{ لن يستنكف المسيح } "
لن يترفع وأصله مطلق الاعتزال عن الشىء أو الابتداء فى شىء، ومن هذا مع اختلاف المادة، استأنف العمل، والجملة المستأنفة ومن ذلك نكف الدمع، إذ أزاله بإصبعه، وبحر لا ينكف أي لا ينزح، والنكف أيضا قول السوء، يقال ما عليه فى هذا الأمر نكف، أى سوء، فيجوز حمل الآية عليه، واستفعل للسلب، وشهد الاستنكاف فى الامتناع والانقباض والتكبر، وقد فسره ابن عباس بالاستكبار { أن يكون } عن أن يكون { عبدا لله } لأنه مذعن لله بالربوبية، وفى نفسه بالعبودية، للتشرف بها، منتف عن العبودية والنبوة اللتين تدعيان عليه، أرسل رسول الله صلى الله عليه وسلم صحابيا إلى الجلندى فى عمان، يأمره بالإيمان، فقدم الصحابى من نفسه كلاما، هو أنه، هل تعرف أن عيسى عليه السلام يعبد الله؛ قال: نعم، قال: فإنى أدعوك إلى من كان عيسى يعبده، ثم بلغه رسالة بالنبى صلى الله عليه وسلم، وقد نص بولس من النصارى فى رسالته، إن يسوع مؤتمن من عند من خلقه، مثل موسى، وأنه أفضل من موسى، وقال مرقص: إن يسوع قال: نفسى حزينة حتى الموت، ثم خر على وجهه يصلى لله تعالى، وقال: لله الأمر كما تريد، لا كما أريد، وخر على وجهه يصلى { ولا الملائكة المقربون } أن يكونوا عبيدا لله متشرفين بالعبادة متنزهين عن أن يكونوا آلهة، ومنزهين لله أن يكونوا بنات الله، وإذا كان الملائكة مع علو مقامهم بالسماوات وفوقهم وعظم عبادتهم وطول أعمارهم مع عدم الفتور عنها لا يأنفون عن العبودية، ويقصرون العظمة على الله، وينزهونه عن صفات الخلق فكيف عيسى عليه السلام، الذى هو دون ذلك، فهو ولو كان أفضل من الملائكة بالنبوة وعصيان الهوى والدواعى لكنه دونهم فى العبادة المذكورة لهم فالآية تتضمن الرد على مشركى العرب القائلين: الملائكة بنات الله، والمجوس العابدين لهم، والملائكة كلهم مقربون، وقيل: المراد فى الآية نوع منهم يسمون مقربين، وهم أفضل الملائكة، وفى الحديث:
" المؤمن الواحد خير من الملائكة كلهم "
، ولا يشكل أن سيدنا محمدا صلى الله عليه وسلم أفضل منهم، وزعمت المعتزلة والقاضى أبو بكر والحليمى، أن الملائكة أفضل من الأنبياء، وكون كلام العرب على الترقى من الفاضل إلى الأفضل غالب، لا لازم، ولا حجة لهم فى الآية، وتوقف بعض المحققين فى غيره صلى الله عليه وسلم من الأنبياء، هل هم أفضل من الملائكة؟ وقال: إن الباب خطير، فالوقف أسلم { ومن يستنكف عن عبادته ويستكبر } الاستكبار دون الاستنكاف، وإنما يستعمل الاستنكاف حيث لا استحقاق بخلاف الاستكبار فقد يكون بالاستحقاق، وأصله طلب الكبر من غير استحقاق، فهو اعتقاد نفسه أنه كبير، واختار صيغة الطلب لأنه لو أمكن تحصيله لم يحصل إلا بكد، وأيضا لأنه محض طلب دون حصول المطلوب، وفى الحديث،
" الكبر بطر الحق وغمط الناس "
{ فسيحشرهم } إنما صح أن يكون جوابا مع أن الحشر واقع ولو لم يستنكفوا، لأن حاصله الجزاء، فكأنه قيل، فسيجازيهم، أو يقدر، فلن يهملهم لأنه سيجازيهم { إليه جميعا } للعقاب والثواب، من يستنكف ومن لا يستنكف بدليل التفصيل فى قوله:
{ فأما الذين ءامنوا وعملوا الصالحات } الخ، أو الهاء لمن يستنكف، والتفصيل من عرض الكلام فى عذابهم، إما بتحسرهم بما نال المؤمنون، فإن التحسر بالخسران وفوز العدو عذاب عظيم، وإما بالعذاب الأليم بعد { فيوفيهم أجورهم } على توحيدهم وأعمالهم وتقواهم { ويزيدهم من فضله } كل ما أمكن ولاق، مما لاعين رأت ولا أذن سمعت، ولا خطر على قلب بشر، أو ملك تفصيلا وإحاطة ، ولو كان نعم الجنة كلها كذلك، لكن بعض فوق بعض، ومقتضى الظاهر، فأما الذين لم يستنكفوا كما هو المناسب لما قبل وما بعد، وعدل عنه إلى ما فى النظم الجليل، لأنه المستتبع لتوفيه الأجور وزيادة الفضل، وأما عدم الاستنكاف فلا يفيد ذلك صراحا { وأما الذين استنكفوا واستكبروا فيعذبهم عذابا أليما } عند الموت وفى القبر والحشر والموقف والنار { ولا يجدون لهم من دون الله وليا } يدفع عنهم العذاب بعد مجيئه { ولا نصيرا } يمنعه عنهم قبل المجىء، أو وليا يلى أمورهم ومصالحهم، ونصيرا ينجيهم من العذاب مطلقا.
[4.174-176]
{ يآ أيها الناس } مطلقا { قد جآءكم برهان من ربكم } البرهان المعجزات والدين والرسل ودلائل العقل، وعن ابن عباس هو النبى صلى الله عليه وسلم { وأنزلنآ إليكم نورا مبينا } القرآن أو البرهان والنور، كلاهما القرآن، فإنه سبب لوقوع نور الإيمان فى القلب، ولأنه يتبين بالنور الأعيان، وبرهان على صدق مبلغه فى دعوى الرسالة، وجاز أن البرهان الدين لابتنائه على البراهين القاطعة، وأنه صلى الله عليه وسلم برهان لأن حرفته إقامة البراهين على تحقيق الحق وإبطال الباطل، وفرع على مجىء البرهان وإنزال النور تفصيلا بقوله:
{ فأما الذين ءامنوا بالله واعتصموا به } بالله تعالى، وقيل بالنور المبين، وهو القرآن، والصحيح الأول { فسيدخلهم فى رحمة منه } جنته، سماها على التجوز الإرسالى، والظرفية حقيقة باسم ما ينزل فيها، وذلك فى مقابلة عملهم، ولا واجب على الله، وقيل الرحمة الثواب والظرفية مجازية { وفضل } إحسان بما لا يعلمه إلا الله زائد على ذلك { ويهديهم إليه } إلى الله، أى ثواب الله، أو إلى الفضل، أو الموعود به { صراطا مستقيما } دين الإسلام فى الدنيا، أو طريق الجنة فى الآخرة، وأما الذين كفروا واعتصموا بالطاغوت فسيدخلهم فى عذابه، وقدم ذكر الرحمة والفضل مع تأخيرهما فى الوجود عن الهدى إلى الصراط المستقيم تعجيلا للمسرة، ويجوز جعل إليه حالا من صراطا، ويروى أن جابر بن عبد الله مرض، فعاده رسول الله صلى الله عليه وسلم فقال: إنى كلالة، كيف أصنع بمالى؟ ولفظ البخارى ومسلم عن جابر بن عبد الله مرضت فأتانى رسول الله صلى الله عليه وسلم وأبو بكر يعودانى ماشيين، فأغمى على، فتوضأ رسول الله صلى الله عليه وسلم، ثم صب على من وضوئه فأفقت، فإذا النبى صلى الله عليه وسلم، فقلت، يا رسول الله، كيف أصنع فى مالى، كيف أقضى فى مالى، فلم يرد على شيئا حتى نزله قوله تعالى:
Shafi da ba'a sani ba