وراحوا يفتشون عن عناصر الاتفاق بينهما في الموضوع والأسلوب والحوار. ولعل الدافع لهم على ذلك أن «تاسو» من الأعمال الفنية القليلة، التي تبين لنا كيف يترك الزمن أثره على الإنسان، فيحدده ويطبعه بطابعه ويصبح قدره ومصيره. ومن هنا كانت للحياة الوجدانية والنفسية، بما فيها من عذاب الفراق والتذكر والانتظار والأمل والحنين إلى الماضي، أهمية كبيرة في هذه المسرحية، شأنها في ذلك شأن مسرحيات جوته التي تهتم بعالم الباطن أكثر بكثير من اهتمامها بعالم الظاهر والأحداث الخارجية. ولعل هذا أيضا هو الذي جعل الشاعر يلجأ في بناء مسرحيته إلى الشكل الإغريقي القديم ليصب فيه موضوعا أو مشكلة حديثة، يتركز الصراع الحقيقي فيها في باطن الإنسان.
ومع أن «مأساة أوديب» في صميمها مأساة ميتافيزيقية خالصة، ومأساة «تاسو» مأساة تاريخية مرتبطة بزمن معين إلا أنهما متشابهان من حيث الشكل التحليلي الذي يتميز به بناؤهما الدرامي. فالأمر يدور في «تاسو» وفي «أوديت» حول الكشف التدريجي عن مشكلة أو مظهر فاسد كامن في طبيعة البطل نفسه، تزيده حيرته وتخبطه تعقيدا على تعقيد. ومن ثم كان العذاب الوجداني في «تاسو» وفي «أوديب» أهم من الفعل، والمعرفة المريرة التي تتكشف شيئا فشيئا أخطر بكثير من التطور التاريخي؛ ولذلك نجد البداية والنهاية في كليهما أشبه بصورتين متقابلتين. ف «أوديب» في بداية المأساة هو منقذ الجميع، وفي نهايتها المنبوذ من الجميع، و«تاسو» في بداية المسرحية هو الشاعر الذي يحتفل الجميع بتتويجه، ولكنه في نهايتها المطرود الذي حكم عليه بالدمار والانكسار. وإذا كان هناك فرق بينهما فإن أوديب قد حكم عليه قدر ظالم مجهول بالتردي في أخطاء لا ذنب له فيها، بينما أخطأ «تاسو» بخياله الجامح وعاطفته المتهورة في حق الزمن ونظامه، وحاول أن يفرض الحقيقة الشعرية على الواقع العملي الذي لم يتأهب لها. ولكن البطل هنا وهناك بدأ عظيما في مجده وانتهى عظيما في انهياره، وذلك هو جوهر المأساة. •••
ماذا نقول عن هذه القصيدة الطويلة الحزينة التي نسميها تاسو؟ أهي دراما أم مأساة، أهي قديمة أم حديثة؟ إننا نحار أمام هذا النسيج الرقيق الدقيق الذي لا يكاد يحدث فيه شيء، ومع ذلك فكأن الضرورة هي التي نسجت خيوطه، ونعيش في عالمه الأنيق الجميل، ومع ذلك يترك في نفوسنا شيئا يشبه الفزع الذي تتركه فينا المآسي الإغريقية حين تشعرنا بقسوة القدر الظالم المجهول. كيف يمكن أن تكشف هذه الحياة المنمقة الزاهية عن هوة من الحزن بلا قرار. وكيف يؤدي كل ما فيها من جمال ونظام وسمو في الأخلاق والتقاليد إلى تحطيم نفس رقيقة حساسة؟ أيمكن أن تمرض هذه النفس وتيأس في عالم يحبها ويرعاها ويدللها ويكاد يؤلهها؟ أم أن هذه الحياة المهذبة الراقية ليست إلا واجهة مصطنعة تخفي العداوة الحقيقية للشاعر الأصيل، وتكره عالمه المترفع عن عالمها الغارق في التكلف والتظاهر والمنافع والأغراض؟ ثم من المذنب في مأساة شاعرنا؟ أهم سكان البلاط الذين لا ندري إن كانوا أصدقاءه أو أعداءه ولا نعرف إن كانوا يضمرون له الشر أو الخير؟! أهم جماعة يتعاون كل فرد فيها على إنماء موهبته أم يتآمر على عبقريته فيستغلها لمصلحته، ويبطش بها إذا وجد أنها لم تعد تحقق أهدافه؟ أم يكون الشاعر نفسه هو المذنب، لأنه تجاوز الحد الذي كان عليه أن يلتزم به، وراح يغوص في وهم خداع جعله يقضي على سعادته ويلقي بالمسئولية على المحيطين به؟ ألا نحطم بذلك صورة الشاعر الذي يحمل رسالة فريدة ويعيش - وهذا حقه - في عالم لا يصح أن نتدخل فيه أو نحاول تشكيله على هوانا؟ ألا نسيء إلى الشعر نفسه حين نصور «تاسو» رجلا مريضا يسوقه الفشل النفسي خطوة فخطوة إلى الدمار؟ إن الأمر في «تاسو» كما قلنا يتعلق بالكشف لا بالتطور، وبالمعرفة لا بالحدث، وبالعذاب لا بالفعل. ولكن ما الذي يتكشف هنا ويعرف ويعانى؟ لو دققنا النظر في النص الشعري الذي بين أيدينا لتبين لنا أن الأمر فيه ليس أمر صراع درامي عادي، بين نفس عاطفية حساسة وعالم الدسائس والمؤامرات المحيط بها، بل إن موضوع المسرحية هو العذاب الذي يكابده الشاعر، والحديث الذي يدور بينه وبين نفسه المنطوية، والتناقض الخفي الذي كان يخفيه في صدره فساعد الوسط المحيط به، بإرادته أو بغير إرادته، على كشف الغطاء عنه. وبذلك تكون «تاسو» مأساة حديث ذاتي (مونولوج)، أو لحنا فاجعا وحيدا لا تقوم فيه بقية الشخصيات إلا بدور الأصوات المصاحبة، التي تغطي عليه أحيانا وتبرزه أحيانا أخرى.
إنها لا تمثل شخصيات تصطدم بالبطل أو تقف معه، كما هو الحال في الفعل الدرامي المعتاد. وإنما هي أشكال وصور تنعكس عليها نفسه وتشدها إلى وجدانها الوحيد وتفسرها تفسيرا شعريا خاصا بها، ولا يمنع هذا من أن تحتفظ بشخصيتها المستقلة، وكيانها الواقعي الذي يعجز الشاعر عن فهمه، ويرى نفسه مستبعدا منه. وليس من المهم أن تكون هذه الشخصيات معه أو عليه - فالواقع أنها جميعا تشجعه وتسترضيه وتخطب وده - بل المهم أن لكل منها وجوده الواقعي الذي يختلف عن وجوده الشعري الحالم، وأن هذه الحقيقة وحدها هي التي تدمر حياته وتكشف له عن مأساة موقفه، وذلك بمجرد أن يتضح له أن الموهبة لا بد أن تصطدم مع الحياة. وهكذا لا تقول المسرحية كلها أكثر من أن الوجود الشعري وجود مأساوي. لا يقتصر ذلك على مدينة «فرارا» وحدها، بل كذلك كان الأمر، وكذلك سيكون في كل مكان وزمان. ويزيد من قسوة هذا الإحساس أو من مرارة هذه المعرفة أن شاعرنا يعيش في وسط مدني مهذب راق - ولقد أوهم نفسه بأنه وجد في هذا الوسط الحالم الأنيق (على الأقل من الظاهر) ما يستجيب لصوته الشعري الباطن. ولكن المأساة كلها لم تصبح مأساة إلا لأنها تكشف النقاب شيئا فشيئا عن هذا الوهم، وتبين أن الذوق والتمدن لا يكفيان لإنقاذ الشاعر الذي كتب عليه أن يحيا ويموت وهو استثناء عظيم. تلك هي المعرفة التراجيدية التي يتعلمها «تاسو» ونتعلمها منه. وذلك هو سبب هذا الحزن الهادئ الفاجع الذي تملؤنا به هذه المسرحية، على الرغم من أننا نعلم أن الشخصيات كلها - بما في ذلك الوزير «أنطونيو» إذا أحسنا فهمه - تتضافر على حمايته وتتنافس في رعايته ومكافأته والعطف عليه. ولكنها لا تعلم أنها بذلك تزيد حياته تهديدا، وأنها بوجودها الواقعي وعالمها غير الشعري تزيده إحساسا بوحدته في عالمه الخيالي المثالي غير المحدود. •••
ما قيمة الشاعر بالنسبة لذلك العالم وما دوره فيه؟ إن المشهد الأول من المسرحية يرمز للإجابة عن هذا السؤال. فتاسو يظهر حاملا في يده ملحمته الشعرية التي فرغ من كتابتها، وإن لم يفرغ بعد من التشكك فيها والتفكير في إكمالها! وتتقدم الأميرة لتضع على رأسه إكليلا من الغار، كان المفروض أن يزين تمثال الشاعر الروماني الأكبر فرجيل. فإذا تأملنا هذا المشهد من ناحية البلاط وجدناه مظاهرة للتفاخر والإعلان، ومرآة تعكس زينته وأبهته. إن الأمير «ألفونس» محتاج إلى موهبة الشاعر لأنه سيظل بدونها في صف البرابرة المتوحشين، ولأنها تزيد أمجاده الواقعية أمجادا أخرى في عالم الشعر والخيال. إنه يستطيع الآن أن يقول للناس: انظروا! إن عندي، إلى جانب القصور والجيوش والآثار القديمة والخدم والحشم، شعراء وكتابا وفنانين، والدوقة «ليونورا سانفيتاله» محتاجة إليه، لأنها تريد أن ترى نفسها منعكسة على مرآة روحه الجميلة، ولأنها - وهي الأنانية المغرورة بفتنة الأنوثة - تستطيع أن تضيفه إلى الزوج والأطفال وتجرجره خلفها كأنه ذيل ردائها الأنيق ... إنها سيدة المجتمع الرائعة التي يهمها أن تضيف إلى ثروتها شاعرا موهوبا مسكينا! وإذا كانت تلجأ إلى المؤامرة التي لا ضرر منها، فلأنها تريد أن تستأثر به لنفسها، وتظهر مهارتها في إتقان ألعاب القصور. أما الأميرة فهي في حاجة إليه، لأن حياتها التي عانت من المرض والعذاب محتاجة لمن يرد إليها الحياة، ولأنها - وهي تلميذة أفلاطون - تعلم أن الشاعر وحده هو الذي يستطيع أن يسمو بها إلى عالم التجانس والصفاء والنقاء. فالشعر بالنسبة إليها هو الوسيلة الوحيدة التي بقيت أمامها لاحتمال الحياة المسرفة في المادية والغلظة والجهامة. إن الأميرة لا تتظاهر كغيرها، وهي أبسط نفسا وأرق حسا من أن تهين الشاعر بالعطف عليه. ذلك لأن أهم ما يميزها هو البساطة والسمو والكبرياء، حتى لتكاد كل كلمة تقولها وكل إشارة تصدر عنها أن تنطق بالترفع والابتعاد. إنها أفلاطونية تفكر تفكير الفيلسوف العظيم، وتشتاق إلى الجوهر الباقي وراء المحسوس المتغير، وموقفها من كل ما هو مادي موقف الترفع والتعفف، وحديثها إلى «تاسو» حديث روح إلى روح، لا حديث امرأة إلى رجل. فإذا ظن الشاعر في عنفوان عاطفته الملتهبة أنها تبادله حبا بحب، أسرعت تزجره عنها في رفق تارة، وفي عنف تارة أخرى؛ ذلك لأنه لم يكن بالنسبة إليها ولن يكون أكثر من واسطة إلى «العهد الذهبي» الذي مضى، ولن يعيده إلا الأخيار والطيبون. صحيح أنه «وسيلة» إلى هدفها، ولكن ما أعظم الفرق بين هذا الهدف وبين أغراض المحيطين بها في البلاط!
إذا كان هذا هو موقف الجميع من مشهد التتويج، فما أشد ما يختلف موقف «تاسو» منه! فليس الخيال والشعر بالنسبة إليه تجميلا للحياة أو زخرفة لها، بل إن الحياة عنده هي الخيال، والشعر هو الوجود؛ ولذلك فإن التتويج يفقد عنده قيمته المؤقتة المحدودة، وينقله إلى عالم غير واقعي، إلى وطن النشوة الخلاقة والتجربة الشعرية الذي يوجد في كل مكان، ولا يوجد في أي مكان؛ ولذلك فهو يدهش الجميع بتردده عن قبول الإكليل، ويغضبهم برعبه المفاجئ الذي يجعله يقول:
دعوني أتردد، فلست أدري
كيف يمكنني أن أعيش بعد هذه اللحظة.
وتنقلب لحظة التكريم إلى شقاء لا حد له. فهو يحس، كأن الإكليل يحرق شعره، ولهيب الحمى يعصف بدمه. ويشعر أن التاج الذي لم يكد يستقر على جبهته، قد انتقل به إلى جنة الخالدين، وطار به إلى مملكة قديمة مسحورة يتحد فيها البطل والشاعر، وتتعانق الفروسية والفن. ولكنه يشعر كذلك شعورا خفيا بأنه قد صار غريبا عن كل الوجوه التي تنظر فيه أو تبتسم له، وبأن «فرارا» ليست هي وطنه الذي كان يحلم به، بل إنه ككل الشعراء لا وطن له، حكم عليه بمحض وجوده كشاعر أن يعيش مهددا، ضائعا، يتحدث فلا يفهم، ويقول فلا يسمع.
ويتضح الدور الذي يمكن أن يقوم به الفن عامة، والشعر بوجه خاص في مثل هذا المجتمع، عندما يظهر الوزير «أنطونيو» في المشهد الرابع الذي يلي المشهد السابق.
Shafi da ba'a sani ba