الفصل الأول
كيف تذوي الحضارات وتنطفئ
الأنواع النفسية في عدم الخلود كالأنواع التشريحية، ولا تظل أحوال البيئات التي يقوم عليها ثبات أخلاق الأنواع النفسية باقية على الدوام، وتلك البيئات إذا ما تغيرت لم يعتم ما تمسكه من عناصر المزاج النفسي أن يخضع لتحولات راجعة مؤدية إلى زواله، ولو نظرنا إلى السنن الفزيولوجية التي يجري حكمها على خليات الدماغ كما يجري على خليات الجسم الأخرى والتي تلاحظ لدى كل كائن لوجدنا أن زوال الأعضاء يتطلب من الزمن ما هو أقل جدا من الزمن الذي يقتضيه تكوينها، وكل عضو لا يقوم بوظيفته لا يلبث أن يعجز عن القيام بهذه الوظيفة من فوره، ومن ذلك أن عيون الأسماك التي تعيش في أهوار الكهوف تهزل مع الزمن فيصبح هذا الهزال وراثيا في نهاية الأمر، حتى إننا لو نظرنا إلى قصر حياة الفرد لوجدنا أن العضو الذي تطلب تكوينه ألوف القرون على ما يحتمل، وذلك بملاءمات بطيئة ومتراكمات وراثية، يهزل بسرعة عظيمة عندما ينقطع عن عمله.
وما كان مزاج الناس النفسي ليشذ عن هذه السنن الفزيولوجية، فالخلية الدماغية التي لا تمارس تقف، هي أيضا، عن القيام بوظيفتها، وقد تزول بسرعة قابليات النفس التي اقتضى تكوينها عدة قرون، ولا تنشب الشجاعة وقوة المبادرة والإقدام وروح المخاطرة وغيرها من الصفات الخلقية أن تمحي إذا لم يتح لها أن تمارس، وبذلك تفسر العلة في وجوب انقضاء زمن طويل على الأمة حتى ترتقي إلى درجة رفيعة من الثقافة وفي اقتضاء زمن قصير إلى الغاية حتى تسقط في هوة الانحطاط.
ونحن إذا ما بحثنا في الأسباب التي أدت بالتتابع إلى انهيار الأمم، وهي التي حفظ التاريخ لنا خبرها كالفرس والرومان وغيرهم، وجدنا أن العامل الأساسي في سقوطها هو تغير مزاجها النفسي تغيرا نشأ عن انحطاط أخلاقها، ولست أرى أمة واحدة زالت بفعل انحطاط ذكائها.
ووجه الانحلال واحد في جميع الحضارات الغابرة، وهو من التشابه ما يسأل به مع أحد الشعراء عن كون التاريخ صفحة واحدة وإن اشتمل على عدة مجلدات، والأمة، بعد أن تبلغ تلك الدرجة من الحضارة والقوة حيث تطمئن إلى أنها لا تكون عرضة لهجوم جيرانها، تبدأ بالتمتع بنعم السلم والترف التي يمن الثراء بها عليها، فتذبل المزايا الحربية وتوجب زيادة الحضارة حدوث احتياجات جديدة وتنمو الأثرة. وأبناء الوطن إذ لا يبقى لهم بذلك من مثل عال غير التمتع السريع بالأموال التي تحصل على عجل يتركون للدولة أمر إدارة الشؤون العامة فلا يلبثون أن يفقدوا جميع الصفات التي كانت سبب عظمتها، وهنالك يغير على الأمة الكثيرة التمدن جيران من البرابرة أو من شباه البرابرة ذوو احتياجات ضعيفة إلى الغاية مع مثل عال قوي جدا، ثم يقيم هؤلاء حضارة جديدة بأنقاض الحضارة التي قلبوها رأسا على عقب، وعلى هذه الصورة هدم البرابرة إمبراطورية الرومان، وهدم العرب إمبراطورية الفرس؛ مع ما كان لدى تينك الإمبراطوريتين من تنظيم هائل. وليست صفات الذكاء هي التي كانت تعوز الأمم المقهورة لا ريب، وما كان بين الغالبين والمغلوبين من فرق في ذلك لا يحتمل القياس، وفي زمن كانت رومة تحمل فيه بذور الانحطاط القريب كانت رومة تشتمل على أروع الألباء والمتفننين والأدباء والعلماء، وإلى ذاك الدور من تاريخ رومة يرجع تقريبا جميع الآثار التي أوجبت عظمتها، ولكن رومة كانت قد خسرت العنصر الأساسي الذي لا يقوم مقامه أي نمو في الذكاء، كانت قد خسرت الأخلاق.
1
وكان لدى الرومان الأولين احتياجات ضعيفة جدا، وكان لديهم مثل عال قوي جدا، وكان هذا المثل الأعلى الذي هو عظمة رومة يستولي على النفوس فيستعد كل روماني للتضحية بأسرته وثروته وحياته في سبيله، ولما أضحت رومة قطب العالم وأغنى مدن الدنيا قصدها الغرباء من كل صوب وحدب، فنالوا حقوق الروماني منها في نهاية الأمر، ولم تمل نفوس هؤلاء الغرباء إلى غير التمتع بترف رومة فلم يبالوا بمجدها إلا قليلا، وهنالك غدت رومة فندقا واسعا، وهنالك عادت رومة لا تكون رومة، وهي، وإن لاحت ذات حياة إذ ذاك، لم تكن إلا ميتة منذ زمن طويل.
وعلل انحطاط كتلك تهدد حضاراتنا الرفيعة، وإلى تلك العلل تضاف علل أخرى صادرة عن تطور النفوس بفعل الاكتشافات العلمية الحديثة، والعلم قد جدد مبادئنا ونزع كل سلطان من مبادئنا الدينية والاجتماعية، والعلم قد أثبت للإنسان مكانه الضعيف في العالم وعدم اكتراث الطبيعة المطلق له. والإنسان قد رأى أن الذي يسميه حرية ليس إلا جهلا بالعلل التي تستعبده، وأن من مقتضى طبيعته أن يستعبد في شبكة من الضرورات، والإنسان قد أبصر أن الطبيعة تجهل ما نسميه بالرحمة، وأن كل تقدم نشأ عن الطبيعة تم بانتخاب شديد مؤد بلا انقطاع إلى سحق الضعفاء في سبيل الأقوياء.
وأوجبت جميع تلك المبادئ الجامدة الشديدة، المناقضة لما تقوله المعتقدات القديمة التي فتنت آباءنا، حدوث مصادمات مزعجة في النفوس، وأحدثت في بعض الأدمغة العادية من فوضى المبادئ ما يظهر أنه آية الإنسان في هذا الزمان، وأدت تلك المصادمات في الشبيبة المتفننة والمثقفة إلى ضرب من عدم المبالاة القاتمة الهادمة لكل عزيمة، وإلى عجز تام عن الولوع بأية قضية، وإلى عبادة مباشرة شخصية للمآرب دون سواها.
Shafi da ba'a sani ba