لم يقصر أهمية تلك اللغتين على كونهما مادتين دراسيتين بين المواد الدراسية الواجب قيامها في المدارس والجامعات، بل جاوز ذلك ليجعل لهما مكانة أخرى ممتازة، تشبه المكانة التي كانت لهما عند أنصار الدعوة «الإنسانية» في تاريخ أوروبا الحديث، يقول: «وأنا مؤمن أشد الإيمان وأعمقه وأقواه، بأن مصر لن تظفر بالتعليم الجامعي الصحيح، ولن تفلح في تدبير بعض مرافقها الثقافية المهمة، إلا إذا عنيت بهاتين اللغتين، لا في الجامعة وحدها، بل في التعليم العام قبل كل شيء»، ويقول أيضا: «إن التخصص في أي فرع من فروع الدراسات الأدبية، التخصص الصحيح، لا سبيل إليه إلا إذا استعد الطلاب له بمعرفة اللاتينية دائما، واليونانية أحيانا، فلا بد أن يهيأ الطلاب في المدارس العامة لهذا التخصص» (يقصد في المدارس الثانوية).
وإني لأقرن هذا الاهتمام كله من أستاذنا - وربما كان لذلك الاهتمام مبرراته في حينه - أقول إني لأقرن اهتمام أستاذنا بما ليس له صلة وثيقة مباشرة بحياتنا الثقافية، أقرنه برأي للفيلسوف الأمريكي «رالف بارتون بري» - وقد كان أستاذا للفلسفة في هارفارد معظم حياته العاملة، بل وبعد أن بلغ سن التقاعد سنة 1946م، إلى أن توفي منذ قريب - إذ يقول في كتابه «إنسانية الإنسان» ما ترجمته: «لقد كان حدثا تاريخيا عارضا هنا أن الماضي الذي شعر نحوه أصحاب المذهب الإنساني الإيطاليون في القرنين الرابع عشر والخامس عشر، بذلك الإجلال العظيم، هو عصر الحضارة اليونانية الرومانية؛ كان هذا تاريخهم هم بالمعنى المزدوج، فقد كان بالنسبة إليهم ماضيهم المباشر الذي ارتبطوا به بالاستمرار الثقافي، بينما كان الأدب اللاتيني أدبهم القومي، وكانت اللغة اللاتينية لسان أجدادهم، إلى جانب كونها اللغة المتواضع عليها للعالم المثقف؛ أما الثقافة اليونانية فإنها كانت قد غزت الثقافة الرومانية، ولم يتطلب إحياء اللغة والأدب اليونانيين إلا متابعة النهر إلى منبعه، غير أن المعنى الذي كانت تحمله اليونانية واللاتينية لأصحاب المذهب الإنساني الإيطاليين، لم يعد يحمل المعنى نفسه لأي مكان آخر أو زمان».
وأكرر القول بأن الاعتراض هنا ليس موجها إلى دراسة اليونانية واللاتينية من حيث هما، وباعتبارهما جزءا من التراث الإنساني الذي لا بد من دراسته، بل هو موجه إلى أي اتجاه يريد أن يجعل منهما النبع الأساسي الذي نستمد منه قيمنا الإنسانية، إذا ما أردنا أن ننشئ للإنسان العربي الحديث شخصية متكاملة؛ إذ النبع الأساسي لهذا الإنسان العربي، هو المقابل العربي للتراث اليوناني اللاتيني بالنسبة لأوروبا، أعني أنه هو التراث العربي بما يحمله من قيم.
3
ذلك هو أحد الخطأين اللذين تورطنا فيهما مع من تورط، ممن جعلوا نموذج المذهب الإنساني الذي ينشد للإنسان أن يكون هدفا مقصودا لذاته، حرا في تفكيره، متحررا من قيوده، مستمتعا بحياته الدنيا؛ أقول ممن جعلوا نموذج هذا المذهب الإنساني هو ما أعلنه أنصار ذلك المذهب في أوروبا إبان نهضتها، فنقلوا عنهم حرفا بحرف، فإذا كان هؤلاء الأنصار قد عادوا إلى التراث الكلاسي ليحرروا الإنسان من نير العصور الوسطى؛ فلا بد لنا كذلك أن نعود إلى هذا التراث الكلاسي نفسه؛ على حين أن العبرة هي في «التراث» - ولكل تراثه - لا في ضرورة أن يكون ذلك التراث هو اليوناني الروماني دون سواه.
أقول إن ذلك هو أحد الخطأين، وأما الخطأ الثاني فهو أن نتورط مرة أخرى فيما فعله رجال النهضة الأوروبية، عند عودتهم إلى المذهب الإنساني بعد ظلام العصور الوسطى، وهو أن يغفلوا العلوم الطبيعية من حيث هي مصدر للقيم الإنسانية التي تجعل من الإنسان إنسانا؛ فكلما توسعنا في العلوم الطبيعية بغية إقامة حياة جديدة تساير العصر الحاضر في علمه وصناعته؛ أشفق المثقفون، خشية أن يكون ذلك التوسع مؤديا إلى جدب في القيم الإنسانية، على اعتبار أن هذه القيم تنشأ - أكثر ما تنشأ - من «العلوم الإنسانية» كالتاريخ والفلسفة ودراسة اللغة والأدب.
ونريد هنا أن نؤكد ما يصحح هذا الخطأ، بأن لا تعارض بين العلم الطبيعي والمذهب الإنساني؛ بل إن رجال النهضة الأوروبية أنفسهم - الذين نتخذهم نموذجنا في الدعوة الإنسانية - لم يعارضوا بين العلم الطبيعي والقيم الإنسانية، لم يقولوا إن هذه القيم لا تنشأ عن ذلك العلم، وهم إذا كانوا في دعوتهم الإنسانية قد أغفلوا العلم الطبيعي؛ فذلك لأن هذا العلم كان قد ولد لتوه في الحضارة الأوروبية قويا مكينا على أيدي جاليليو وكوبرنيق ونيوتن وغيرهم، فلم يكن بحاجة إلى من يؤكد ضرورته، وهو الوليد القوي الذي ولد من الثورة على القرون الوسطى؛ ليكون فجر العالم الجديد.
Shafi da ba'a sani ba