المقدّمة
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
إن الإيمان بالنبوة أو قيام صلة بين الله والانسان بواسطة احد عباده الذي نسميه نبيا او رسولا من أهم ما يميز الأديان السماوية عن غيرها من الديانات، إذ أن هناك أديانا كالبرهمية تؤمن بوجود الله لكنها تنكر النبوات ولا ترى حاجة لوجود هذه الصلة بين الله والانسان، وحجتهم في ذلك، أن ما أتى به الانبياء إما موافق للعقل ففي العقل غنى عنه أو مخالف له فلا حاجة لنا به، لأن العقل هو المصدر الوحيد الذي نستدل به على حقائق الأمور.
والحق أن من المستحيل ان نؤمن بفكرة وجود الخالق المدبر ولا نتبعها بالايمان برعايته لخلقه وتدبيره المستمر للكون. إذ ما الفائدة من الخلق اذا لم يعن الخالق بشؤون خلقه، أما أن العقل قد يعارض ما تأتي به النبوة فليس هذا ضروريا، لأن جميع الأمور التي نزلت بها الرسالات السماوية يقرها العقل الذي يعتمد على تفكير علمي منظم، هذا بالاضافة الى ان لكل من العقل والوحي ميدانه الخاص في كثير من المسائل، واذا امكن لنا ان نتوصل بالمنطق التجريبي والرياضي الى حقائق علوم الكون والحياة فإننا لا نستطيع بغير الوحي ان نتوصل الى حقائق ما وراء المادة.
المقدمة / 1
والصلة بين الله والرسل تتم بوسائل متعددة لن نبحث في تفصيلها وانما سنلقي نظرة سريعة على أهم هذه الوسائل لنأخذ فكرة عنها.
إن الوحي غالبا ما ييدأ بالرؤى الصادقة، وفي قصص الأنبياء كثير من حوادث هذه الرؤى. وقد قص علينا القرآن كيف انها طريقة من طرق الوحي عند ما حدثنا عن ابراهيم واسماعيل ﵉، وكيف أمر ابراهيم بذبح ابنه «فَلَمَّا بَلَغَ مَعَهُ السَّعْيَ قالَ يا بُنَيَّ إِنِّي أَرى فِي الْمَنامِ أَنِّي أَذْبَحُكَ فَانْظُرْ ماذا تَرى، قالَ يا أَبَتِ افْعَلْ ما تُؤْمَرُ» «١» .
وقد تكون وسيلة الاتصال الالهام في حالة اليقظة كما حدث للرسول محمد ﵊ اذ أتاه هذا الالهام وهو جالس بين المسلمين وعبر عنه بقوله «هذا رسول رب العالمين نفث في روعي أنه لا تموت نفس حتى تستكمل رزقها..» .
وقد يكون الاتصال بأن يكلم الله الرسول مباشرة كما حصل لموسى ﵇ مما قص علينا القرآن قصته «فَلَمَّا أَتاها نُودِيَ مِنْ شاطِئِ الْوادِ الْأَيْمَنِ فِي الْبُقْعَةِ الْمُبارَكَةِ مِنَ الشَّجَرَةِ أَنْ يا مُوسى إِنِّي أَنَا اللَّهُ ...» «٢» .
والطريقة المعتادة في حصول الاتصال بين الله والرسل هي الوحي بواسطة جبريل ﵇ «نَزَلَ بِهِ الرُّوحُ الْأَمِينُ عَلى قَلْبِكَ لِتَكُونَ مِنَ الْمُنْذِرِينَ بِلِسانٍ عَرَبِيٍّ مُبِينٍ» «٣»، وكان جبريل أحيانا ينزل مجسدا ويراه المسلمون كما حصل
_________
(١) الصافات ١٠٢
(٢) القصص من ٣٠- ٣١
(٣) الشعراء من ١٩٣- ١٩٥
المقدمة / 2
في حديث أركان الايمان والإحسان وأشراط الساعة الذي روي عن عمر ابن الخطاب ﵁.
ومن الطبيعي حين يدعي انسان ما انه يتصل بالله ويحمل منه الى الناس رسالة ترتب عليهم تكاليف وواجبات ان يطالبه الناس بالدليل على صدقه، ولم ير القرآن في هذا ما يخرج على المعقول والمنطق حتى انه قصّ علينا ان ذلك حصل من بعض الانبياء «وَإِذْ قالَ إِبْراهِيمُ رَبِّ أَرِنِي كَيْفَ تُحْيِ الْمَوْتى، قالَ أَوَلَمْ تُؤْمِنْ، قالَ بَلى وَلكِنْ لِيَطْمَئِنَّ قَلْبِي» «١» .
ومن هنا ظهرت الحاجة الى وجود ما يثبت النبوة، وتعد المعجزات من أهم الوسائل التي أنزلها الله على رسله ليقتنع الناس انهم لا يمثلون أنفسهم وإنما يمثلون الله تعالى، ولا شك ان الايمان بالرسل مرتبط ارتباطا وثيقا بالايمان بالله وبالغيب الذي يعتبر من اهم صفات المسلم التقي «الم، ذلِكَ الْكِتابُ لا رَيْبَ فِيهِ هُدىً لِلْمُتَّقِينَ، الَّذِينَ يُؤْمِنُونَ بِالْغَيْبِ» «٢» .
والقرآن يتحدث عن مجموعة من المعجزات المادية منها والمعنوية. والمعجزة في حقيقتها هي الحادث الخارق للعادة والقوانين التي يلاحظها الناس وتسير عليها حوادث الكون يجريه الله تأييدا للأنبياء. وقد حاول البعض ان يعطي المعجزة صورة الأمر العادي الذي يحصل في الطبيعة بطريق الصدقة أو العلم، ولكن المعجزة في الواقع تفقد معناها وكونها دلالة على صدق النبي اذا فقدت الصفة الخارقة.
فاذا قال مدعي النبوة إن دلالة صدقي أن تطلع الشمس من المغرب وهي تطلع عادة من المشرق كان ذلك دلالة وتأييدا له، أما اذا أخبر قومه ان الشمس تطلع من المشرق فليس في طلوعها ما يثبت أي إعجاز.
_________
(١) سورة البقرة ٢٦٠
(٢) سورة البقرة ١ و٢
المقدمة / 3
ومن المعجزات المادية: ناقة صالح، وقد قص القرآن خبرها بقوله:
«قالُوا إِنَّما أَنْتَ مِنَ الْمُسَحَّرِينَ، ما أَنْتَ إِلَّا بَشَرٌ مِثْلُنا فَأْتِ بِآيَةٍ إِنْ كُنْتَ مِنَ الصَّادِقِينَ، قالَ هذِهِ ناقَةٌ لَها شِرْبٌ وَلَكُمْ شِرْبُ يَوْمٍ مَعْلُومٍ، وَلا تَمَسُّوها بِسُوءٍ فَيَأْخُذَكُمْ عَذابُ يَوْمٍ عَظِيمٍ» «١» . ومنها معجزة عصا موسى التي حدثنا القرآن خبرها بقوله: «قال لئن اتخذت إله غيري لأجعلنك من المسجونين، قال او لو جئتك بشيء مبين، قال: فأت به إن كنت من الصادقين، فألقى عصاه فاذا هي ثعبان مبين، ونزع يده فاذا هي بيضاء للناظرين» . ومنها معجزات عيسى ﵇، التي عناها القرآن بقوله: «أَنِّي أَخْلُقُ لَكُمْ مِنَ الطِّينِ كَهَيْئَةِ الطَّيْرِ فَأَنْفُخُ فِيهِ فَيَكُونُ طَيْرًا بِإِذْنِ اللَّهِ وَأُبْرِئُ الْأَكْمَهَ وَالْأَبْرَصَ وَأُحْيِ الْمَوْتى بِإِذْنِ اللَّهِ، وَأُنَبِّئُكُمْ بِما تَأْكُلُونَ وَما تَدَّخِرُونَ فِي بُيُوتِكُمْ، إِنَّ فِي ذلِكَ لَآيَةً لَكُمْ إِنْ كُنْتُمْ مُؤْمِنِينَ» .
والملاحظ ان معظم الأمم التي أتتها المعجزات اصرت على كفرها وإلحادها ولم تؤمن، وقد بين القرآن ان الهداية بيد الله، وأنه مهما تكن قيمة المعجزة فان نفوسا كثيرة لن ترتدع أو مؤمن «وَلَوْ فَتَحْنا عَلَيْهِمْ بابًا مِنَ السَّماءِ فَظَلُّوا فِيهِ يَعْرُجُونَ، لَقالُوا: إِنَّما سُكِّرَتْ أَبْصارُنا، بَلْ نَحْنُ قَوْمٌ مَسْحُورُونَ «٢»» .
هل هناك أبلغ من هذه المعجزة؟ إن البعض سيقول انه السحر او خداع البصر، لذلك فإنه تعالى يخبر الرسول بهذا المعنى بقوله: «وَما مَنَعَنا أَنْ نُرْسِلَ بِالْآياتِ إِلَّا أَنْ كَذَّبَ بِهَا الْأَوَّلُونَ، وَآتَيْنا ثَمُودَ النَّاقَةَ مُبْصِرَةً فَظَلَمُوا بِها، وَما نُرْسِلُ بِالْآياتِ إِلَّا تَخْوِيفًا «٣»» .
_________
(١) الشعراء ١٥٣- ١٥٦
(٢) الحجر ١٤
(٣) الاسراء ٥٩
المقدمة / 4
أما المعجزات المعنوية والعقلية فأهمها: القرآن الكريم الذي نزل على محمد ﵊. ونستطيع ان نلاحظ بهذه المناسبة ان هذه المعجزة ترتبط ارتباطا وثيقا بالرسالة. والمعجزات إما ذاتية تتعلق بنقل ماهية الرسالة او انها خارجة عن جوهرها، ومعجزة القرآن من النوع الاول لأنها عقلية تخاطب الفكر البشري وتعتمد على الاقناع العقلي اكثر مما تعتمد على القناعة الحسية التي هي اساس المعجزات المادية. ولا شك ان البشرية- حتى بعثة الرسول- كانت قطعت شوطا كبيرا من الرقي العقلي، فأمكن ان تخاطب عقولهم مباشرة، وخطاب العقل أكثر شمولا ودواما واستقرارا، لذلك كان القرآن الكريم معجزة الرسول حتى أبد الدهر.
اختلف العلماء والباحثون في حقيقة الاعجاز في القرآن، ويمكن ان نحدد آراء هؤلاء العلماء في ثلاثة اتجاهات رئيسية:
١- اتجاه يرى ان المعجز في القرآن هو صياغته اللفظية الخارقة للعادة وبلاغته الواضحة التي اعجزت العرب ان يأتوا بمثله.
٢- واتجاه يرى الاعجاز فيما ورد في القرآن من الإعلام عن الغيوب وعن حوادث الامم السابقة وتاريخها وعقائدها، فقد أشار القرآن الى حوادث ستقع في المستقبل ثم وقعت كما حدّث، مثال ذلك قوله تعالى: «ألم، غلبت الروم في أدنى الارض وهم من بعد غلبهم سيغلبون، في بضع سنين» .
فقد حصل ان الفرس غلبت الروم، فأخبر القرآن عن هذه الواقعة، وأنبأ ان الروم سينتصفون من خصومهم في بضع سنين، وتم ذلك فعلا؛ وبما ان الانسان لا يقدر على علم الغيب فان القرآن منزل من قبل الله وفيه من الاعجاز ما فيه. ثم إن القرآن تحدث عن تاريخ الأمم السابقة وأديانها
المقدمة / 5
حديث العليم بكل صغيرة وكبيرة من احداثها وشؤونها، ولما كان الرسول ﵇ أميا لم يطلع على كتب الأقدمين- التي لا تشير هي ايضا بدقة الى تلك الامور- فلا بد انه تعالى هو الذي اخبر نبيه بهذه الاشياء.
٣- وأخيرا فقد اتجه كثير من العلماء الى ان الاعجاز في القرآن هو فيما ورد فيه من انظمة انسانية بالغة الرقي لم يشهد الخلق لها مثيلا في ضمان مصلحة بني الانسان وتأمين حياته الخيرة، فقد ورد في القرآن انظمة لحياة الانسان في شتى الوان النشاط البشري السياسي والاقتصادي والاجتماعي والاخلاقي والروحي، ولما كانت هذه الانظمة يستحيل ان يقدر عليها اي انسان فلا بد ان يكون القرآن منزلا من الله مثبتا لرسالة الرسول.
والواقع إن الاعجاز القرآني يشمل هذه النواحي جميعا: فهو فى اللفظ العجيب والتركيب البلاغي البديع، وهو في اخباره عن الغيوب وانباء الامم السابقة، وهو في انظمته الرائعة السامية؛ ولا نستطيع ان نقول بحصر الاعجاز في جانب واحد، لأن القرآن معجزة الرسول الى الناس جميعا في مختلف ازمانهم وامكنتهم، لذا كان لا بد ان يحوي هذه الوجوه المتعددة، فاذا آمن العربي به لإعجازه البلاغي فقد يؤمن به الرومي لإخباره عن الامم السابقة كما قد يؤمن به الفارسي للأنظمة التي فيه، فالقرآن معجز كله، لفظا ومعنى ونظاما.
وبعد فإن الكتاب الذي بين ايدينا يبحث في النبوة وإثباتها، وقد عرض له القاضي «١» في أكثر من موضع من كتبه، إلا انه تكلم عنه بالتفصيل في كتابين:
_________
(١) ضربنا صفحا عن التعريف بحياة القاضي وثقافته ومؤلفاته لأننا عرضنا لذلك في مقدمتنا لكتابه «شرح الاصول الخمسة» وسيصدر لنا قريبا كتاب خاص عن القاضي عبد الجبار، بالاضافة الى رسالة الدكتوراه التي كانت بعنوان «القاضي عبد الجبار وآراؤه الكلامية» .
المقدمة / 6
١- الجزء الخامس عشر من موسوعته الكبيرة «المفني في اصول الدين» وقد أسماه «النبوات» .
٢- الكتاب الذي بين ايدينا «تثبيت دلائل نبوة لسيدنا محمد» .
أما في الكتاب الاول فإنه يعنى بالحديث عن اساس نظرية النبوة وفكرة المعجزة بصورة عامة، ثم يفصل الحديث عن عدد من المعجزات الحسية ويبين اختلافها عن السحر والشعوذة والصدفة وخفة اليد.
لكنه في كتابنا هذا يتحدث عن اثبات نبوة محمد ﷺ بصورة خاصة، ويلح على جانب الإخبار عن الغيوب سواء جاء في القرآن الكريم او في احاديث الرسول، فيتتبع هذه الاخبار مبينا الى اي حد يصدقها الواقع والتاريخ.
إن القاضي يؤمن بالمعجزات الحسية التي وردت في القرآن والسنة الصحيحة يستنكر موقف البعض كالنظّام من إنكارها، ويرى الإعلام عن الغيوب من اهم دلائل النبوة، كما ان القرآن في رأيه حجة من نواح ثلاثة: فهو حجة «من طريق الفصاحة والبلاغة، وهو حجة لما فيه من الاخبار بالغيوب، وهو حجة لما فيه من التنبيه على دلائل العقول» «١» .
وحين تفصيل كلامه عن دلائل النبوة لا يلتزم القاضي البقاء في نطاق الحوادت او الدلائل بل يعرج- كعادة القدماء- على كل ما يجد الحديث عنه ضروريا بالمناسبة.
_________
(١) التثبيت ٤٠
المقدمة / 7
لذا فاننا نستطيع من خلال هذا الكتاب ان نتعرف على موقف القاضي من الاديان المختلفة: السماوية منها وغير السماوي، وموقفه من الفلسفة اليونانية، ومن اخذ بها ممن يسمون بفلاسفة الاسلام، واخيرا موقفه من الاتجاهات العقائدية الاسلامية المختلفة وخاصة الاتجاه الباطني. وللقاضي مع هذه الاتجاهات جولات ومناقشات طويلة متشعبة.
حمل القاضي عبد الجبار على الفلسفة اليونانية عموما وبين ان كتبهم التي وصلت الينا فيها الشيء الكثير من النقص والتحوير والتعديل اجراه أصحاب الاغراض والاتجاهات العقائدية المختلفة لتأييد عقائدهم وآرائهم، وأفرد ارسطو بحملة عنيفة وخاصة في كتابه «الآثار العلوية» وانتقد نظريته في الكون والكواكب وما يراه من انها غير قابلة للقسمة او الزيادة او النقصان وانها حية عالمة سميعة بصيرة تخلق وترزق وتحيي وتميت «١» .
ومن الغريب انه ينتقد نظرية الرازي في اللذة والألم، وقوله ان الله لا يستطيع ان يخلق الانسان إلا بالطريق الطبيعي، ويتهمه بالإلحاد، ولكنه يتجاوز عن رأيه في النبوة مع انه يخالف الاتجاه الاسلامي العام فيه «٢» .
أما الكندي فانه- برأي القاضي- احد الملاحدة الذين تظاهروا بالاسلام لكنهم ما فتئوا يكيدون له ويمكرون به، وقد عرض لرأيه في المد والجزر وأن القمر سبب لحصولهما فشدد النكير عليه.
ويظهر انه ينتقد فكرة القانون بصورة عامة لما كان يظنه من انها تحد من
_________
(١) التثبيت ١٩٦
(٢) التثبيت ٢٩٣ ظ، ٢٩٤
المقدمة / 8
قدرة الخلق المطلق من قبل الله وكونه خالق للاشياء جميعا على الاستمرار وأنه يخلقها من لا شيء «١» . ويبدو هذا واضحا من بيانه لفعل الاحراق بالنار «٢»، وحقيقة الشفاء بالدواء، وقد نبه الاطباء بهذه المناسبة الى ان مهمتهم يجب ان تنحصر في معرفة العادات والتجارب فلا تتعدى ذلك الى الاهتمام بمعرفة اصول الأشياء «٣» .
أما موقف القاضي من اصحاب النجوم وسائر من يدعي معرفة الغيب والمستقبل فقد كان شديد العنف عليهم، ولفت النظر الى حقيقة بديهية ولكنها لبداهتها قد تغيب على المرء، وهي ان المنجم «يكذب في ألف شيء ويخطىء في ألف شيء فلا يحفظ عليه لأن ذلك غير منكر منه، فاذا اتفق له الصواب في شيء واحد تعجبوا وحفظ لقلته من مثله ولأنه اتى من غير معدنه «٤» .
ولا ينسى القاضي ان ينكر على رجال الباطنية موقفهم في التفرقة بين الصحابة وقولهم انهم ظلموا عليا ﵁، وبيّن بهذه المناسبة الصلة الوثيقة التي كانت تقوم بين الصحابة «٥» . كما اتهم الباطنية بأنها كانت مستغلة من الملحدين والذين لم تطمئن قلوبهم بالايمان، اذ تستر هؤلاء بالباطنية وتظاهروا بالتشيع لعليّ لخدمة اغراضهم في تحطيم الاسلام عن طريق تفريق المسلمين وإظهار الصحابة بمظهر المعتدين الخارجين على حدود الاسلام، وعدد القاضي منهم
_________
(١) التثبيت ٢٩٧ ظ، ٢٩٨
و(٢) التثبيت ٣٠٢
و(٣) التثبيت ٢٩٩ ظ
(٤) التثبيت ١٨٨
(٥) التثبيت ١١٦
المقدمة / 9
عددا من الفلاسفة والكتّاب، كالحداد والوراق والحصري وابن الراوندي وجابر وابن العميد.
ولم ينس القاضي ان يعرج على الديانات سواء منها غير السماوي كالديانات الفارسية والهندية القديمة «١»، او السماوي في اصوله كالنصرانية، وخص هذه الاخيرة بتفصيل طويل طريف ونظر اليها على انها امتداد للحضارة الرومانية والفلسفة اليونانية، فالروم- في رأي القاضي- لم ينتصروا ولكن النصرانية تروّمت فأخذت أخلاق الرومان وتقاليدهم وآراء الفلسفة اليونانية وعقائدها بما فيها عقيدة التثليث، «وهذا التثليث الذي للنصارى قد كانت فلاسفة الروم تنحو نحوه في أن العقل والعاقل والمعقول تصير شيئا واحدا، ويقولون هرمس المثلث «٢»» .
ولأهمية كتاب القاضي وطرافة الموضوعات التي تطرق لها، والأسلوب الذي تناولها فيه، كان موضع ثناء العلماء والكتاب متقدميهم ومحدثيهم، وقد اثنى عليه ابن العماد وابن شهبه وابن تيمة، وكتب عنه الشيخ الكوثري في مقدمة «تبيين كذب المفتري»: «ولم نر ما يقارب كتاب تثبيت دلائل النبوة للقاضي عبد الجبار في قوة الحجاج وحسن الصياغة في دفع شكوك المتشككين «٣»» .
والحق اننا نستطيع ان نعد هذا الكتاب الاول من نوعه في موضوعه، ولا نعلم بين ما وقع في ايدينا ما يفوقه او يصل الى مرتبته.
_________
(١) التثبيت ٨٧، ٨٠، ٨٨
(٢) التثبيت ٨٠
و(٣) مقدمة كذب المفتري ص ٢٨
المقدمة / 10
ورد هذا الكتاب لدى المؤلفين بأسماء متعددة، فابن الملقن في طبقات الشافعية وابن العماد في شذرات الذهب وابن حجر في اللسان يذكرونه باسم «دلائل النبوة» . أما ابن شهبة في طبقاته فقد ذكر انه «تثبيت دلائل النبوة»، أما العنوان الذي كتب على الورقة الأولى من المخطوط الذين بين أيدينا فقد كان «تثبيت دلائل نبوة سيدنا محمد» .
ومن الثابت لدينا ان «التثبيت» كتب بعد «المغني»، يدل على ذلك ما ذكره القاضي نفسه في اكثر من موضع من الكتاب من انه كتبه سنة ٣٨٥ هـ «١» ومن المعلوم لدينا انه انتهى من كتابة المغني سنة ٣٨٠ هـ.
أما المخطوطة التي اعتمدنا عليها في النشر فهي مخطوطة شهيد علي باستانبول وهي النسخة الوحيدة في العالم المعروفة حتى الآن.
وقد جهدنا- قدر استطاعتنا- ان نقدم النص الصحيح لهذا الكتاب القيم، عازفين عن التعليق إلا في الحالات التي لا بد فيها منه كالتعريف بعلم من الأعلام او فكرة من الأفكار، تاركين للقارىء الكريم ان يتتبع فكر القاضي كما أراد ان يعرضه وبحرية كاملة. وحرصنا أن نثبت في هامش الكتاب ارقام اوراق المخطوط ليسهل للباحث الرجوع اليه.
واذا كان لنا ما نرجوه فهو ان نكون قد اسهمنا- بنشرنا لهذا الكتاب- بإضافة لبنة جديدة الى صرح الثقافة الاسلامية، غير طامعين إلا بثواب الله ورضاه.
عبد الكريم عثمان بيروت- ٣٠ جمادى الاولى ١٣٨٦ هـ ١٥ ايلول ١٩٦٦ م
_________
(١) انظر التثبيت ١٩ ظ، ٨٠ و
المقدمة / 11
الجزء الاوّل
1 / 3
بِسْمِ اللَّهِ الرَّحْمنِ الرَّحِيمِ
وصلى الله على سيدنا محمد وآله، الحمد لله الذي منّ على عباده بإرسال رسله، وختمهم بسيدهم محمد صلى الله وعليهم اجمعين، فأرسله بالهدى ودين الحق، «لِيُظْهِرَهُ عَلَى الدِّينِ كُلِّهِ وَلَوْ كَرِهَ الْمُشْرِكُونَ «١»» .
هذا كتاب «تثبيت دلائل نبوة نبينا محمد» رسول الله صلوات الله عليه وسلامه، والادلة على معجزاته وظهور آياته، والرد على من انكر ذلك.
باب [البدء بما في القرآن من إكفار الرسول للامم والبراءة منهم وهو وحيد ضعيف]
فنبدأ من ذلك بما في القرآن، وبما يجرى مجراه مما يعلمه من سمع اخباره، كالعلم بالقرآن، فقد علم كلّ من اخباره ﷺ انه ظهر بمكة، فأكفر اليهود وبرىء منهم، والنصارى والروم وبرىء منهم، والفرس والمجوس وبرىء منهم، والهند وبرىء منهم، وقومه من قريش والعرب وبرىء منهم، وعاب آلهتهم، وأكفر اسلافهم، وضلل اديانهم، وفرق
_________
(١) التوبة ٣٣
1 / 5
آلافهم، وقال لهم: الله ارسلني واصطفاني من العالمين، وجعلني حجة على كل من بلغته دعوتي من الاولين والآخرين، وجعلني خاتم النبيين وآخر المرسلين، وإن ديني يظهر على الاديان كلها، وان كلمتي وكلمة اتباعي تعلو، وإنهم هم الغالبون القاهرون المالكون.
وهو اذ ذاك فقير وحيد، اجير معيل، قد اغضبهم وغاظهم بهذه/ الدعوة، وألبسهم الذل مع وحدته، وبالغ في إسخاطهم، فنهوه وزجروه، بعد ان عاتبوه وعذلوه؛ ثم توعدوه بالاستئصال والبوار، بعد ان رغبوه. فغلبهم على امره، وقال: إني قد قلت لربي حين ارسلني: إني ان قلت هذا لقريش رضخوا رأسي، فقال لي: قل، وبلغهم، فسيغضبهم ذلك، وسيبعثون مكروههم عليك، وسيتحزبون ويجلبون «١» في عداوتك، ويجمعون العساكر لحربك، فأعصمك منهم، وأبعث جنودا لك منهم ومن غيرهم، فتكون العقبى لك، فقال هذا وما هو اشد منه.
يعلم ذلك كل من سمع اخباره ممن صدقه او كذّبه، وهو لا يعتصم بمخلوق، ولا يصوب ملكا من ملوك عصره، ولا يلوذ بأحد من البشر.
بل قد رماهم كلهم عن قوس واحدة بالعداوة، وأسخطهم اجمعين، وبعثهم بهذا الصنيع على عداوته. ثم ما رضي ان يجعل ذلك قولا ثم صفحا، بل خلده ودوّنه، وجعله كتابا يقرأ، وقرآنا يتلى، يسمعه عدوه وقال: ربي قال لي، وربي وربكم اوحى به اليّ، فقال: «وَإِذْ قُلْنا لَكَ إِنَّ رَبَّكَ أَحاطَ بِالنَّاسِ «٢»» وقال: «يا أَيُّهَا الرَّسُولُ بَلِّغْ ما أُنْزِلَ
_________
(١) جلب، توعد بالشر
(٢) الاسراء ٦٠
1 / 6
إِلَيْكَ مِنْ رَبِّكَ وَإِنْ لَمْ تَفْعَلْ فَما بَلَّغْتَ رِسالَتَهُ وَاللَّهُ يَعْصِمُكَ مِنَ النَّاسِ «١»» .
فانهم «٢» زادوا غيظا عليه، وصاروا هم واليهود والنصارى والفرس والمجوس يدا واحدة في عداوته، وطلب نفسه، والحرص على قتله، وهم اشد الناس حقدا وأنفة وجبرية «٣» وطلبا بطائله، لا يقارّون من عاب/ خيولهم وجمالهم فكيف بمن عاب آلهتهم وآباءهم وعقولهم وضلل اديانهم، فعصمه الله منهم وهو رجل فريد بينهم، وهو في مثوبة الموت، وخندق الخوف، وذل اليتم، ووحشة الوحدة، لا يعتصم منهم بمخلوق، فصرفهم الله عنه وهذه حاله، فلو لم يكن من آياته ودلائل نبوته الا هذا لكفى وأغنى وزاد على الكفاية، لأنه إخبار بغيوب كثيرة، لأنه قال لجميع قريش ولجميع العرب ولجميع اليهود ولجميع النصارى ولكل واحد منهم: لا تقتلونني، مع ما قد جاءهم به مما قد غاظهم وأغضبهم، وهو في هذا القول كالباعث لهم على نفسه، وكالحامل لهم على مكروهه وهو يذكرهم بذلك، فسلم منهم مع هذه الأحوال، فهذا باب كاف شاف.
باب آخر [سلامته ﷺ مع حرصهم على إيذائه]
وهذا مقام لا يقومه عاقل إلا ان يكون على غاية الثقة بالله ﷿ والسكون الى وعد الله لأنه لو لم يكن كذلك لم تلبث ان تغضب أمم
_________
(١) المائدة ٦٧
(٢) في الاصل، فإن
(٣) الجبرية والجبرية: التكبر، انظر القاموس، مادة: جبر
1 / 7
العرب والعجم لأديانهم، ويأنفوا لأنفسهم وآلهتهم، فيستأصلونه ويصطلمونه «١» ويقتلونه ويمحون أثره. فلما سلم مع الحرص على قتله، وآلت الامور الى ما قال، علمت وتيقنت أنه من قبل الله، لأن مثله في هذا مثل من قال اني أخوض هذه النار المضرمة فلا تحرقني، او كمن قال: أتردّى من شاهق على/ الأسنّة وانا عريان فلا تنفذ فيّ، او كمن قال: أدخل من هذه السباع الضارية الجائعة التي قد أغضبتها وقتلت اولادها وهي حريصة على افتراسي ومحتاجة الى قتلي والراحة مني فأسلم منها ولا تقتلني، فهذا باب شاف.
وباب آخر [وعده وهو في وحدته اته سيكون في جماعات كثيرة]
وهو ما كان وعد وقال وهو في وحدته، إني سأصير في جماعات وعساكر فكان كما قال وأخبر، لأنه حين دعاهم أنكروا قوله وأكفروه وتلقوه بالردّ والتكذيب، ثم ما زال والنفر بعد النفر يجيبونه، حتى صار في عساكر، فاعتقدوا بصدقه ونبوته، وصاررا له جندا مطيعين، وحزبا متفقين، ينفقون أموالهم ويسفكون دماءهم في طاعته، ويفرّون من آبائهم ويقتلون أبناءهم ويفارقون أوطانهم لأجله وامتثالا لأوامره، وأزكى الأعمال عندهم ما أرضاه بلا دنيا بسطها فيهم، ولا اموال دفعها اليهم، ولا لرئاسة كانت له عليهم، بل كان يتيما فقيرا وحيدا معيلا محتاجا.
ثم جاءهم مجيئا ما جاء نبي قبله في مثل حاله، فان موسى ﷺ أتى قومه من بني إسرائيل، وهم أولاد الأنبياء، قد اعتقدوا الربوبية وعرفوا
_________
(١) اصطلم الشيء: استأصله. انظر القاموس، مادة: صلم
1 / 8
الطريق اليها واعتقدوا النبوة وعرفوا الأنبياء قبل موسى، كادم ونوح، ثم الى ابراهيم واسحق ويعقوب والأسباط، وألفوا عبادة/ الله، واعتقدوا المعاد وعرفوه. ثم جاءهم في ذل وأسر وقهر في أيدي الجبابرة من القبط والفراعنة، يقتلون أبناءهم، ويستحيون نساءهم، ويمنعونهم الصنائع الشريفة والاحتراف، ويقصرونهم على ضرب اللبن وقطع الأحطاب والاعمال الشاقة المؤلمة، فجاءهم موسى بما يعتقدون من الربوبية والنبوة، ثم أخرجهم من الذلّ الى العزّ، ومن الشقاء الى الرفاهية والدعة، ومن الفقر الى الغنى.
ثم جاءهم من بعد موسى من الأنبياء بما جاءهم به موسى، الى أن انتهت النبوة الى المسيح عيسى بن مريم ﷺ، فأتى بني اسرائيل بسنن موسى، وشرائع التوراة.
فقدم هو والأنبياء قبله على أمر ممهد مألوف معروف، وعلى قوم قد ألفوا وعرفوا، وجاء محمد ﷺ قوما لا يعرفون الربوبية، ويعبدون الأصنام، وينكرون البعث والمعاد أشد الإنكار، لا يعرفون نبوة ولا طهارة ولا صلاة ولا صياما ولا زكاة، أشد الناس نخوة وجبرية وأنفة، قاة جفاة، معاشهم من شن الغارات، يسفكون دماءهم ويئدون ذريتهم فرارا من العار.
ودعاهم ﷺ الى الربوبية، والى الاقرار بالنبوة والبعث والقيامة، وأخذهم بالصدق والوفاء وأداء الأمانة والخضوع للحق، وبالطهارة والصلاة والصيام والاعتكاف والزكاة، وصلات الأرحام، وقطع السارق، وجلد/ القاذف والزاني وشارب الخمر، ومساواة الموالي والفقراء والأعاجم والضعفاء في الدماء، وأخذهم بالبراءة من آلهتهم التي يعبدونها من دون الله، ومن
1 / 9
آبائهم ومن أديانهم، وبالإقرار بضلالهم، والتدين بالبراءة منهم، وببذل دمائهم وأموالهم في طاعته، وبمجاهدة الأمم ومعاداة الجبابرة والملوك في طاعته «١»، فأخذهم بكل شدة، وأخرجهم من الراحة الى الكدّ ومن المسالمة الى العداوة، وألزمهم ما لم يكونوا ألفوا ولا عاهدوا، وألزمهم الكلف والمؤن، فأجابوه بهذه الشرائط، فكان مجيئه على الوجوه التي قدمنا ذكرها من آياته ودلائل نبوته صلى الله عليه، ولم نجعل طاعة اصحابه له وتصديق القوم له ومصيره في عساكر وجماعات من دلائل نبوتة إلا لأنه اخبر قبل ذلك ان هذا سيكون فكان كما اخبر وكما قال على تلك الوجوه التي شرحناها وبيّناها. لأنه دعاهم الى امور وشرائط ظاهر التدبير وموجب الرأي واقتضاء الحزم ألا يجيبوه ولا يتبعوه إلا ان يكون من قبل الله، وواثقا بوعد الله، فان سبيله في ذلك سبيل من قال: هذه النملة الضعيفة تهزم هذه العساكر المعدة، او هذه الزجاجة الرقيقة ترض هذه الجبال الصلبة الشديدة، لأنه قد كان في الضعف
_________
(١) كانت الصبغة الغالبة على أديان العرب في الجاهلية هي الصبغة الوثنية، أي عبادة الاوثان، الا ان هذا لم يمنع وجود عدد من الاديان الاخرى. فقد كان بين العرب صابئة يعظمون الكواكب والنجوم ويعبدونها، ودان بعضهم وخاصة في البحرين بالمجوسية الثنوية، كما وجدت مراكز صغيرة لليهودية والنصرانية. ووجد بعض الافراد ممن اعتقد بتوحيد الله، ومعظم هؤلاء كان متأثرا بالاديان السماوية السابقة، ومنهم زيد بن عمرو بن نفيل بن عبد العزى، وورقة بن نوفل بن أسد، وعبد الله بن جحش، وعثمان بن الحويرث بن اسد. وليس غرضنا هنا تفصيل أديان العرب في الجاهلية، فان ذلك يعرف في مواضع من كتب العقائد والديانات وخاصة كتاب الآراء والديانات للنوبختي، والملل والنحل للشهرستاني، والفصل في الملل والنحل لابن حزم. الا اننا نحب ان نشير الى ان القاضي عبد الجبار تعرض لهذا الموضوع بالتفصيل في الجزء الرابع من موسوعته الكبيرة المغنى.
1 / 10
والوحدة على ما قد علمه الناس، ثم دعاهم الى ما يكرهون، وأخذهم بكل شدة، وفرض عليهم الامور الغليظة الصعبة على ما تقدم من شرح ذلك، فعلمت وتيقنت/ أنه نور الله ومن قبل الله.
فإن قيل: أو ليس قد اباحهم الغنائم، فما تنكرون ان تكون اجابتهم له لهذه العلة؟ قيل له: هذا لا يسأل عنه من يعقل ولا من يفكر لأن القوم قد اعتقدوا صدقه ونبوته فكانت إجابتهم له لهذا وعلى هذا القربى الى الله عن رضى بذلك، فمن ادعى غير هذا فقد أنكر المعلوم، او يكون لم يسمع الاخبار. فهم إنما أجابوه على ان ينفقوا أموالهم ويسفكوا دماءهم ويقتلوا آباءهم وأبناءهم في طاعته ولأجله، فكيف يسوغ لعاقل فكّر وتدبّر ان يقول إنما اجابوه طلبا للدنيا ورغبة في الراحة والدعة والأمر بالضد من ذلك. وبعد فان لم يكن تبعوه «١» إلا للغارة وللغنائم لكانوا يقولون له: حاجتنا اليك في الغارة والغنائم ونحن أعلم بها منك، وهي صناعتنا نحن وعادتنا، وما الذي يدعونا الى اتباعك وما معك وما تبعك إلا ان تبعثنا على الغارة والغنائم؟ أمن أجل سعة أموالك وكثرة كنوزك ومروج خيولك واصطبلات دولك؟ أم لخزائن سلاحك. ومن أخذنا بأن نكفر آباءنا ونشهد بضلالهم ونسخف أجلاءهم، ونسوء اختيارهم، ونعادي الأمم وجبابرة الملوك، ونسفك دماءنا في طاعتك، ونقتل كل من عاداك وخالفك وإن كانوا آباءنا وأبناءنا أو إخواننا، ونفارق اوطاننا وأزواجنا، ونهجر اللذات من شرب الخمور ولبس الحرير وشفاء الغيظ بقتل/ من سبّنا أو عاب آباءنا كعاداتنا في ذلك، ثم لا نحصل إلا على شيء اذا غنمناه بقوتنا وغلبنا عليه بأسيافنا بعد المخاطرة بدمائنا
_________
(١) في الأصل، تبعه
1 / 11
أن نسلمه إليك فتعطينا بعضه، هذا لا يختاره بله النساء فكيف بالمهاجرين والانصار الذين أجابوه فصار بهم في عز ومنعة، وصبروا على تلك الشرائط التي شرطها.
وبعد فإن لم يكن نبيّا فهم لا يدرون هل يصل الى غنيمة؟ ولعله لا يتم له شيء مما يعدّ، فما كانوا ليتبعوه لما يظنه الخصم، ولولا أن هذا قد كان في أهل الذمة وطبقات الزنادقة، وتعدوا الى قوم زعموا أنهم من المسلمين لما ذكرناه، ولكنه شيء يستزلون به المسلمين الذين لا ينظرون فيما هذا سبيله، ويغترون بالظاهر.
هؤلاء الذين ادعوا أنهم من المسلمين، وأنهم من خاصة الخاصة «١»، وممن قد عرف ما لا يعرفه غيره، وأن للأمور غوامض وبواطن قد عرفها، فيعتقد من يسمعه في المهاجرين والأنصار الغافلة والبله وقلة العقل، ومن تدبّر، يعلم أنهم أوفر عالم الله عقولا، وأحسنهم تحصيلا، وأسرعهم استدراكا لخفيات الامور وغوامضها، لا فرق بين من رمى المهاجرين والأنصار بذلك، وبين من رمى رسول الله ﷺ بذلك. فإن آثار عقول المهاجرين والانصار معروفة في أفعالهم، وتدبيرهم الدنيا، وسياسة أهلها، وترتيب خواصهم وعوامهم، وأخذها من أيدي دهاة الملوك وعقلاء الناس، وتفصيل ذلك يطول.
فإن قيل: ومن سلم لكم عقل صاحبكم حتى تقولوا إن من دفعنا عن عقول المهاجرين والانصار كمن دفعنا عن عقل رسول الله ﷺ؟
_________
(١) يقصد بهؤلاء الباطنية، فقد وقعوا بأكثر الصحابة وهاجموهم، فادعوا أن اسلامهم انما كان لمال او جاه، ولم يستخلصوا من الصحابة الا عددا محدودا.
1 / 12