Al'adunmu a Fuskantar Zamani
ثقافتنا في مواجهة العصر
Nau'ikan
فلما وقف نفر من أعلام الرياضة وأعلام المنطق خلال القرن الأخير، وقفتهم التي أرادوا بها أن يزدادوا تحليلا وفهما للعلاقة بين الرياضة والمنطق، وقعوا على هذا الكشف العلمي الخطير، وهو: أولا: أن أسس الرياضة (كفكرة العدد) يمكن تحليلها بأسرها إلى مفهومات من النوع الذي يتناوله المنطق بالدراسة، وثانيا: أن المنطق بدوره يمكن أن يقام له بناء جديد يقوم على الأسلوب الرياضي، بمعنى أن يقنن جهاز من الرموز تدار في إطاره عمليات الاستدلال، تماما كما تفعل الرياضة، حتى لا يتعثر الفكر بما تشتمل عليه ألفاظ اللغة العادية من مشحونات غامضة، وبهذا نكون قد ضممنا عالمي التفكير: التفكير فيما هو «كم» والتفكير فيما هو «كيف» في جهاز رمزي واحد، وهذا هو ما يحاوله أصحاب الفكرة الجديدة في تدريس الرياضة على أسس المنطق الرمزي.
أنكون قد شطحنا بالقارئ إلى سماء التجريد أكثر مما ينبغي؟ قد نكون، لكننا لن نأمل في إصلاح فكري إلا إذا تناولنا علة الفساد من جذورها، فالفكر العربي ما يزال إلى يومنا غارقا في ضروب من الفكر عتيقة ذهب زمانها، ولم يعد لها أثر عند قادة الحضارة العلمية الراهنة، وذلك من وجهين على الأقل؛ أحدهما: أنه ما يزال يضمن في تفكيره عن الكائنات أنها ثوابت في طبائعها، كأنما لكل كائن «جوهره» الذي لا يتغير مع الزمن، مع أن عصرنا - كما أسلفنا - قد استبدل بهذه الفكرة فكرة أخرى، وهي أن الكائن المعين أو الموقف المعين إنما هو «نمط من علاقات»؛ أي إن وجه الثبات هو في صورة البناء، لا في المضمون الذي يملأ تلك الصورة، إذ قد يتغير هذا المضمون مع ثبات الصورة، فيبقى للشيء ثباته ودوامه، وثانيهما: أنه (أعني الفكر العربي) لا يكاد يعبأ عند قبوله الأفكار التي تعرض عليه، بأن ينظر ليرى إن كان في دنيا الواقع «مفردات» تؤيدها؛ ليكون على استعداد لرفض أي فكرة لا يجد لها وسيلة للتطبيق.
أما عن الوجه الأول فانظر في حياتنا الاجتماعية كيف كان لوقفتنا المخطئة أبلغ الأثر، ويكفي أن نسوق مثلا واحدا: النظم الاجتماعية بما في ذلك النظم السياسية، فانظر إلى بلد أشرب أهله باللفتة الفكرية الجديدة، تجدهم هناك على عقيدة راسخة بأن الجانب الثابت من النظم الاجتماعية والسياسية هو بنية الإطار، وأما الأفراد أنفسهم فيجيئون ويذهبون، فليست العبرة بأشخاص الرجال في ذواتها، بل هي في الدور الذي يؤدونه في المجموعة المنغومة التي هم أعضاؤها؛ ولذلك فقد يجيء حاكم ويذهب حاكم، لكن إطار الحكم نفسه باق وثابت، إن الديمقراطية أو الدكتاتورية أو أي نظام سياسي شئت، إنما هي «تركيبة» معينة، إذا بقيت على طريقة بنائها بقيت صورة الحكم كما هي، مهما تبدل عليها أشخاص الحاكمين، قل مثل ذلك في مؤسسات التجارة والصناعة وغيرها من منظمات المجتمع المتطور، تجدها هناك قادرة على البقاء عشرات من السنين متوالية؛ بسبب أن أصحابها يحافظون على «كيانها» الذي بنيت على أساسه، برغم تبدل الأشخاص الذين يتولون أمورها، الأمر في كل هذا كالأمر في فريق الكرة - مثلا - حيث يكون الجانب المهم فيه هو الدور الذي يؤديه الفرد الواحد في موضعه من التكوين الجماعي، وليس هو أنه فلان بن فلان من الأسرة الكريمة الفلانية، إن المجتمع الحديث هو مجتمع من نظم قبل أن يكون مجتمعا من أفراد، وليس في ذلك حيف على الفرد، ما دمنا نفهم الفرد على أنه عضو في جماعة .. قارن كل هذا بما هو شائع في حياتنا، تجد الوزن كله - أو معظمه - في شخصية الفرد من حيث هو فرد، لا يربط علائقه بالنظام الذي هو عامل فيه بقدر ما يربطها بالأسرة التي جاء منها، المهم عندنا هو «من هذا الرجل؟» لا «أين موقع هذا الرجل من البناء الاجتماعي وماذا يؤديه؟» ولا غرابة أن نجد النظام - كائنا ما كان، سياسيا أو اجتماعيا أو تربويا أو غير ذلك - ليس له الأهمية الأولى بحيث يدخله الأفراد ليخدموه ثم يذهبوا عنه وهو أكثر رسوخا، بل إننا لنجد عندنا أن أيسر الأمور علينا هو أن يتحطم النظام القائم على يدي كل قادم جديد، ليقيم هذا القادم الجديد نظامه الخاص؛ إمعانا منه في توكيد شخصه هو على حساب أي بناء اجتماعي أو سياسي قائم.
وأما عن الوجه الثاني، الذي هو مراجعة القول على وقائع العالم، فحدث في أمره وليس عليك من حرج؛ لأنك مهما أسرفت فلا مبالغة فيما أسرفت به، فإننا أمام الأقوال لفي غيبوبة المنتشي بخمر، فننسى أن القول إنما يقوله صاحبه - في ميادين الجد - ليعني به شيئا من مفردات الواقع، ننسى ذلك إلى الحد الذي قد يميل بالرأي العام بين المثقفين - ودع عنك جمهور الناس - إلى ازدراء من يطالبهم بأن يكون معنى الكلام في دنيا التطبيق والعمل .. وإن الحديث في هذه الآفة ليطول، فإذا كان قادة الحضارة في عصرنا مشغولين «بالتكنولوجيا»، فنحن مشغولون - كما قلت مرة في إحدى المناسبات العامة - ب «الكلامولوجيا».
ألا إن في عصرنا لفكرا جديدا، ولهذا الفكر الجديد منطق جديد، فإما قبلناهما في شجاعة من أراد لنفسه مسايرة زمانه ، أو رضينا بالتخلف الفكري في غير شكاة ولا ضجر.
دماغ عربي مشترك
كنت أستطيع أن أجعل العنوان «عقل عربي مشترك»، أو «فكر عربي مشترك»، أو ما يشبه هذا؛ لأضمن به لفظا مألوفا، لكني تعمدت الإشارة إلى «الدماغ»؛ لأنه هو العضو الذي يجيء العقل أو الفكر وظيفة له، كما تكون العين عضوا والبصر وظيفته، والأذن عضوا والسمع وظيفته، وهلم جرا، والجانب المفقود في حياتنا الثقافية العربية - فيما أرى - ليس هو الوظيفة بقدر ما هو العامل الذي يعضونها في كيان؛ إذ قد نجد قطرات من «الفكر» مبعثرة هنا وهناك، في الكتب والصحف، لكنها تفتقر إلى «العضو» الذي يجمع أشتاتها في تيار واحد متجانس الطبيعة والهدف، برغم ما قد يكون فيه من كثرة وتباين، ولو كانت حياتنا الثقافية مكتملة النماء لجاءها توحيد الأجزاء من أعصابها وشرايينها، ولكنها ليست كذلك، فأصبح حتما أن نصطنع لها جهازا يوحدها حتى تسترد العافية.
وإننا إذ نبحث لأشلائنا الفكرية عن شريان يجعل منها كائنا حيا حساسا لما حوله، مستجيبا له على النحو الذي يكفل له البقاء والقوة، فإنما نساير عصرنا في صفة لعلها أبرز ما يميزه من صفات، فبينما غلبت على العصور السابقة نزعة فسيفسائية في بناءاتها الفكرية، ترى عصرنا أميل إلى دمج الأجزاء المنفصلة في تيار متصل، وهذا هو نفسه الفرق بين طريقتين في التفسير: التفسير بنظرة آلية تجاور بين الأجزاء ولا تسكبها في تيار، والتفسير بنظرة حيوية عضوية تسيل الأجزاء في خط موصول، النظرة الأولى سكونية في أساسها، والثانية حركية، فلو أمعنت النظر في الفكر الأوروبي خلال القرنين السابع عشر والثامن عشر (ولتذكر جيدا أن أوروبا هي القابضة على زمام الحضارة خلال الخمسة القرون الأخيرة، أحببنا نحن ذلك أم كرهناه، ثم أضيفت إليها الولايات المتحدة أخيرا)، أقول: إنك لو أمعنت النظر في الفكر الأوروبي خلال الفترة التي سبقت عصرنا، وجدته نابعا من أساس مشترك، هو تحليل الكل إلى أجزائه؛ بحيث لا يجعلون من الكائن - أيا ما كان - أكثر من حاصل جميع أجزائه ؛ «فالعقل» مثلا هو مركب قوامه مجموعة انطباعات حسية، تظل تتجمع داخل رءوسنا وتتشكل في طرائق تركيبها، فينشأ منها «الأفكار» من أدناها إلى أعلاها (راجع فلسفة هيوم)، و«المكان» مجموعة نقاط، و«الزمان» مجموعة لحظات، و«العالم» كله مجموعة عناصر أولية، و«الإنسان» نفسه - كأي كائن حي - مجموعة أعضاء تعمل معا كما تعمل أجزاء المكنة، وعلى أساس هذه النظرة التحليلية ظن رجال الفكر عندئذ أن عناصر الوجود كله أو مكوناته الأساسية قد يتصل بعضها ببعض، أو ينفصل بعضها عن بعض، فيتكون باتصالها أو بانفصالها تلك الظواهر الطبيعية المعينة، أو ذلك الكائن المعين من الكائنات، أما الكون في مجموعه فهو دائما ذو حاصل واحد، لا يزيد جزءا ولا ينقص جزءا، وإذا جاز لي أن أشبه الموقف الفكري عندئذ بتشبيه يقرب الصورة إلى الأذهان، قلت إن الأمر كان كما لو كان عندك ورقة نقدية بعشرة دنانير، هي كل ما لديك من مال، تستطيع أن «تفكها» - أي تحللها - إلى آحاد أو إلى قروش، أو إلى قطع من ذوات العشرة القروش، على ألا يزيد المجموع النهائي دائما عن عشرة، مهما تنوعت الصورة التي تضعها فيها من صنوف النقد المتاحة.
ذلك ما قد كان عليه تصور الناس لطبيعة الكون ولطبيعة الإنسان ولطبيعة الفكر والفن، فجاء عصرنا ليغير هذا التصور من أساسه، وذلك بأن أحل محل الكل الثابت الذي لا ينقص ولا يزيد، صورة أخرى للكون وللطبيعة ولعالم الأحياء - ومنه الإنسان - تجعل الكل ناميا أبدا، متطورا أبدا، فهو أبدا يزداد اتساعا ويزداد غزارة وحصيلة، ولقد اقتضت هذه الصورة الجديدة عدة نتائج، منها أن الشريحتين المتعاقبتين من الزمن، وإن تساوتا رياضيا فلن تتساويا في كثافة الخبرة وغزارتها؛ لأن الشريحة التالية في الترتيب لا بد بالضرورة أن ترث حصيلة الشريحة السابقة، ثم تضيف إليها ما قد استحدثته هي بفعل النمو والتطور، ومن النتائج كذلك - وهو ما يهمنا هنا في سياق حديثنا الراهن - أن تكون الأجزاء في أي كيان تختاره للنظر، متلاحمة بعضها في بعض ليتكون منها سيال واحد، فإذا أنت فككت هذا التيار الدافق إلى قطراته، كما تنثر حبات العقد، بطل أن يكون كائنا حيا ناميا، وبالتالي فاتت عليه فرصة النمو والتطور وبلوغ النضج والإثمار.
وعلى هذا الضوء المبدئي العام، نعود فننظر إلى موضوع حديثنا هذا الخاص، وهو حالة العقل العربي اليوم، فنقول إنه إذا ثبت صدق ما أزعمه له، وهو أنه حتى على فرض أن هنالك جملة أفكار تنبت على أرضنا هنا وهناك فهي أفكار مفرقة مجزأة، مرصوص بعضها إلى جوار بعض - على أحسن الفروض - لكنها غير مترابطة معا في كيان عضوي واحد، وإذن فلا أمل لها - إذا بقيت على هذه الحال - في أن تسعفها عوامل النمو والنضج والإثمار، ما لم ينشأ لها ما يقابل «الدماغ» من الجهاز العضوي في الفرد الواحد.
Shafi da ba'a sani ba