إذن، نرى تفاوتا يقف النظر في نشوء عناصر الحضارة لدى أمتين لا جدال في سمو ثقافتهما، ونستطيع أن نبصر الأغاليط التي نكون عرضة لها عندما نقتصر على اتخاذ عنصر واحد مقياسا كالفنون مثلا، وها نحن أولاء قد وجدنا الفنون لدى المصريين مبتكرة ممتازة إلى الغاية مع استثناء التصوير، ووجدنا الآداب لديهم هزيلة، وها نحن أولاء وجدنا الفنون عند الرومان هزيلة عاطلة من أي إبداع كان، ووجدنا الآداب عندهم رائعة، ووجدنا النظم السياسية والحربية عندهم من الطراز الأول.
والأغارقة أنفسهم، وهم من الأمم التي أبدت من التفوق في مختلف الفروع ما لم يبده غيرها، يمكن الاستشهاد بهم لإثبات فقدان المطابقة بين نمو مختلف عناصر الحضارة، وبيان الأمر أن آدابهم في العصر الأوميري كانت ساطعة إلى الغاية ما دام الناس لا يزالون يعدون أغاني أوميرس نماذج قضي على الشبيبة الجامعية بأوربة بأن تشبع منها منذ قرون، وأن الحفريات الأثرية الحديثة أثبتت كون فن العمارة وفن النحت لدى الأغارقة في العصر الأوميري على جانب كبير من الغلظة ما تألفا من تقليد مشوه لمصر وآشور.
والهندوس، على الخصوص، هم الذين يتخذون دليلا على ما في نشوء مختلف عناصر الحضارة من تفاوت، والهندوس لم تفقهم أمة في فن العمارة إلا قليلا، والهندوس، من الناحية الفلسفية، بلغوا من عمق التأمل درجة لم يصل إليها الفكر الأوربي إلا في زمن حديث جدا، والهندوس أنتجوا في الآداب قطعا تقضي بالعجب وإن لم يساووا الأغارقة واللاتين في ذلك، والهندوس ظلوا متأخرين في صنع التماثيل وبقوا دون الأغارقة بمراحل، والهندوس ظهروا صفرا من العلوم والمعارف التاريخية ومن الدقة ما لا تبصره عند أية أمة أخرى، والهندوس لم تكن علومهم سوى تأملات طفلية، ولم تكن كتب تاريخهم غير أساطير صبيانية عاطلة من أي توقيت، ومن أي حادث صحيح على ما يحتمل، وهنا أيضا ترى أن دراسة الفنون وحدها لا تكفي لتبين مستوى الحضارة عند هؤلاء القوم.
ويمكن سرد كثير من الأمثلة دعما لهذه القضية، ومن ذلك أن هنالك عروقا لم تبلغ قط أعلى درجة، فاستطاعت أن تبدع فنا خاصا غير ذي صلة ظاهرة بالفنون التي ظهرت قبله، شأن العرب الذين استولوا على العالم اليوناني الروماني القديم فحولوا فن العمارة البزنطي الذي انتحلوه في بدء الأمر حتى غدا من المستحيل أن يعرف المثال الذي استوحوه لو لم تكن أمامنا سلسلة المباني التي تخللته.
ويمكن أمة أن تبتدع حضارة رفيعة وإن لم تكن ذات استعداد فني أو أدبي، وذلك كما اتفق للفنيقيين الذين لم يكن لهم من التفوق غير حذقهم التجاري، وبالفنيقيين تمدن العالم القديم لما كان من جعلهم بعض أقسامه يتصل ببعض، ولم ينتج هؤلاء الفنيقيون شيئا تقريبا، ولم يكن تاريخهم غير تاريخ تجارتهم.
ثم إن هنالك أمما ظلت جميع عناصر الحضارة متأخرة عندها خلا الفنون، وذلك كما اتفق للمغول الذين شادوا مباني في بلاد الهند لا تجد فيها أثرا من الطراز الهندي، وهذه المباني هي من الروعة بحيث عد متفننون ماهرون بعضها من أجمل ما صنعته يد الإنسان، ويصعب عد المغول من العروق العليا مع ذلك.
على أنه يلاحظ، حتى لدى أكثر الأمم حضارة، أن أعلى درجة في نشوئها الفني لم تكن في زمن بلوغ حضارتها أعلى مراتبها، فارجع البصر إلى المصريين والهندوس تجد أن أكمل مبانيهم هو أقدمها على العموم، وارجع البصر إلى أوربة تجد أن فنها القوطي الرائع، الذي لم يعدله عجيب الآثار قط، ازدهر في القرون الوسطى التي ينظر إليها كدور شبه متوحش.
ومن المتعذر، إذن، أن يحكم في مستوى الأمة برقي فنونها فقط، فالفنون ليست غير عنصر واحد من عناصر حضارة الأمة كما قلت غير مرة، ولم يقم دليل على أن هذا العنصر والآداب أعلى العناصر، وبالعكس تكون الآثار الفنية، في الغالب، أضعف الآثار لدى الأمم البالغة ذروة الرقي المادي؛ كالرومان في القرون القديمة والأمريكيين في الوقت الحاضر، وفي الغالب أيضا - وذلك كما قلناه منذ هنيهة - تبدع الأمم في أجيالها شبه المتوحشة أنفس آثارها الأدبية وأنفس آثارها الفنية على الخصوص، والذى يلوح هو أن دور تجلي شخصية الأمة في الفنون هو دور تفتح طفولتها أو فنونها لا دور نضجها، وإذا نظرنا إلى مناحي العالم الجديد النفعية التي نبصر فجرها وجدنا شأن الفنون لا يكاد يكون باديا فيها، وأمكننا أن نبصر اليوم الذي تصنف فيه هذه الفنون بين مظاهر الحضارة الثانوية إن لم تعد من أدنى مظاهرها.
وهنالك عدة أسباب تحول دون سير الفنون في تطورها سيرا موازيا لتقدم عناصر الحضارة الأخرى ومؤديا إلى الاطلاع على حال هذه الحضارة دائما، وسواء علينا أنظرنا إلى مصر أم إلى الإغريق أم إلى مختلف أمم أوربة لم نر سوى سنة عامة واحدة؛ وهي: أن الحضارة عندما تبلغ مستوى معينا؛ أي حينما تظهر بعض الآثار النفيسة، يبدو دور من الانحطاط في الفنون مستقل عن سير عناصر الحضارة الأخرى، وطور الانحطاط في الفنون هذا يبقى إلى الزمن الذي يدخل فيه انقلاب سياسي أو غزو أجنبي أو اعتناق معتقد جديد أو أي عامل آخر عناصر جديدة إلى الفن، وذلك كما وقع في القرون الوسطى حين أسفرت الحروب الصليبية عن جلب معارف وأفكار جديدة قفزت بالفنون إلى الأمام، فنشأ عن ذلك تحويل الطراز الروماني إلى الطراز القوطي؛ وذلك كما وقع بعد بضعة قرون حين أوجبت النهضة تحويل الفن القوطي؛ وذلك كما وقع في بلاد الهند حين أدت المغازي الإسلامية إلى تغيير الفن الهندوسي تغييرا تاما.
وإذا كانت الفنون - كما نلاحظ أيضا - تعبر بوجه عام عن بعض ضرورات الحضارة، وكانت تلائم بعض المشاعر، فإنها مقضي عليها بأن تعاني من التحولات ما يلائم هذه الضرورات، كما أنها محكوم عليها بالزوال تماما عند تحول الضرورات أو المشاعر التي أوجبت حدوثها أو زوال هذه الضرورات، ولا يدل هذا على أن الحضارة تكون في دور الانحطاط إذ ذاك، وهنا أيضا نلمس فقدان الموازاة بين تطور الفنون وتطور عناصر الحضارة الأخرى، وما تقدمت الحضارة في أي دور من أدوار التاريخ كتقدمها الآن، وما كانت الفنون أكثر ابتذالا وأقل شخصية مما هي عليه اليوم على ما يحتمل، وبيان ذلك أن غياب المعتقدات الدينية والأفكار والاحتياجات، التي تجعل من الفن عنصرا جوهريا من عناصر الحضارة في الدور الذي كانت المعابد والقصور فيه محاريب لها، أسفر عن صير الفن أمرا ثانويا؛ أي موضوع تسلية يتعذر تخصيص وقت كبير ومال كثير من أجله، وإذ صار الفن أمرا غير ضروري فإنه لا يكون إلا مصنوعا أو أثر تقليد، واليوم لا ترى أمة ذات فن قومي، وكل أمة تركن اليوم إلى نسخ ما كان في غابر الأدوار نسخا موفقا أو غير موفق سواء أكان ذلك في فن العمارة أم في فن النحت.
Shafi da ba'a sani ba