ما هذه الأفكار التي هي من الوضوح والجلاء، أو بعبارة أدق: فإن لكل لفظ أهميته في هذا المقام، ما هذه الأفكار التي «تعرض» للعقل على نحو هو من الوضوح والجلاء بحيث لا يبقى لديه سبب للشك فيها؟ ما هذه الأفكار التي لا يتبين العقل فيها غموضا ولا اختلاطا، والتي هي بالطبع متلائمة مع العقل، والتي بسبب ذلك تكون النموذج والقاعدة والمقياس الذي يقيس به العقل سائر الأفكار؟ وما هو هذا العقل الذي سيقوم بهذا القياس؟
هذه الأفكار هي الأفكار الرياضية، وهذا العقل هو العقل الرياضي كذلك، ففي الرياضيات دون سواها بلغ العقل الإنساني إلى الوضوح واليقين، وأفلح في إقامة علم بمعنى الكلمة «يتقدم فيه بوضوح وجلاء من أبسط الأشياء إلى أشدها تعقيدا.»
لذلك كان المنهج الديكارتي مأخوذا عن الرياضيات، ذلك المنهج الذي يقول لنا ديكارت إنه كونه لنفسه بانتقائه خير ما في «الفنون أو العلوم الثلاثة التي كان درسها بعض الشيء في صباه» وهي: المنطق، وتحليل المهندسين، والجبر.
أجل ليس المراد أخذ مناهج الرياضيات في الاستدلال وتطبيقها هي هي على موضوعات أخرى، فمع «أن الرياضيين وحدهم من بين الذين سبق لهم البحث عن الحقيقة في العلوم، هم الذين وجدوا براهين، أعني أسبابا محققة بينة»، إلا أن طرائقهم، أو بكلمة أدق صناعتهم، خاصة بموضوعاتهم ليس غير، وهي «موضوعات غاية في التجريد، تلوح بعيدة عن كل فائدة عملية» وإن تحليل القدماء مقصور على اعتبار الأشكال بحيث لا يروض العقل دون أن يجلب للمخيلة عناء كبيرا، وإن علم الجبر عند المحدثين من الخضوع لبعض القواعد والأرقام أصبح «فنا مختلطا غامضا يرهق العقل بدل أن يثقفه»، فيجب إذا البدء بإصلاح الرياضيات أنفسها، وذلك بتعميم مناهجها، أو إن شئتم باستخراج ماهية الاستدلال الرياضي والروح المنبث في «سلسلة الأسباب البسيطة السهلة التي يستخدمها المهندسون ليبلغوا بها إلى أعسر براهينهم.»
ماهية الاستدلال الرياضي - وهو يختلف عن الاستدلال القياسي البحت أو المنطق - نقول: ماهية الاستدلال الرياضي وروحه تقوم في أن الرياضي مهما تكن موضوعات بحثه معادلة جبرية أو شكلا هندسيا فهو يحاول أن يوجد بينها علاقات أو «نسبا» مضبوطة، وأن يربط بينها بسلاسل من العلاقات المنظمة.
فاستكشاف علاقات ونظام بين العلاقات تلك هي ماهية الفكر الرياضي، ذلك الفكر الذي لا يعني لديه «السبب» إلا علاقة أو نسبة، والعلاقة أو النسبة توجد بذاتها «نظاما» وتنمو بذاتها حتى تصير سلسلة. وقواعد المقال تعلمنا قوانين هذا الفكر، أو على الأقل القواعد الثلاث الأخيرة: القاعدة الأولى هي: ألا نسلم أبدا شيئا إلا بعد أن نكون قد عرفنا بوضوح أنه حق، وهذه القاعدة تعبر عن ضرورة تطهير العقل بالشك. القاعدة الثانية: أن نقسم كل صعوبة ما وسعتنا القسمة، وما اقتضى الحال لحلها على أحسن وجه، وهذا يعني «قسمة» كل علاقة أو نسبة مركبة إلى ما يستطاع من العلاقات أو النسب البسيطة.
القاعدة الثالثة: أن نقود أفكارنا بنظام مبتدئين بأبسط الموضوعات وأسهلها معرفة للتدرج إلى معرفة أكثر الأفكار تركيبا، وهذا يعني الابتداء بأبسط العلاقات أو المعادلات؛ أي التي هي من الدرجة الأولى، ثم التدرج منها بنظام إلى العلاقات أو المعادلات التي هي من درجة أعلى، فارضين نظاما حتى بين التي لا يصدر بعضها عن بعض بالطبع، وذلك بإدماج حدود بين طرفي السلسلة، وفرض الحدود جميعا قابلة لأن تربط في سلسلة. القاعدة الرابعة: أن نقوم بإحصاءات تامة واستعراضات عامة بحيث نتحقق أنا لم نغفل شيئا، أي لم نتحرز من ترك حد ما أو مجهول ما من مجهولات المسألة غير مرتبط بسائر الحدود، ومن وضع معادلات أقل عددا من المجهولات.
لا سبيل إلى الشك في أن هذا «المنهج» وهذه القواعد التي يزعم ديكارت أنه اكتشفها في مدفأته لم تكتشف إلا بعد ذلك بمدة طويلة، من حيث إنها عبارة عن تلخيص غامض بعض الشيء لأنواع الاستدلال المستخدمة في رسالتي «البصريات» و«الهندسة»، وبالأخص لطريقة وضع مسألة جبرية في معادلة، على أن علم الجبر الجديد وتطبيق الجبر على الهندسة ذلك التطبيق الذي يحرر الهندسة من المخيلة، ويحيل المكان ماهية معقولة تمام المعقولية، هو بالإضافة إلى ديكارت نفسه وإلى معاصريه وخلفائه أمثال مالبرانش وسبينوزا، وبالإضافة إلينا أعظم فتوحاته العقلية هو الفتح الذي مكن ديكارت من إقامة علم طبيعي نظري، ومن الرد على انتقادات أرسطو ومن اجتياز العقبة التي وقفت في سبيل أفلاطون.
ومهما يكن من قول ديكارت فإنه في الواقع يدلنا على الطريق الواجب سلوكه، لا الطريق المتشعب الوعر الذي سلكه هو، وليس يهمنا أن يرجع إفصاحه عن مكتشفاته بوضوح إلى سنة 1628 أو 1636 فإن أصلها أول حدس سطع في فكره، يرجع من غير شك إلى سنة 1619؛ أي إلى عهد المدفأة.
وفي الواقع حين جاء ديكارت يقيم في مدفأته أوائل شتاء 1619 لم يكن قد شغل سنيه الماضية بالسفر ومخالطة الناس ليس غير، بل كان قد سلخ سنتين في العمل والكشف؛ لم يكن قد صرف وقته سدى في هولندا، وإذا كان لم يتعلم شيئا يذكر من فن الحرب فيما يلوح، فإنه كان قد اكتشف منهجا حسابيا ممهدا لحساب التكامل وطبقه على مسائل العلم الطبيعي، فسماه صديقه بكمان منذ ذلك الحين ب «الطبيعي الرياضي الكامل»، وكون منهجا للتحليل هندسيا بحتا في بادئ الأمر، من قبيل تحليل العالم «فرما»، فلما استحثه بكمان على ترك الرياضيات التطبيقية وتوجيه قواه العقلية نحو الرياضيات البحتة بدا له أن يعمم مناهج الهندسة، وأن يطبق مناهج التحليل على علم الجبر، ومن هذه الفكرة سيستخرج فيما بعد الهندسة الجبرية أو الهندسة التحليلية كما تسمى اليوم، أجل إنا ما نزال بإزاء محاولات لن تنتهي إلى غايتها إلا بعد أن يصلح ديكارت علم الجبر بأكمله بتركيبه ورموزه، وكان ديكارت في مدفأته ما يزال بعيدا من الغاية، ولكنه اكتشف حينذاك من غير شك الفكرتين الأساسيتين اللتين ستسيطران على علمه وفلسفته، وهما فكرة وحدة الرياضيات، وفكرة وحدة العلوم، وهذه أعمق وأهم من تلك.
Shafi da ba'a sani ba