سمعت الأذن، وأولياء الله معك، بادرتم الباب بالدخول فكظت الأبواب من الزحام - كما قال عتبة بن غزوان (١) .
٢٨- قال النبي ﷺ: " لانقضاضهم على باب الجنة أهم إليَّ من شفاعتي " (٢) .
فكظ من الزحام - فما ظنك بأبواب مسيرة أربعين عامًا كظيظة من زحام أولياء الرحمن، فأكرم بهم من مزدحمين مبادرين إلى ما قد عاينوا من حسن القصور من الياقوت والدر.
فتوهم نفسك أن عفا (٣) الله عنك في تلك الزحمة، مبادرًا مع مبادرين، مسرورًا مع مسرورين، بأبدان قد طهرت، ووجوه قد أشرقت وأنارت فهى كالبدر قد سطع من أعراضهم كشعاع الشمس. فلما جاوزتَ بابها وضعتَ قدميك على تربتها وهى مسك أذفر ونبت الزعفران المونع، والمسك مصبوب على أرض من فضة، والزعفران نابت حولها، فذلك أول خطوة خطوتها في أرض البقاء بالأمن من (٤) العذاب والموت. فأنت تتخطى في ترب المسك ورياض الزعفران، وعيناك ترمقان حسن بهجة الدر من حسن أشجارها وزينة تصويرها. فبينا أنت تتخطى في عرصات الجنان، في رياض الزعفران وكثبان المسك، إذ نودي في أزواجك وولدانك وخدامك وغلمانك
_________
(١) فقد أخرج مسلم (٤/٢٢٧٨) فقال: حدثنا شيبان بن فروخ حدثنا سليمان بن المغيرة حدثنا حميد بن هلال عن خالد بن عمير العدوي قال: خطبنا عتبة بن غزوان فحمد الله وأثنى عليه ثم قال: أما بعد فإن الدنيا قد آذنت بصرم وولت حذاء ولم يبق منها إلا صبابة كصبابة الإناء يتصابها صاحبها، وإنكم منتقلون منها إلى دار لا زوال لها. فانتقلوا بخير ما بحضرتكم فإنه قد ذكر لنا أن الحجر يلقى من شفة جهنم فيهوى فيها سبعين عامًا لا يدرك لها قعرًا. ووالله لتملأن أفعجبتم!! ولقد ذكر لنا أن ما بين مصراعين من مصاريع الجنة مسيرة أربعين سنة وليأتين عليها يوم وهو كظيظ من الزحام..ولقد رأيتني سابع سبعة مع رسول الله ﷺ ما لنا طعام إلا ورق الشجر حتى قرحت أشداقنا، فالتقت بردة فشققتها بيني وبين سعد بن مالك فاتزرت بنصفها واتزر سعد بنصفها فما أصبح اليوم منا أحد إلا أصبح أميرًا على مصر من الأمصار، وإني أعوذ بالله أن أكون في نفسي عظيمًا وعند الله صغيرًا، وإنها لم تكن نبوة قط إلا تناسخت حتى يكون آخر عاقبتها ملكًا فستخبرون وتجربون الأمراء بعدنا.
(٢) هكذا ساقه هنا في التوهم المطبوع، وذكره بلفظ «انقضاضهم» في الأصل لصحيح ابن حبان والتقاسيم ٣/لوحة ٤٦٢، وموارد الظمآن ٢٥٩٤ كما ذكر الأستاذ / شعيب في تحقيق صحيح ابن حبان، غير أنه أثبت في الأصل «انقصافهم» كما في المصادر التي خرج الحديث منها. والحديث أخرجه أحمد (٢/٣٠٧) بلفظ: ثنا هاشم والخزاعي يعني أبا سلمة قالا حدثنا ليث حدثني يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن مغيث الهذلي عن أبي هريرة أنه سمعه يقول: سألت رسول الله ﷺ ماذا رد إليك ربك في الشفاعة؟ فقال: " والذي نفس محمد بيده لقد ظننت أنك أول من يسألني عن ذلك من أمتي لما رأيت من حرصك على العلم، والذي نفس محمد بيده ما يهمني من انقصافهم على أبواب الجنة أهم عندي من تمام شفاعتي، وشفاعتي لمن شهد أن لا إله إلا الله مخلصًا يصدق قلبه لسانه ولسانه قلبه ".
وبلفظ «انقصافهم» أخرجه الحاكم في المستدرك (١/١٤١) ح٢٣٣، وإسحاق بن راهويه (١/٣٤٣) ح٣٣٧، والحارث بن أبي أسامة كما في بغية الباحث (٢/١٠١٢) ح١١٣٦. وأثبته الأستاذ شعيب في صحيح ابن حبان (١٤/٣٨٤) ح٦٤٦٦، وأشار إلى أنه في الأصل: انقضاضهم.
والقَصْف: الكسر والدفع الشديد لفرط الزحام. قال في النهاية: يعني استسعادهم بدخول الجنة وأن يتم لهم ذلك أهم عندي من أن أبلغ أنا منزلة الشافعين المشفعين؛ لأن قبول شفاعته كرامة له فوصولهم إلى مُبتغاهم آثر عنده من نيل هذه الكرامة لفرط شفقته على أمته.
هذا وقد جاء الحديث من طريقين عن يزيد بن أبي حبيب:
الأول: طريق الليث عن يزيد بن أبي حبيب عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن معتب، وبعضهم قال: ابن مغيث. وقد أخرجه أحمد (٢/٣٠٧)، وإسحاق بن راهويه ح٣٣٧، والحارث كما في البغية ح١١٣٦، وأخرجه مختصرًا البخاري في التاريخ الكبير (٤/١١١) .
وفيه سالم بن أبي سالم وقد وثقه ابن حبان، وقال الذهبي في الكاشف: ثقة. وأخرج له مسلم وأبو داود والنسائي، وقال في التقريب: مقبول.
وفيه معاوية بن معتب ويقال ابن مغيث، وقد وثقه العجلي وابن حبان، وذكره البخاري وابن أبي حاتم، ولم يذكرا فيه جرحًا أو تعديلًا.
والطريق الثاني: عن عمرو بن الحارث عن يزيد بن أبي حبيب عن أبي الخير عن سالم بن أبي سالم عن معاوية بن معتب أخرجه ابن حبان في صحيحه (١٤/٣٨٤) ح٦٤٦٦.
قلت: وهنا أُدخل أبو الخير بين يزيد بن أبي حبيب وسالم بن أبي سالم، وعمرو بن الحارث ثقة فقيه حافظ، كما في التقريب، ونعته الذهبي في الكاشف بقوله: حجة له غرائب.
قال أبو داود سمعت أحمد يقول: ليس لهم - يعني أهل مصر - أصح حديثًا من الليث، وعمرو بن الحارث يقاربه. وقال الأثرم عن أحمد: ما في هؤلاء المصريين أثبت من الليث لا عمرو بن الحارث ولا غيره، وقد كان عمرو عندي ثقة ثم رأيت له مناكير. وقال أحمد بن صالح: الليث إمام ولم يكن بالبلد بعد عمرو بن الحارث مثله.
وهنا لا نستطيع أن نجزم بأن الأمر فيه مخالفة عمرو لليث، أو أن الأمر زيادة ثقة. فإن يزيد بن أبي حبيب ثقة فقيه من رجال الستة غير أنه يرسل.
وجاء من طريق ثالث عن يزيد بن أبي حبيب مختصرًا: وهو طريق عبد الحميد بن بهرام عن يزيد بن أبي حبيب عن معاوية بن مغيث أو معتب، وقد أخرجه أحمد (٢/٥١٨) .
وفيه عبد الحميد بن جعفر، وهو صدوق ربما وهم، كما في التقريب، وهنا لم يَذكرْ بين يزيد ومعاوية سالمَ بن أبي سالم. فلا أدري أهو من وهم عبد الحميد، أو من إرسال يزيد بن أبي حبيب فهو ثقة فقيه من رجال الستة غير أنه يرسل كما في التقريب.
هذا ولجزء من الحديث شاهد بمعناه أخرجه البخاري ح٩٩ فقال: حدثنا عبد العزيز بن عبد الله قال حدثني سليمان عن عمرو بن أبي عمرو بن أبي سعيد المقبري عن أبي هريرة أنه قال: قيل: يا رسول الله من أسعد الناس بشفاعتك يوم القيامة؟ قال رسول الله ﷺ: " لقد ظننت يا أبا هريرة أن لا يسألني عن هذا الحديث أحد أول منك لما رأيت من حرصك على الحديث أسعد الناس بشفاعتي يوم القيامة من قال لا إله إلا الله خالصًا من قلبه أو نفسه ".
وهذا الحديث أخرجه البخاري ح ٦٥٧٠، وأحمد (٢/٣٧٣)، والنسائي في الكبرى ح٥٨٤٢.
(٣) هكذا صوب الكلمة (أ)، وكانت في الأصل عنده [عفا] .
(٤) قال (أ): في الهامش. وأظنه عنى أنه أثبته من الهامش.
1 / 50