Maza Uku da Mace Daya
ثلاثة رجال وامرأة
Nau'ikan
1
لم يكن أحد يعرف عمر جبران، ولكن الذين استوطنوا أبا قير كانوا يستطيعون أن يخبروك أنهم جميعا جاءوا في أوقات شتى فألفوه هناك، كأنما كان بعض وجوه الأرض، وأنه منذ عشر سنوات، أسن من أن يعمل عملا، وقد يبالغ بعضهم فيقول: إنه هو والبحر توأمان، ولعله هو كان أجهل الناس بسنه؛ فقد ولد قبل أن تعرف شهادات الميلاد، وكان هو إذا روى ما وقع له في شبابه يرده تارة إلى عهد إسماعيل، وتارة أخرى إلى عهد عباس الأول، وتتفاوت سنه في الرواية الواحدة بين خمس عشرة وخمس وعشرين أو ثلاثين، وتلك مسافة من العمر لا تعين على ضبط الحساب.
غير أنه - على تخبخب جلده، وذهاب أسنانه، وضموره وانحنائه - لم تخب عينه ولم تغرورق من الكبر، وكانت فيه بقية جلد، وكان يستطيع أن يمشي وحده، مضطربا، ولكنه ما كان يقعد أو ينهض إلا بمعونة.
وقد قضى حياته كلها في الإسكندرية، ورملتها، ولم يتعلم القراءة والكتابة، ولم يركب قط قطارا أو تراما، أو سيارة، ولكنه على هذا رأى ووعى ما لم ير غيره ممن جابوا الأرض وركبوا البحر، فكان على فقره غنيا.
وكانت له عين سريعة الفطنة إلى الجمال في مظاهره جميعا، فلا عجب إذا كان غنيا، وقد ناهز المائة إذا صح حساب الحاسبين، وفي صباح كل يوم من أيام هذا العمر المديد كان يرقب ميلاد هذا المشهد الجليل الذي يتكرر ولا يسأم على ساحل بحر الروم، ويتأمل اختضاب البحر بأشعة الشمس الطالعة، ثم زرقته السحرية عند الظهيرة، وخضرة الحقول السندسية والظلال الواضحة التي يلقيها كل ذاهب في الهواء، وفي كل مساء كان يشهد آية الغروب ويرقب غموض أسطورتها واستسرارها.
وكان كلما ارتفعت به السن، وقعد به الكبر، يزداد حبا لهذه المشاهد التي لا تتغير كالإنسان، ولا ينقص جمالها أو يعدو الزمن على جدتها كما يعدو على السفائن والثياب والبنى، حتى النساء لم يعد لهن في نظر جبران ما كان لهن من ظرف ورشاقة، وفتنة وإغراء في شبابه.
وهكذا صار جبران لا يصلح لشيء، إلا أن يأخذ بيده واحد من حفدته إلى ظل شجرة عتيقة مثله على مقربة من الساحل، ويتركه هناك على كرسي وعلى ساقيه شملة مخططة من صوف، ينظر إلى البحر الذي لا يهدأ ولا يستريح، حتى يدخل الليل فيرتد به وقد فاز بالمتعة التي لا تبلى جدتها.
ولم تره محاسن أو حمدي، ولم يعرفا قط هذا الأثر المتخلف من زمان غبر، ولكنه هو رآهما مقبلين يدلفان إلى صخور الشاطئ ويقفان عندها - تحت عينه النافذة - وللمرة الأولى منذ سنوات طويلات المدد، هم بأن ينهض وحده، فقد أحس أن هذين لا ينبغي أن يتطفل على حبهما إنسان، ولكن ساقيه خذلتاه، فبقي حيث هو، لا يريم مكانه ولا يتحرك غير إنسان عينه، كأنه أصل شجرة عادية لم يبق منها إلا بعض ساقها.
ورق قلبه الكبير لهما، واشتهى - وقد عزه النهوض - أن يظلا حيث يراهما؛ فما أخذت عينه منذ زمان طويل عاشقين كهذين على ساحل البحر الأبدي.
هذه فتاة حرة، عارية الرأس ممشوقة القوام، جميلة الهندام؛ انظر يا جبران إلى هذه اليد البضة الصغيرة التي تريحها على كتف حبيبها، تأمل بنانها وجمال هذا الإبهام، ومرونة هذا الرسغ، وحسن هاتين الساقين، ورأسها المرفوع فوق هذا العنق الأسطع، والخصل الملتوية التي كأنما يومض فيها ألف نجم ونجم، الله تعالى هو الذي أبدع هذا الشعر، لا الحلاقون، والشمس هي التي غذته بنورها مذ كانت صغيرة.
Shafi da ba'a sani ba