فغضب النضير فقالوا: لا نرضى بحكمك إنك لنا عدو تجتهد في وضعنا فنزلت، وتقديم المفعول للحصر، عاب الله عليهم التولى وعاب عليهم أنهم لا يبغون في ذلك إلا حكم الجاهلية، والجاهلية الملة الجاهلية وعبارة بعضهم أهل الجاهلية والمراد على كل حال اتباع الهوى { ومن أحسن من الله حكما } نفى لحصول حكم أفضل من حكم الله بالعبارة ونفى لحصول حكم مساو لحكمه بالعرف في مثل هذا والمراد لا مساوى فضلا عن فائق، وهذا عرف مستعمل يقال لا أحسن من زيد ويراد هو أفضل من غيره { لقوم يوقنون } بالله أى عند قوم، متعلق بأحسن أو اللام للبيان أى قلنا ذلك لقوم يوقنون، أو الخطاب لقوم يوقنون، وعلى الأوجه كلها خصهم لأنهم المتأملون المدركون الحق بتأملهم وإلا فحكم الله لا يختص فلا يتعلق اللام بحكما وقيل تعلق به بمعنى لا أحسن من حكم الله للمؤمنين بالغلبة والنصر على الكفرة.
[5.51]
{ يا أيها الذين آمنوا } إيمان صدق أو إيمان نفاق بالجارحة أو باضمار شرك ولو كان سبب النزول فيمن نافق باضمار الشرك { لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } بالحب والاعتماد عليهم وإلقاء الأسرار إليهم ومشاورتهم بل أبغضوهم لأنهم أعداء الله وفيهم مكر { بعضهم أولياء بعض } بعض اليهود أولياء لبعض اليهود وبعض النصارى أولياء لبعض النصارى يد واحدة عليكم واليهود عدو للنصارى والنصارى عدو لهم ومع ذلك هم أولياء بعض لبعض من حيث الإشراك ومعاداتهم فكيف تطمئنون إليهم ولظهور العداوة بين اليهود والنصارى لايتوهم أن المراد أن اليهود أولياء النصارى والنصارى أولياء اليهود { ومن يتولهم منكم فإنه منهم } تأكيد في التحذير يعذب بالنار كما يعذبون وإن كان توليه إياهم بإضمار الشرك فهو أيضا مشرك مثلهم، روى أنه قال عبادة بن الصامت رضى الله عنه من بنى الحارث بن الخزرج لعبد الله بن أبى بن سلول في تنازعهما: إن لى أولياء من اليهود كثيرا عددهم شديدا شوكتهم وإنى أبرأ إلى الله وإلى رسوله من ولاية اليهود ولا مولى لى إلا الله ورسوله، فقال عبد الله بن أبى: لكنى لا أبرأ من ولاية اليهود فإنى أخاف الدوائر ولا بد لى منهم، فقال النبى صلى الله عليه وسلم:
" يا أبا الحباب ما نفست به من ولاية اليهود على عبادة ابن الصامت فهو لك دونه "
، أراد العيب عليه، فقال إذا أقبل، وأبو الحباب كناية ابن أبى، ونزلت الآية والتى بعدها في ذلك وفي أنه تخوف قوم بعد قتال أحد فقال مسلم أنا ألحق بفلان اليهودى آخذ منه أمانا وأتهود معه لعله تكون الدولة لليهود، وقال آخر أنا ألحق بفلان النصراني بالشام وأتنصر معه وآخذ منه أمانا { إن الله لا يهدى القوم الظالمين } الذين سبقت لهم الشقاوة بل يخذلهم باختيارهم الضلال كموالاة الكفار، قال صلى الله عليه وسلم:
" لا تتراءى نار المؤمن والمشرك إلا على حرب "
أى لا تظهر نار أحدهما لنار الآخر في حال النزول للقرب إلا على حرب، قال أبو موسى الأشعرى لعمر رضى الله عنه: إن لى كاتبا نصرانيا فقال: مالك قاتلك الله، ألا تتخذ حنيفيا مسلما أما سمعت قوله تعالى { يا أيها الذين آمنوا لا تتخذوا اليهود والنصارى أولياء } فقال: له دينه ولى كتابته، فقال عمر رضى الله عنه: لا تكرموهم إذ أهانهم الله ولا تأمنوهم إذ خونهم الله ولا تدنوهم إذ أقصاهم الله، فقال أبو موسى: لا قوام للبصرة إلا به، فقال له: فأنت النصرانى، أى فأنت إذ وليته، قيل: أراد هب أنه مات فما كنت صانعا حينئذ فاصنعه الساعة واستغن عنه بغيره.
[5.52-53]
{ فترى } تعلم يا محمد أو يا مطلق من يتأهل، أو سمى سماع الأذن بمسارعتهم في الكفر رؤية بصر ولعل لهم أيضا أفعالا في المسارعة فسمى مشاهدتها إبصارا وكل ذلك مجاز { الذين فى قلوبهم مرض } شك في الإيمان مضر كمضرة المرض كعبد الله بن أبى المنافق والفاء للسببية والعطف على لا يهدى فإن انتفاء هدايتهم أى انتفاء توفيقهم سبب للمسارعة المعلومة أو المشاهدة، وذكر القلب لرسوخ المرض المذكور فيه فهم راغبون في المسارعة وإنما الحادث التنقل في مراتبها من نوع إلى آخر، وهذا التنقل مراد في قوله تعالى { يسارعون فيهم } في موالاتهم كابن أبى يسارع في موالاة اليهود، وكمن يسارع في موالاة نصارى نجران وحذف المضاف لمبالغتهم في الرغبة فيهم وقال فيهم دون إليهم لأنهم استقروا في الموالاة، وإنما يسارعون من كفر إلى كفر { يقولون نخشى أن تصينا دائرة } هلكة دائرة أو مضرة دائرة هذا أصله، ثم تغلبت عليه الاسمية والمراد أمر يدور في الذهن من غلبة الكفار فلا يتم أمر محمد صلى الله عليه وسلم، ومن الجدب فلا نجد من يعطينا طعاما ببيع أو قرض أو هبة أو غير ذلك، والدائرة لغة ما أحاط بالشيء وفي الاصطلاح سطح مستو يحيط به خط مستدير في وسطه نقطة يستوى إليها من دار من كل جهة على سواء وليس الخط والنقطة مشخصتين بل تفرضهما بمعناهما باعتبار، والدائرة حقيقة في الخط وقيل في السطح واستعير لفظ الدائرة لنوائب الزمان بملاحظة إحاطتها ولفظ الدائرة في الشر كالدولة في الخير { فعسى } الفاء لعطف الإنشاء على الخبر الذي هو ترى { الله أن يأتى بالفتح } فتح الخيور لنبيه صلى الله عليه وسلم من النصر وإعلاء دينه والتملك على البلاد، وقال السدى فتح مكة، وقيل فتح بلاد الكفار { أو أمر من عنده } كقتل اليهود وإجلائهم والسبى وإظهار أسرار المنافقين والأمر بقتلهم، وقيل موت رأس النفاق وعبارة بعض قتل قريظة وسبى ذراريهم وإجلاء النضير وإظهار نفاق المنافقين { فيصبحوا } عطف على خبر عسى ولو لم يكن فيه ضمير يعود إلى اسم عسى استغناء بالربط بالفاء السببية، والاصباح على ظاهره يندمون صباحا بما نزل عليهم فيه أو في ليله ويستمر، أو معناه يصيرون والواو للمنافقين { على ما أسروا فى أنفسهم } على ما أرسخوا فيها وربما نطقوا به من موالاة الكفار للشك أو للإنكار { نادمين } على أن لم يخلصوا الإيمان فلم ينجو، وتخصيص إسرار الموالاة بالندامة لا بما كانوا يظهرونه من الموالاة، لأن ذلك إسرار هو الذى حملهم على فعلها، فالندامة على التولى بأصله وسببه وكأنه قيل فماذا يقول المؤمنون فأجاب بقوله:
{ ويقول الذين آمنوا } بعضهم لبعض حين نزل بهؤلاء ما ندموا به { أهؤلاء } المنافقون استفهام تعجب { الذين أقسموا بالله جهد أيمانهم } مفعول مطلق أى إقساما جهد أيمانهم وجاهدين جهد أيمانهم غاية طاقتهم فيها { إنهم لمعكم } يا معشر اليهود في الدنيا وهذا جواب القسم وفيه التفات سكاكى ومقتضى الظاهر إنا لمعكم بالنصر كما قالوا { وإن قوتلتم لننصركم } { حبطت أعمالهم } أى الصالحات التي يظهرونها وما عملوا من الصالحات راجين به النجاة والثواب، والجملة خبر هؤلاء والذين تابع أو خبر والجملة حال { فأصبحوا } كالاصباح الذى مر { خاسرين } دنيا وأخرى وهنا تم كلام الذين آمنوا متعجبين من حبوط عملهم كأنهم قالوا ما أحبط أعمالهم وما أشد إصباحهم خاسرين، وقيل الجملة من مقولهم المحذوف لا المذكور كأنه قيل ماذا قال المؤمنون بعد قولهم المذكور فقيل قالوا حبطت أعمالهم إلخ، وهو قول بارد لا حاجة إليه ولا دليل عليه ولا داعى إليه، وأجيز أن تكون من كلامه صلى الله عليه وسلم على طريق الدعاء أو الإخبار ولا دليل على هذا القول أيضا ولا داعى، ويجوز أن يكون المراد بأعمالهم ما اجتهدوا فيه من موالاة اليهود وإطفاء دين الإسلام، وذلك أولى من أن يقال هؤلاء الذين مبتدأ وخبر وحبطت أعمالهم إلخ مستأنف من كلام الله عز وجل وشهادة منه بحبوط عملهم أى انتفاء الثواب له، ولو قال الجمهور بهذا والمعنى: يقول الذين آمنوا مخاطبين اليهود مشيرين إلى المنافقين الذين كانوا يوالونهم ويرجون دولتهم ويظهرون لهم غاية المحبة وعدم المفارقة فى السراء والضراء عند مشاهدة خيبتهم ومضادة ما أملوا: أهؤلاء الذين إلخ، أو المعنى: يقول المؤمنون بعضهم لبعض أهؤلاء الذين أقسموا بالله تعالى لليهود إنهم لمعكم والخطاب على المعنيين لليهود إلا أنه على الأول من جهة المؤمنين وعلى الثانى من جهة المقسمين، والمختار عند بعض المعنى الثانى ويضعف ما قبل أن الخطاب للمؤمنين أى يقول الذين آمنوا بعض لبعض تعجبا من حال المنافقين إذ أقسموا لليهود أنهم مع اليهود بالنصر ولما حل باليهود ما حل أظهروا ما أسروا من موالاتهم.
Shafi da ba'a sani ba