واليوم يمكن عد الأمة العليا من الناحية الذهنية كهرم مدرج يتألف من أعرض أقسامه طبقات الشعب الدنيا، ويتألف من درجاته العليا طبقات الشعب الذكية،
1
وتتألف ذروته من صفوة قليلة من العلماء والمخترعين والمتفننين والكتاب، وهذه الزمرة الأخيرة، وإن كانت صغيرة، إذا ما قيست ببقية الشعب، هي ما يقوم عليه وحده مستوى البلد في سلم الحضارة الذهني، وتكفي إزالتها لزوال كل ما فيه مجد الأمة، ومن الصواب قول سان سيمون: «إذا ما أضاعت فرنسة بغتة الخمسين الأول من كل من علمائها ومتفننيها ومستصنعيها وزراعها غدت جسما بلا روح، وجثة بلا رأس، وهي إذا أضاعت جميع موظفيها لم يصبها من وراء ذلك غير ضرر يسير.»
وكلما تقدمت الحضارة زاد التفاوت بين أقصى طبقات الشعب، ويعظم هذا التفاوت على نسبة هندسية في زمن ما، ولو سار الزمن طليقا ولم تعقه عوامل الوراثة لرئيت المسافة بين الطبقات العليا والطبقات الدنيا من الناحية الذهنية قد عظمت فغدت كالمسافة التي تفصل الأبيض عن الزنجي، أو التي تفصل الزنجي عن القرد.
بيد أن هنالك أسبابا كثيرة تحول دون تمام ذلك التفاوت الذهني بين الطبقات الاجتماعية، مهما بلغ، بتلك السرعة التي يمكن القول بها نظريا، والواقع ، وهو أول تلك الأسباب، هو أن التفاوت لا يكون إلا في الذكاء، وهو لا يتناول الخلق أو يتناوله قليلا، ونحن نعلم أن الخلق، لا الذكاء، هو الذي يمثل دورا مهما في حياة الشعوب. والسبب الثاني هو أن الجموع تهدف بنظامها وقوامها إلى أن تصير صاحبة السلطان في الوقت الحاضر، وإذ كانت الجموع بادية الحقد على الأفضليات الذهنية فإن كل أريستوقراطية ذهنية مقضي عليها، على ما يحتمل، بأن تقوض بعنف في ثورات دورية كلما نظمت الجموع الشعبية شؤونها، وذلك كما قضي على طبقة الأشراف القديمة منذ قرن، وإذا ما قيض للاشتراكية أن تقهر بلدا كان بقاؤها بعض الزمن موقوفا على إزالة جميع الأفراد الذين يحوزون أفضلية فيجاوزون المستوى المتوسط ولو قليلا.
وإذا عدوت ذينك السببين، المصنوعين لصدورهما عن مقتضيات الحضارة المتقلبة، وجدت سببا ثالثا أعظم أهمية منهما؛ لأنه عنوان سنة طبيعية ثابتة، ويقوم هذا السبب على منع خيار الأمة من الافتراق عن الطبقات الدنيا افتراقا ذهنيا كبيرا فضلا عن افتراقهم عنها افتراقا تاما، والحق أنك تجد، بجانب مقتضيات الحضارة الحاضرة العاملة على تفاوت أفراد العرق مقدارا فمقدارا، سنن الوراثة الشديدة الوطأة التي تهدف إلى إزالة الأفراد الذين يجاوزون المستوى المتوسط مجاوزة جلية، أو إلى إعادتهم إلى هذا المستوى المتوسط.
وهنالك مشاهدات قديمة نص عليها جميع العلماء الذين عالجوا مسألة الوراثة فتثبت هذه المشاهدات بالحقيقة أن أبناء الأسر الرفيعة الذكاء تفسد عاجلا أو آجلا (عاجلا على الأرجح)، فيؤدي فسادها إلى زوالها التام.
إذن، لا ينال الرجل سموا ذهنيا كبيرا إلا ليترك خلفه ذرية فاسدين، والواقع هو أن ذروة الهرم الاجتماعي التي تكلمت عنها آنفا لا تدوم إلا بما تستعيره من العناصر التي هي تحتها، ولو حدث أن جمع الخيار كلهم في جزيرة منفردة لأسفر توالدهم بسرعة عن ظهور عرق مصاب بضروب الفساد، ومحكوم عليه بالأفول من فوره، ويمكن تشبيه الأفضليات الذهنية العظيمة بالنبات الذي ضخمه البستاني بفنه فلا يلبث أن يموت أو يعود إلى مثال نوعه المتوسط إذا ما ترك وشأنه؛ وذلك لما في نوعه المتوسط من السلطان القوي الذي يمثل سلسلة الأصول الطويلة.
وتدل دراسة مختلف الأمم دراسة دقيقة على أن أفراد العرق الواحد، إذا تفاوتوا في الذكاء كثيرا، لا يتفاوتون إلا قليلا في الخلق الذي هو صخرة ثابتة على الرغم من الزمن كما بينت، ولذلك يجب علينا أن ننظر إلى العرق من ناحيتين مختلفتين عند البحث فيه؛ فالعرق من الناحية الذهنية لا قيمة له إلا بصفوة قليلة من الناس يتم بفضلها ما يتفق للحضارة من تقدم في العلوم والآداب والصناعات، والعرق من الناحية الخلقية جدير بأن ينظر إلى طبقته المتوسطة وحدها، والأمم مدينة في قوتها لمستوى هذه الطبقة المتوسطة على الدوام، والأمم يمكنها أن تستغني عن صفوتها الذهنية على التحقيق، لا عن درجة معينة من المستوى الخلقي، وهذا ما نوضحه عما قليل.
وبينما يتفاوت أفراد العرق في غضون القرون تفاوتا ذهنيا تدريجيا على ذلك الوجه؛ ترى هؤلاء الأفراد في كل وقت يترجحون من الناحية الخلقية حول مثال ذلك العرق المتوسط، وإلى هذا المثال المتوسط الذي يرتقى إليه ببطء ينتسب معظم أفراد الأمة، وتجد هذا الأصل الأساسي مكسوا لدى الأمم العليا على الأقل بطبقة رقيقة من ذوي النفوس العالية ذات أهمية من ناحية الحضارة غير ذات أهمية من ناحية العرق، وتزول تلك الطبقة الرقيقة فتتجدد، دائما، على حساب الطبقة المتوسطة التي لا تتغير إلا رويدا رويدا؛ وذلك لأن التغيرات الدقيقة تتطلب تراكما نحو معنى واحد في قرون كثيرة لتغدو دائمة.
Shafi da ba'a sani ba