بسم الله الرحمن الرحيم
مقدمة الطبعة الثانية (١)
صدرت الطبعة الأولى من هذا الكتاب " كتاب التشبيهات من أشعار الأندلس " سنة ١٩٦٦، وعلى ضوء ما قدمه من حقائق جديدة حول الشعر الأندلسي في العصر الأموي والعامري استطعت أن أجري تعديلات هامة وأورد نماذج جديدة في الطبعة الثانية من كتابي " تاريخ الأدب الأندلسي؟ عصر سيادة قرطبة " (١٩٦٩) . وفي هذه السنة نفسها ظهرت طبعة أخرى لكتاب التشبيهات، مكتوبة بخط اليد ومصدرة بمقدمة ألمانية، وقد قام بذلك كله الأستاذ عبد الستار محمد إبراهيم حسنين (الذي أرمز له في هذه الطبعة بالحرف ح إن لم أذكر اسمه كاملا، طلبا للاختصار) . ويظهر من الصفحة الأولى أن الأستاذ المذكور قد نال على تحقيق هذا الكتاب شهادة الدكتوراه من جامعة كيل، وكان أستاذه المشرف هو المستشرق الألماني الأستاذ هوينرباخ؛ ثم علمت أن الأستاذ " هوينرباخ " قد ترجم هذا الكتاب إلى الألمانية اعتمادا على تحقيق تلميذه، فيما يقول.
دعني أقر قبل الاسترسال في الحديث، والحديث ذو شجون، أنه ليس لدينا من كتاب التشبيهات حتى اليوم سوى نسخة وحيدة هي تلك التي تحمل رقم: ٤٦٠٢ بمكتبة إسماعيل صائب بأنقرة، وأن الشعر الذي تحتويه هذه النسخة ليس كثير الدوران في المصادر، وأن النسخة سيئة أو بالغة السوء إن شئت، تحريفا، وخطأ في الضبط، وقلة إعجام، وأن طرحها بين يدي تلميذ يتمرن
_________
(١) أقر أن في هذه المقدمة خروجا على منهج التزمته في التحقيق، وهو عدم التصدي للمماحكات والتهجميات. ولكن الدعوى في هذا الميدان قد استعر أوارها في السنوات الأخيرة، وأصبح الصمت مظنة ضعف أو إقرار بالخطأ؛ فلهذا أحببت أن أتحدث عن بعض الأوليات التي كنت أظن أنها ليست بحاجة إلى توضيح.
1 / 1
على التحقيق هو نوع من التعجيز، لهذا لا أستكثر أن يكون السيد حسنين قد صرف فيها قبل سنوات طوالا وهو يحاول أن يفك معمياتها، وليس السيد حسنين بملوم حين قبل هذا التكليف، فلعله كان يشعر أنه أقدر على التحقيق منه على البحث والكتابة بلغة ألمانية؟ وهو لا يتقنها؟ ولكن ما بال أستاذ مرموق مثل هوينرباخ يرضى أن يكلف تلميذا مبتدئا في التحقيق العمل على نسخة وحيدة؟ بل كيف يرضى أن يكون تحقيق مخطوطة محكا لتدريب طالب على البحث العملي؟ أكبر الظن أنه رضي بكل ذلك ليقطف ثمرة ذلك الجهد من بعد فيترجم الكتاب إلى الألمانية.
ولكن أي جهد؟ تشاء الأقدار أن تقع المخطوطة في يدي، وأنا؟ علم الله؟ لا أعرف أنها موضع تحقيق من شخص آخر، وأن أنشرها، وأن يصل الكتاب المنشور إلى الأستاذ حسنين، وهو يعد رسالته، فيمضي في إعدادها مستفيدا من القراءات والتوجيهات التي قمت بها، ولقد سيطر عليه التحقيق الذي قمت به حتى لقد تابعني في بعض أخطائي (١)، ولكنه؟ وهو إنسان مخلص؟ أحس بالحرج الشديد إزاء الطبعة التي أصدرتها، فأخذ يحاول جاهدا أن يتفرد بالقراءة، ليحقق لنفسه شيئا من التميز، وأن يسهب في بعض تعليقاته ليرد ردا مواربا على بعض ما يعده خطأ من قراءتي، وبالجملة يمكن أن يقال إن الطبعة المذكورة قد أوجدت نوعا من " العقدة " في نفسه؛ إلا أنه بين الشعور بالضرورة والحرج مضى في عمله حتى استغلظت الرسالة واستوت على سوقها بعد أن أعياه أمرها زمنا طويلا. وأبادر فأقول: إنني أسامح الأستاذ حسنين حين ضم جهودي إلى جهوده، وأعد ذلك " صدقة " علمية، لا بد من أن يؤديها المرء منا بين الحين والحين، ولكني أعجب؟ مرة أخرى؟ لأستاذه كيف رضي له بذلك.
والله يعلم أني أسفت كل الأسف حين وجدت السيد المذكور مضطرا إلى إيراد تلك المقدمة الاعتذارية (٢)، محاولا أن يسوغ بها؟ لنفسه ولأستاذه؟ إصراره
_________
(١) مثال ذلك (ص: ٢٧٧ من طبعة بيوت) قد كان يخشى مسها فيما مضى، وفي أصل النسخة " يخشن " والأصل هو الصواب، وقد غيره أيضا الأستاذ حسنين، متابعة لطبعة بيروت، وهناك أمثلة أخرى لا مجال لتعدادها.
(٢) صدرت نشرة الأستاذ حسنين سنة ١٩٦٩، وفيها المقدمة التي أشير إليها في ثماني صفحات.
1 / 2
على المضي في عمل، فما كنت أحب له الوقوع في الحرج. ولكن ماذا يورد الأستاذ حسنين من أسباب تجعله يمضي في عمله؟ عمله الذي يؤهله لنيل الدكتوراه؟ يقول في ما مجمله: أنني أخطأت في بعض القراءات ولم أهتد إلى بعض التخريجات التي اهتدى إليها (وهذان أمران طبيعيان يستوي فيهما جميع المحققين دون استثناء) . وثالثة الأثافي أنه غير راض عن طريقتي ومنهجي في التحقيق لأني أغير النص في المتن ولا أشير إلى ذلك التغيير في الحاشية. وهذه " الكبائر " الثلاث تستحق جميعا مقالا من عشر صفحات أو عشرين يعقب به على كتابي، ولكنها لا تصلح أن تكون أساسا لرسالة ينال بها الدكتوراه، ثم يقوم بنشرها، من دون أن يبرز في مقابل ذلك نسبة التصويبات والتخريجات التي أخذها سائغة من غير تعب، وقال له أستاذه وهو يأخذها: هنيئا مريئا.
وأنا أترك الحديث عن الكبيرتين الأوليين، وأتناول الثالثة أعني تغيير بعض القراءات في المتن دون الإشارة إليها في الهامش، فأتساءل: أي القراءات هي التي أغيرها؟ لنأخذ نموذجا مما نعقبه الأستاذ حسنين، جاء على الصفحة الثالثة والثلاثين من الطبعة البيروتية:
تبدوا به شعث تطير أمامها ... شعل تطير لها القلوب فتذعر
ألا هل رأت عيناك إيماض بارق ... بدا موهنا في الجو بين سحابه
كأن التي من أرضها لاح وكلت ... به بخلها في جيه وذهابه فقرت " تبدو " (وحذفت الألف)، ثم قرأت " شعب " لأن " شعث " هنا لا معنى لها؛ وقرأت موهنا (بفتح الميم)؛ وقرأت " جيئه " بإثبات الهمزة.
وهذه الأخطاء تمثل:
(١) خطأ إملائيا (تبدوا) في النسخة، وهذا مما لا يستوقف المحقق، إذ قد جرت القاعدة على تحويل الإملاء في المخطوطات إلى طريقة الإملاء الحديث، والإشارة إلى ذلك إن شاء الله المحقق في المقدمة، في سطور، لئلا يظل المحقق يقف عند كل إملاء مغاير فيحشو هوامشه بأمور لا قيمة لها. وهذا النوع
1 / 3
من الأمانة والسذاجة هو الذي جعل الأستاذ حسنين يشير في ما لا يقل عن أربعين موضعًا في الحواشي إلى أن لفظة " الدجى " كتبت في المخطوطة بالألف الطويلة ومثل ذلك: العدا والظبا، والضنا ... الخ، إلى عشرات من الألفاظ التي توقف عندها لاختلاف الإملاء، ولو أشار إليها في المقدمة لوفر على نفسه عناءً كثيرًا في تلك الحواشي المثقلة بما حملها من أعباء.
(٢) خطأ في الأعجام (شعث أصبحت شعب)، ومثل هذا الخطأ أشرت إليه في الحواشي عشرات المرات، فلماذا لم أشر إلى الأصل عندما أثبت قراءة " شعب "؟ لأني لا أثبت أية مقارنة لا تفيد معنى، ونما ألتزم بالإشارة إلى كل أصل يتحمل قراءة مخالفة لقراءتي، فأما ما لا يحتمل إلا وجهًا واحدًا من القراءة فأنا أرى أن الإشارة إليه لا ضرورة لها. وهذا التشبث المتعسف لدى حسنين هو الذي جعله يثبت صورًا لألفاظ لا تعطي معنى مثل يرجيه (خ: يرحيه) تزجي (خ: ترحي) باطن (خ: باطر) نقنق (خ: لفنق) مناظر (خ: مناظو) .
ويلحق بهذا النوع ويقترب منه انعدام الاعجام. ترى ماذا كان الدكتور حسنين صانعًا لو أنه وجد مخطوطة لا تلتزم الاعجام (مثل مخطوطة أنساب السمعاني بخط السخاوي) . أكان يثبت كل لفظة لم تعجم، ليقول إلى جانبها " وردت غير معجمة في الأصل "؟! هذا أيضًا مما يشار إليه في المقدمة، ولا ضرورة إلى التوقف عنده إلا حيث يكون لصورة الكلمة الواحدة قراءات أخرى محتملة، وهذا شيء يتصل بالقرينة، فالقرينة قد تكون حاسمة في اعتماد وجه واحد من القراءة وقد تكون غير ذلك؛ وبعبارة موجزة: كل نقص واضطراب في الاعجام لا يثير لبسًا فليس من الضروري الإشارة إليه، ومثال ذلك على نحو حاسم: كجمر الغضا في لونه المتوقد (وهي في الأصل: كحمر، وليس لها وجه ثان إلا كجمر؟ بالجيم -)
حركات أيدٍ بالسلام لطاف (في خ: حوكات أسد؟ دون إعجام الكلمة الثانية) وليس من وجه آخر لها سوى سوى ما ثبت مصححًا.
فأظنه النهر الذي لم يستطع (خ: تستطع) والضمير عائد للنهر قطعًا بحسب القرينة، فما معنى إثبات ما في النسخة الأصلية؟
1 / 4
وأنا أعذر الأستاذ حسنين في سذاجته، لا أمانته، فهو متدرب مبتدئ والطريقة التي اتبعها تدل على المغالاة في إبراز الجهد، أو على قلة ثقة في النفس لما تفرضه بدايات الأشياء من تهيب، أو أنه فعل ذلك نزولًا على رأي الأستاذ المشرف، وأرجح هذا الفرض الأخير، لأن هذه الطريقة كانت نموذجًا يحتذيه بعض المستشرقين في القرن التاسع عشر وأوائل العشرين، عجزًا منهم عن تبين وجه حاسم للصواب.
(٣) خطأ في الشكل (مُوهنًا أصبحت مَوْهنًا) وهذا من قبيل " الخطأ " الإملائي، يشار إليه في المقدمة وحسب؛ فالشكل في المخطوطة ليس ملزمًا للمحقق، إلا إذا كانت نسخة عالم مرموق أو قرئت على عالم مشهور، أما في مخطوطة كتاب التشبيهات التي لا يعرف ناسخها ولا تاريخ نسخها، وفي أمثالها، فصواب اللفظ هو ما صوبه المعجم لا غير.
(٤) مشكلة كتابة الهمزة (جيه أصبحت جيئه) وهذا من باب الإملاء أيضًا، وليس هو خطأن إذ لم تكن للهمزة قاعدة مضبوطة عند النساخ، وما تزال كتابتها في الإملاء الحديث محط اختلاف كثير، فأنا أكتب يقرأون " بهمزة فوق الألف " وغيري يكتبها يقرؤون؛ والمطبعة المصرية تكتب: " شئون " و" رءوس " وغيرها يكتب " شؤون " و" رؤوس "، وكان أحد أساتذتنا في جامعة القاهرة يكتب " يأيها " وأنا لا أستطيع أن أقرأها إلا إذا كتبتها " يا أيها " والأستاذ حسنين يكتب " هأنذا " وأنا أصر على أن أكتبها كما ألفظها " ها أنا ذا ".
يتخلص من كل ذلك أن التغييرات الأساسية أو المواطن التي تتحمل قراءة أخرى أو عددًا من القراءات هي التي يشار إليها في الحواشي، ومن أمثلة ذلك:
(١) يكاد وجه من يراه: الوزن مكسور، فإذا غيرت " من " وجعلتها " الذي " استقام الوزن، ولابد الإشارة إلى ذلك، لأنه تغيير تام لصورة الأصل.
(٢) هوت للعذل في أهل التصابي بهن: " هوت " لا معنى لها وقد قدرت أن تكون " يموت العذل ... " وأثبت الأصل، لأنه قد تكون هناك قراءة أخرى محتملة، وقد صح التقدير إذ قرأها الأستاذ حسنين " يهون " ولا تزال " يموت "
1 / 5
في نظري أقرب إلى المعنى لأن التتمة " فما لأهل العشق لاح " وانعدام اللواحي يدل على موت العذل أكثر من الدلالة على هوانه؛ ومع ذلك أرى أن " يهون " قراءة جيدة.
(٣) وقد قطفت شهدًا مدمة ثغره: قرأتها " وقد قطبت " بمعنى " مزجت " وأشرت إلى الأصل، لأني أخشى أن تكون " قطبت " محض تحكم، إذ إن في " قطفت " رائحة ولو يسير من معنى.
ذلك ما أرتئيه؟ بوجه عام؟ لأني أعتقد أن الاقتصاد في الحواشي، وهي اشمل اختلاف القراءات والتخريجات والتعليقات وأحيانًا التعريف بالأعلام والأماكن، قاعدة ضرورية في التحقيق، وربما لم ينصح المبتدئ بالحسم البات في وجوه القراءة من أول الشوط، فكثيرًا ما رأينا أساتذة ممن يعدون كبارًا يخطئون في الأوليات، وإني لأذكر أستاذًا كبيرًا حقق كتابًا فقرأ " كحمر الغضا " بدلًا من " كجمر الغضا " وشرح ذلك في الحاشية؛ وهذا جهل لا يقاس عليه. ولكن ليس من جحق ذلك المبتدئ أن يفرش أوليات التحقيق على غير المبتدئين.
وبعد، فهذه هي الطبعة الثانية (١) مزودة بتصحيحات ضرورية وتعليقات وتخريجات جديدة، أفادنيها إطلاعي على ما جد ظهوره من مصادر. وقد أفدت فيها أيضًا من قراءات الأستاذ حسنين، فقد كان دقيقًا في التحري، حتى لقد حاسبني على الأخطاء المطبعية، وحسنًا فعل، لأنه نبهني إليها لأتداركها في هذه الطبعة؛ وبالجملة يدل عمله على أنه كان محققًا واعدًا، وأن معرفته باللغة معرفة جيدةً وهذا ما يجعلني أتساءل: أين هو الأستاذ حسنين؟ أين ما كان ينبئ به عمله من اهتمام بالتراث تحقيقًا وضبطًا؟ لماذا اختفى من دنيا العلم؟ لماذا كانت
_________
(١) بين ظهور الطبعة الأولى والثانية فجعت بفقد صديقي العلامة الأستاذ محمد بن ثاويت الطنجي باستانبول (سنة ١٩٧٣) . وفجع العالم العربي والإسلامي بعالم من خيرة العلماء والمحققين. لقد كان تحقيقي لهذا الكتاب بحافز منه، فهو الذي أهداني منه ميكروفيلم - كما ذكرت ذلك في مقدمة الطبعة الأولى - فقد كان سمحًا سخيًا يخدم التراث في صمت ونزاهة نفس، طيب الله ثراه.
1 / 6
هذه الرسالة يتيمة أو كما يقال أحيانًا " بيضة الديك "؟ خناك إبهام الأمر، وإن كنت أقول بعد ذلك: لعل له عذرًا....
ومهما يكن من شيء، فإن إيماني بما يمثله كتاب التشبيهات من قيمة بالغة لدارسي الأدب الأندلسي؟ وخاصة في الفترة الأموية والعامرية؟ وهو الذي دفعني إلى إعادة النظر فيه، وبعثه من جديد، بعد أن ترامت المسافة الزمنية به، فأبعدني عنه، وإني لأرجو أن يجد فيه الدارسون معينًا يسعف على استئناف نظرهم في الأدب الأندلسي وتصورهم لأبعاده، وأن يكون حافظًا لدراسات جديدة في هذا الميدان، والله الموفق.
بيروت في كانون الثاني (يناير) ١٩٨١ إحسان عباس
1 / 7
مقدمة الطبعة الأولى (١)
١ -؟ من هو مؤلف الكتاب؟:
على الورقة الأولى من المخطوطة أنه الشيخ أبو عبد الله محمد بتن الكتاني الطبيب، ولم يذكر هنا اسم أبيه، وقد ترجم القاضي صاعد لمن كنيته أبو عبد الله واسمه محمد وشهرته ابن الكتاني فذكر أن أباه هو " الحسين " وقال في ترجمته (٢): " كان أخذ الطب من عمه محمد بن الحسين (٣) وطبقته، وخدم به المنصور محمد ابن أبي عامر وابنه المظفر، ثم انتقل في صدر الفتنة إلى مدينة سرقسطة واستطونها؛ وكان بصيرًا بالطب متقدمًا فيه ذا حظ من المنطق والنجوم وكثير من علوم الفلسفة. أخبرني عنه الوزير أبو المطرف عبد الرحمن بن محمد بن عبد الكبير بن وافد اللخمي أنه كان دقيق الذهن ذكي الخاطر جيد الفهم حسن التوليد والتنتيج (٤)، وكان ذا ثروة وغنى واسع وتوفي قريبًا من سنة عشرين وأربعمائة، وقد قارب ثمانين سنة. وقرأت في بعض تآليفه قال: أخذت صناعة المنطق عن محمد بن عبدون الجبلي (٥) وعمر بن يونس بن أحمد الحراني (٦) وأحمد بن حفصون الفيلسوف (٧) وأبي عبد الله محمد بن ابراهيم القاضي النحوي وأبي محمد عبد الله
_________
(١) قد عدلت في هذه المقدمة - في الطبعة الثانية - فأضفت إليها، وغيرت شيئًا في ترتيبها، فلم تعد هذه المقدمة الأولى نفسها.
(٢) طبقات صاعد: ٨٢.
(٣) هو أبو الوليد محمد بن الحسين كان عالمًا بطالب حسن العلاج لطيف المعاناة سريًا محببًا إلى الناس وخدم الناصر والمستنصر (صاعد: ٨٠ وابن جلجل: ١٠٩ وابن أبي أصيبعة ٢: ٤٥) .
(٤) ابن أبي أصيبعة: حسن التوحيد والتسبيح.
(٥) ترجمة في طبقات صاعد: ٨١ وابن جلجل: ١١٥ وابن أبي أصيبعة ٣: ٤٦ والتكملة: ٣٦٧.
(٦) صاعد: ٨٠ وابن جلجل: ١١٢ وابن أبي أصيبعة ٢: ٤٢.
(٧) صاعد: ٨٠ وابن جلجل: ١١٠ وابن أبي أصيبعة ٢: ٤٦.
1 / 8
ابن مسعود البجاني (١) ومحمد بن ميمون المعروف بمركوش (٢) وأبي القاسم فيد بن نجم وسعيد بن فتحون السرقسطي المعروف بالحمار (٣) وأبي الحارث الأسقف تلميذ ربيع بن زيد الأسقف الفيلسوف (٤) وأبي مروان البجاني (٥) ومسلمة بن أحمد المرجيطي (٦) ".
وهذه الترجمة التي أوردها صاعد نقلها ابن أبي أصيبعة (٧) وعن ابن أبي أصيبعة نقلها الصفدي في الوافي بالوفيات (٨) .
وقد كان من الممكن أن نقف عند هذا الحد في تعيين المؤلف لولا أن الحميدي ترجم لرجل آخر كنيته أبو عبد الله وشهرهته " ابن الكتاني " واسمه " محمد " ولكن أباه اسمه " الحسن " وهو منسوب إلى مذحج فيقال فيه " المذحجي " وهذا نص ما قاله (٩): " محمد بن الحسن أبو عبد الله المذحجي يعرف بابن الكتاني، له مشاركة قوية في علم الأدب والشعر وله تقدم في علوم الطب والمنطق وكلام في الحكم ورسائل في كل ذلك وكتب معروفة. أخبرنا عنه أبو محمد علي بن أحمد (١٠) قال: سمعته يقول لي ولغيري: إن من العجب من يبقى في العالم دون تعاون على مصلحة، أما يرى الحراث يحرث له والبناء يبني له والخراز يخرز له، وسائر الناس كل يتولى شغلًا له في مصلحة وبه إليه ضرورة، أما يستحي أن يبقى عيالًا على كل من العالم؟ ألا يعين هو أيضًا بشيء من المصلحة؟ قال لنا أبو محمد: ولعمري إن كلامه هذا لصحيح حسن وقد نبه الله تعالى عليه بقوله
_________
(١) الذخيرة ١ / ٢: ٥٦٢ - ٥٦٧.
(٢) ابن أبي أصيبعة: مركوس، انظر الجذوة: ٨٦ وبغية الملتمس رقم: ٢٨٤.
(٣) صاعد: ٦٧ والجذوة: ٣١٦ وبغية الملتمس (رقم: ٨٣١) .
(٤) ربيع الأسقف: له ذكر في دولة الناصر ويبدو أنه وفد من المشرق (انظر أزهار الرياض ٢: ٢٧٠) .
(٥) ابن أبي أصيبعة: وأبي مرين، والصفدي: مدين البجاني.
(٦) صاعد: ٦٩ وابن أبي أصيبعة: ٣٩.
(٧) انظر ابن أبي أصيبعة ٢: ٤٥.
(٨) انظر ج؟ ٣: ١٦ (والترجمة رقم: ٨٧٣) .
(٩) جذوة المقتبس: ٤٥ - ٤٦.
(١٠) هو الفقيه ابن حزم.
1 / 9
(وتعاونوا على البر والتقوى) فكل ما لمخلوق فيه مصلحة في دينه أو فيما لا غنى به عنه في دنياه فهو بر وتقوى. قال لي أبو محمد: وله كتاب سماه كتاب " محمد وسعدى " مليح في معناه وعاش بعد الأربعمائة بمدة؛ ومن شعره: ... الخ.
وقد نقل الصفدي هذه الترجمة في الوافي أيضًا عن الحميدي (١) . وهكذا اجتمع في كتاب الصفدي ترجمتان من مصدرين مختلفين إحداهما لمحمد بن الحسين والثانية لمحمد بن الحسن؛ ويكاد أن لا يكون بينهما اختلاف إلا في اسم الأب حيث الخطأ سهل الوقوع:
١ -؟ فهما يتفقان في الاسم والكنية والشهرة.
٢ -؟ وفي شهرتهما بالطب والمنطق والنجوم وكثير من علوم الفلسفة.
٣ -؟ وقد عاشا في وقت واحد، والنص على تاريخ الوفاة عند صاعد أدق.
٤ -؟ وأضاف الحميدي إلى شخصه ابن الكتاني نشاطًا لم يشر إليه صاعد وهو " مشاركته القوية في علم الأدب والشعر " وذلك شيء ربما لم يكن يهم صاعدًا وهو يتحدث عن النشاط الفلسفي والطبي لدى الأندلسيين.
٥ -؟ وزاد الحميدي نسبة " المذحجي " إلى ابن الكتاني محمد بن الحسن ولعل فقدان هذه النسبة عند صاعد أمر ثانوي القمية.
فهل الترجمتان لشخص واحد أو لشخصين مختلفين؟: لقد حل كل من ابن الأبار وابن عبد الملك المراكشي هذا اللبس حين ترجما (٢) لمن اسمه: محمد ابن الحسن بن الحسين المذحجي أبو عد الله الكتاني، فأوردا ما قاله صاعد عن محمد بن الحسين، وما قاله الحميدي عن محمد بن الحسن، وبذلك أثبتا أن الترجمتين لشخص واحد، وأن الصفدي في تكرار الترجمة كان ضحية النقل عن مصدرين مختلفين.
_________
(١) انظر الجزء ٢: ٣٤٨ (رقم الترجمة: ٨٠٧) .
(٢) التكملة: ٣٨٣ والذيل والتكملة ٦: ١٦٠.
1 / 10
فأبو عبد الله الكتاني المتطبب إذن هو محمد بن الحسن بن الحسين صاحب كتاب التشبيهات، وهو مؤلف " محمد وسعدى "، وعذا من باب مشاركته في النواحي الأدبية، كذلك كانت له مؤلفات أخرى في الطب والمنطق ورسائل في ذلك معروفة لدى الأندلسيين، ولكن صاعدًا وهو أحق الناس بذكرها تجاوز عن ذلك لشهرتها. وهذا الرجل هو أستاذ ابن حزم في المنطق، فقد ذكره بعض كتبه وأثنى عليه بأنه من أهل التمكين في علوم الأوائل وأن كلامه في هذه الأمور كلام من يقتدى به (١) . وذكر الذهبي في ترجمة ابن حزم أنه أخذ المنطق عن محمد بن الحسن المذحجي وأمعن فيه فبقي فيه قسط من نحلة الحكماء (٢) .
والكتاب الذي بين أيدينا يدل على أن مؤلفه لم يتجاوز عام ٤٢٠، إذ إن جميع الشعراء الذي ساق لهم شعرًا في كتابه هذا ينتمون إلى الفترة الأموية والعامرية، وأبعدهم وفاة مثل ابن دراج وعبادة ويونس بن عبد الله (توفي سنة ٤٢٩) إنما نالوا الشهرة الأدبية في الفترة نفسها.
وهذا أمر لا يختل في الكتاب إلا مرة واحدة وذلك حيث جاء على الصفحة ٢٣٦ " وقال أبو إسحاق الخفاجي في الشمعة " فإذا كان أبو إسحاق الخفاجي هو ابن خفاجة شاعر الطبيعة المشهور، فمعنى ذلك أن المؤلف لا يمكن أن يكون قد توفي في الحدود التي قدرتها، لأن ابن خفاجة ينتمي إلى عصري ملوك الطوائف والمرابطين. ولكن أود أن يتنبه القارئ للحائق الآتية:
(١) أن الباب الذي وردت فيه أوصاف الشمعة باب مضطرب، ووصف الشمعة فيه دخيل على الباب لأن العنوان المثبت له هو " باب في المذبة والمروحة ولم يعودنا المؤلف على مثل هذا الخلط الذي عرض في هذا المقام.
(٢) إن الناسخ نبه مرة إلى أنه يدرج في المتن شعرًا ليس من " الأم "، (انظر ص ٢٦٠) وهذا يجعلنا نعتقد بأن النسخة تعرضت في هوامشها لبعض الزيادات،
_________
(١) الأصول والفروع: ٨.
(٢) تذكرة الحفاظ: ١١٤٧.
1 / 11
ولا أستبعد أن تكون أبيات الخفاجي منها وإن عدم التنويه بذلك سهو من الناسخ، وأن اضطراب الباب الذي وردت فيه أوصاف الشمعة قد يقوي القول بوجود زيادات لم ينتبه لها الناسخ المذكور.
(٣) لعل أبا إسحاق الخفاجي شاعر غير ابن خفاجة وإن كنا لا نملك له ترجمة فيما بين ايدينا من مصادر، ثم إن القطعة التي أوردها ابن الكتاني له غير واردة في ديوان ابن خفاجة مما يثير شكًا في النسبة والاسم معًا.
(٤) ليس من المعقول أن يدرك المؤلف عصر ابن خفاجة ويهمل جميع شعراء عصر الطوائف من أمثال ابن عبدون وابن زيدون وان عمار وعشرات غيرهم بل أن يهمل شاعرًا أقرب من هؤلاء عهدًا هو ابن شهيد وهو ذو باع طويل في التشبيهات.
ولهذا أعتقد أن مؤلف الكتاب هو محمد بن الحسن الكتاني، وأن قطعة الخفاجي؟ إن كانت لابن خفاجة؟ تمثل عنصرًا دخيلًا على الكتاب، ومثل هذا الزيادات التي تلحق الكتب مع الزمن أمر معروف لكل من تمرس بالتحقيق.
[وقد ذكر ابن بسام في الذخيرة (١) من كنيته أبو عبد الله وجرفته الطب وسماه محمد بن الكتاني، وكل هذه الخصائص تلتقي مع مؤلف هذا الكتاب بل صرح بأنه هو نفسه محمد بن الحسن المذحجي أستاذ ابن حزم، ولكنه أورد بعد ذلك ما يدل على أنه كان صاحب قيان وأنه كان " فرد أوانه، وباقعة زمانه، منفقًا لسوق قيانه، يعلمهن الكتاب والأعراب وغير ذلك من فنون الآداب " ووصفه بالتحيل واستعمال ضروب من الكذب وزور المقال، وأنه كان ربما أنشأ رسائل ينحلها القيان ليبيعهن بأغلى الأثمان، وقد باع لابن رزين قينة بثلاثة آلاف دينار. وأورد له رقعة في تعليم القيام يقول فيها: " واعتبر ذلك بأن في ملكي الآن أربع روميات، كن بالأمس جاهلات، وهن الآن عالمات حكيمات منطقيات فلسفيات هندسيات موسيقاويات اسطرلابيات معدلات نجوميات
_________
(١) الذخيرة ٣ / ١: ١١٢، ٣١٨ - ٣٢٠.
1 / 12
نحويات عروضيات أديبات خطاطيات، تدل على ذلك لمن جهلهن الدواوين الكبار التي ظهرت بخطوطهن في معاني القرآن وغريبه ذلك من فنونه، وعلوم العرب من الأنواء والأعاريض والأنحاء، وكتب المنطق والهندسة وسائر أنواع الفلسفة ... " ثم يتبجح مفتخرًا بعرض تجربته ويقول: ولا تطمع أن تظفر بعالم مثلي أو متفرغ فضولي شبهي ".]
[وقد توقفت طويلًا عند هذا الفصل وتشككت في أن يكون الشخصان واحدًان وإنما حملني على ذلك مبلغ ما يوليه ابن حزم لأستاذه من تقدير علمي وأخلاقي يبعد عنه صفة التحيل وركوب الكذب ومقالة الزور. ولكن بعد التأمل لاح لي وجه آخر، فهذا هو ابن الكتاني المذحجي أستاذ ابن حزم، وقد نقلت عنه حكاية من تعليقات ابن حزم نفسه تدل على اتجاره بالجواري، إذ تصوره ذات يوم في منطقة الشمال في مجلس العلجة بنت شانجة ملك البشكنس، وفي المجلس فتيات مسلمات أسيرات منهن ابنة الشاعر سليمان بن مهران السرقسطي، وأنها غنت بأبيات وبكت فلما سئلت عن سبب بكائها ذكرت أن الأبيات لأبيها (١) وقد ساء ابن بسام أن أبي الكتاني لم يمتعض لتلك الجارية، بعدما عرف نسبتها، ولم يحاول افتكاكها من الأسر، وأنه اكتفى بإظهار جزعه على حالها] .
[وهذا هو سياق ما أورده ابن بسام مجملًا، وهو يدل على أن ابن الكتاني المتطبب كان يحترف تجارة الرقيق، وقد تبدو هذه المسألة في نظرنا اليوم مخلة بمكانة من يزاولها، خصوصًا وأن النخاسين أصحاب القيان لم يكونوا يرتفعون عن الشبهات في تسهيل " المودات "؛ وقد سكت ابن حزم عن حرفة أستاذه لسبب لاندريه، ولكن لا أظن أن سكوته كان استنكارًا لذكر مثل تلك الحرفة، بل لعله؟ وإن سكت عنها؟ كان يعدها من مزاياه، إذ كان يقدم للمجتمع الأندلسي فتيات " مثقفات "؛ وكان جزء من تلك الثقافة هو ما عرف به ابن الكتاني من مهارة في المنطق والفلسفة وسائر علوم الأوائل] .
[وما وصفه بالتحيل والكذب وقول الزور، فإنه صادر عن ابن حيان،
_________
(١) المصدر نفسه: ٣١٨ - ٣١٩.
1 / 13
وهو مؤرخ لا يتعفف كثيرًا حين يثلب؛ وقد ضاع الجانب الإيجابي مما نقدر أنه قاله في ابن الكتاني بضياع معظم الأجزاء من كتبه؛ وأما هذه الرسالة وما فيها من تفاخر توحي بأنها كتبت لتعبر عن الجانب الهزلي لدى الرجل، ويجب أن تؤخذ مأخذ الفكاهة، ولا تحمل على محمل الجد] .
[ولكل هذه الأسباب يظل ابن الكتاني تاجر الرقيق هو نفسه مؤلف كتاب التشبيهات، وفي ما أورده ابن بسام توضيح لجانب لم يكن معروفًا دلينا من شخصيته] (١)
٣ -؟ كتاب ابن الكتاني [عرض وتقييم]
لعل مقطع القول في تبيان قيمة هذا الكتاب أنه أوفى مجموعة شعرية وصلتنا تمثل عصر بني أمية والعامريين حتى أواخر الفتنة البربرية في تاريخ الأدب الأندلسي، فهذه الفترة لم تصلنا دواوين شعرائها وكل ما نملكه من الشعر الأندلسي الذي يمثلها قطع مبثوثة في كتب التاريخ والتراجم، وقطعة لعدد من الشعراء أوردها الثعالبي في اليتيمة، فهو على أنه نماذج مختارة في موضوعات مختلفة يسعف على معاودة النظر في شعر ذلك العصر، ويصحح كثيرًا من الأحكام التي أجراها عليه الدارسون، ويوسع من حدود المجال الشعري والفني في تلك الفترة.
وقد قسم الكتاب على ستة وستين بابًا تناول كل باب موضوعًا، فأول الأبواب يحتوي نماذج من التشبيهات في السماء والنجوم والقمرين والثاني في انبلاج الصبح والثالث في البرق والرعد، وهكذا تستمر الأبواب حتى نهاية الثاني عشر في إيراد الصور المتصلة بالطبيعة ومظاهرها المتنوعة؛ وبالثالث عشر يبدأ باب في الخمر، وفي هذا الموضوع أبواب ثلاثة. ثم يبدأ السادس عشر بالقيان والغنين وتأتي أبواب في أدوات الغناء وفي مادة الغناء، أي الشعر، وبذلك ينتهي الجزء الأول وفيه؟ كما ترى؟ ترتيب متعمد، لموضوعات ذات علاقة فيما بينها متدرجة.
_________
(١) ما بين معقفين في هذا النص من أوله إلى آخره مزيد على مقدمة الطبعة الأولى.
1 / 14
ويفتتح الكتاب الثاني بالباب التاسع عشر، حيث تتعلق الصفات بذكر الجمال الإنساني أو الحسن. ومن الطبيعي أن تجيء الأبواب التالية في الشعر وأصداغ القيان والغلمان والوجه والخدود والعيون والثغور والنهود والقدود، ويقطع هذا الترتيب المتدرج في تبيان جمال الأعضاء الباب (٢٧) فيتحدث فيه عن طيب الحديث، ثم يعود إلى ذكر الخصور والأرداف، وبعد ذلك ينتقل إلى المواقف العاطفية كالعناق والوداع والبكاء والسهر ومراعاة النجوم وزيارة الطيف والنحول والوقوف على الديار والتياح النيران. وبهذا تنتهي الأبواب لمتصلة بموضوعين كبيرين: الجمال والحب؛ ويبدأ الكتاب في الباب السابع والثلاثين بالتحول إلى وجهة أخرى فتتناول أبوابه مادتين:
(أ) الصراع بين الإنسان والطبيعة من شتاء وصقيع وقطع للمفاوز والبحار وصيد الحيوان، ومواجهة الحيات.
(ب) الصراع بين الإنسان والإنسان أي الحرب وما يتعلق بها وبالآئها المختلفة وما ينجم عنها من قتل وصلب وخوف ... الخ. وهكذا نرى أن الكتاب الثاني أيضًا على انقسامه في موضوعين كبيرين قد جعل الموضوعات الإنسانية في السكون والحركة هي مجاله الكبير.
أما الجزء الثالث الذي يبدأ بالباب الثاني والخمسين فإنه يتناول الكتابة وأدواتها وبعض الآلات الحضارية الأخرى كالمذبة والمروحة ولكنه ينتقل فجأة من هذا المهيع الحضاري إلى الحديث في الأخلاق من وجود وبخل وفي أصناف من الناس كالطفيليين والثقلاء، وتنحو أشعار الباب هنا نحو الهجاء والسخرية ليتلوها أبواب في الاعتبار بالفناء وفي الشيب والهرم وذكر الموت، ثم يختم الكتاب بباب عنوانه " باب شواذ تقل نظائرها " ويبدو في الجزء الثالث أن المؤلف قد أعياه الالتزام بشيء من الترتيب المتدرج الذي التزمه في الجزءين السابقين وأنه حشد في الجزء الثالث أبوابًا متفرقة كما حشد في الباب الأخير موضوعات متفرقة أيضًا تأبى على التقسيم.
[والكتاب يقع في سلسلة من الكتب ألفت ف الموضوع نفسه، في المشرق، منها كتاب لحمزة الأصفهاني وآخر لابن أبي عون، وعند مقارنة هذا الثاني
1 / 15
بكتاب ابن الكتاني نجد شبهًا كبيرًا في عناوين الأبواب، مما قد يشير في هذه الناحية إلى تأثير المؤلف الأندلسي بالمشرقي، وقد كان كثير من مؤلفي الأندلس؟ وبخاصة ابتداءً من عهد الحكم المستنصر؟ يضعون نصب أعينهم عند التأليف في أحد الموضوعات مؤلفًا مشرقيًا؛ فنحن نعلم أن كتاب الحدائق لابن فرج إنما كان محاكاة لكتاب " الزهرة " لابن داود الأصفهاني، وأن كتاب ربيعة وعقيل من تأليف حسان ابن أبي عبدة إنما ألف على مثال كتاب لأبي السري سهل بن أبي غالب ألفه لهارون الرشيد (١) وأن كتاب العقد لابن عبد ربه يترسم خطى كتاب عيون الأخبار لابن قتيبة، بل لا نبعد في الظن إذا قدرنا أن كتاب " محمد وسعدى " (٢) لابن الكتاني نفسه إنما نسج على منوال كتب الأسمار المشرقية. وقد جاء في آخر نسخة التيمورية ونسخة المدينة تشبيهات ابن أبي عون " وهذه التشبيهات قد عورضت بتشبيهات [مغربية] أندلسية " ويبدو أن الإشارة هنا إنما تعني كتاب ابن الكتاني هذا، فهو كتاب أندلسي، حفظت مخطوطته بالمشرق، بخط مشرقي، فكأنه كان محط اهتمام من المشراقة فظل معروفًا لديهم، ولم نعثر له حتى اليوم على نسخة بخط مغربي أو أندلسي] .
[ومن بين الأبواب التي تبلغ ستة وستين لدى ابن الكتاني نجد خمسين منها مشتركة في عناوينها مع كتاب ابن أبي عون، على أن نتذكر أن أبي الكتاني يدرج بابين أحيانًا من تقسيمات ابن أبي عون في باب واحد من تقسيماته، وهذا واضح في الباب رقم: ٢١ الذي يتناول التشبيهات في أصداغ القيان وعذر الغلمان فإنه قد ضم البابين ٥٥، ٥٦ لدى ابن أبي عون؛ والباب ٣٥ عند الأول يمثل البابين ٣٢، ٣٣ عند الثاني، والباب: ٥٨ وهو في هجو النساء والمغنيات يضم البابين ٢٣، ٢٤ عند ابن أبي عون، والباب: ٦٠ في اللحى هو جماع البابين ٨١، ٨٨ عند المؤلف المشرقي، وهذا جدول غير استقصائي للمقارنة بين عنوانات الكتابين:
_________
(١) الجذوة: ١٨٤.
(٢) الجذوة: ٤٦.
1 / 16
رقم الفصل عند ابن الكتاني - رقمه عند أبي عون
١ ٢ -
٢ ٣ -
٤ ٩ -
٨ ٨٥ -
٩ ٣٧ -
١٠ ٥٧ -
٢٠ ١٧ -
٢٣ ١٤ -
٢٥ ٢١ -
٣٤ ١٠ -
٣٦ ٣٨ -
٣٩ ١١ -
٥٠ ٠٥ -
والباب الأخير عند المؤلف الأندلسي يقابل الباب الأخير (رقم: ٩١) عند ابن أبي عون، وهذا وحده يدل على الاحتذاء، لأن الباب نفسه باب تحشد فيه تشبيهات في موضوعات لا يجمع بينها ربط] .
ومهما يكن من شيء فإن المؤلف قد حاول أن يعرض المجالات التي اتصلت بها ملكة التصوير عند الأندلسيين سواء أخضعت لترتيب موضوعي أو لم تخضع، وأنه قد أطلعنا من خلال هذه المختارات على مبلغ ما بذله الشعر الأندلسي من عناية بالصورة في دور مبكر من تاريخه، حتى أصبح طلب الصورة فيه غاية كبرى بل أصبح بعد زمن أكبر غاية، ومن الطبيعي أن يكون هذا الكتاب مصدرًا جديدًا؟ بل أوسع مصدر حتى الآن؟ لدراسة الشعر الأندلسي حتى أواخر القرن الرابع، ومن الطبيعي أن يكون لدى دارسي الأدب الأندلسي وثيقة جديدة ذات دلالة واضحة لخصائص لم تكن قبل ذلك واضحة في ذلك الأدب.
1 / 17
كتابان أندلسيان آخران في التشبيهات:
لم تذكر المصادر؟ فيما توصل إليه إطلاعي؟ كتاب ابن الكتاني في التشبيهات ولكنها ذكرت كتابًا آخر " في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس " لأبي الحسن علي بن محمد بن أبي الحسين الكاتب. فقد قال فيه الحميدي: " مشهور بالأدب والشعر وله كتاب في التشبيهات من أشعار أهل الأندلس، كان في الدولة العامرية وعاش أيام الفتنة " (١) وزاد ابن عبد الملك في التعريف به قوله " وكان أديبًا بليغًا مشاركًا في النحو حافظًا للغات ذاكرًا للآداب ... وتوفي قريبًا من الثلاثين وأربعمائة " وعد جماعة ممن أخذ عنهم.
ويتضح من هذه الأخبار عن ابن أبي الحسين أنه كان معاصرًا لابن الكتاني فهل توفر على الموضوع الواحد مؤلفان؟ وإذا كان ذلك فما مدى الصلة بين الكتابين؟
ينقل ابن الأبار في ثلاثة مواضع من كتابه " الحلة السيراء " عن كتاب ابن أبي الحسين ويسميه " الفرائد في اتشبيه من الأشعار الأندلسية " فيورد في الموضع الأول (٢) يتبين لمروان بن عبد الرحمن أبي عبد الملك الملقب بالطليق وهما يمثلان القطعة رقم ٣٩ في كتاب ابن الكتاني؛ ثم يورد في الموضع الثاني (٣) بيتين للب ابن عبيد الله فيوافقان القطعة ٧٩ في هذا الكتاب، أما القطعة الثالثة (٤) للمصحفي فإنها لم ترد في كتاب ابن الكتاني. وليس من المستغرب اتحاد الكتابين في إيراد مختارات متشابهة ما داما متعاصرين، ولكن لو سكتت المصادر سكوتًا تامًا عن كتاب ابن الكتاني، هل من الممكن؟ وفي النسخة التي بين أيدينا خلل؟ أن تفترض بأن الكتابين إنما هما كتاب واحد؟ استبعد هذا، خصوصًا إذا عرفنا أن ابن الكتاني قد أورد شعرًا لمن اسمه علي بن أبي الحسين، فإذا صح أنه هو صاحب " الفرائد " فنحن نملك كتابين في التشبيهات لا كتابًا واحدًا.
_________
(١) الجذوة: ٢٩٠ والذيل والتكملة ٥: ٣١٦ وبغية الملتمس رقم: ١١٩٣.
(٢) الحلة ١: ٢٢٤.
(٣) الحلة ١: ٢٣٢.
(٤) الحلة ١: ٢٦٠.
1 / 18
وبعد ما يزيد على قرن من الزمان نجد أندلسيًا آخر يعود إلى موضوع التشبيهات فيفرد فيه كتابًا خاصًا، ذلك هو أبو عامر السالمي محمد بن أحمد ابن عامر (المتوفى سنة ٥٥٩) صاحب المؤلفات الكثيرة المفيدة، وكان أديبًا فصيحًا تاريخيًا حافظًا، ومؤلفه الذي أشير إليه هو " كتاب حلية اللسان وبغية الإنسان في الأوصاف والتشبيهات والأشعار السائرات " (١) ولا نعلم إن كان هذا الكتاب خاصًا بتشبيهات الأندلسيين أو أنه في التشبيهات عامة.
٥ -؟ نسخة التشبيهات والمنهج في التحقيق:
هي نسخة وحيدة لا أعرف لها ثانية محفوظة بمكتبة إسماعيل صائب بأنقرة تحت رقم ٤٦٠٢، وقد أهداني فيلمًا صغيرًا منها (ميكروفيلم) صديقي العالم المحقق الأستاذ محمد بن تاويت الطنجي، فظهور هذا الكتاب محققًا إنما يعزى إلى فضله قبل كل شيء، فله الشكر على ما أسدى، حفظه الله ورعاه.
وتقع هذه النسخة حسب ترقيم صفحاتها في ٢٠١ صفحة، في كل صفحة ١٥ سطرًا، وهي مكتوبة بخط مشرقي مشكول، ولكن فيها أخطاء نسخية كثيرة، واضطراب في الإعجام، أو عدم التقيد به أحيانًا، كما أن الشكل فيها يشذ عن الصواب في كثير من المواضع.
والكتاب حسب تقسيمات الأصل في ثلاثة أجزاء تضم كلها مقطعات لواحد وتسعين شاعرًا؛ ويبدو أن الكتاب كان ضمن مجموعة من الكتب، إذ كتب على الورقة الأولى منه:
١ - يتلوه جزء من أجناس التجنيس لأبي منصور الثعالبي.
٢ -؟ [...] اختيارات في التجنيس من لمح الملح للشيخ أبي الحسن علي بن أبي الغنائم المصري، رحمة الله عليهما.
_________
(١) الذيل والتكملة ٦: ٨.
1 / 19
٣ - ويتلوه إن شاء الله كتاب تذكرة الألباب في أصول الأنساب جمع الوزير الكاتب أبي جعفر أحمد بن عبد العزيز بن عبد الولي البتي.
٤ -؟ ويتلوه كتاب ما تلحن فيه العامة للعلامة أبي طالب المفضل بن سلمة رحمة الله عليه ورضوانه.
ومن التملكات على الورقة الأولى أن الكتاب كتب " لخزانة المولى الفقيه الأجل المكين عز الدين عبد العزيز بن عبد الله المصري عمرها الله ... " وفي موضع آخر أنه من كتب يوسف بن عمر بن علي بن يكنول عفا الله عنه.
[ولما كانت النسخة كما وصفت، من حيث ضبطها، كانت قراءاتي لكثير من المواضع فيها اجتهادية، وقد أبحث لنفسي أن أغير الإملاء فيها إلى صورة الإملاء الحديث، وأن لا أشير إلى الأخطاء في الشكل، وأن لا أثبت في الحواشي من أصل النسخة إلا ما غيرت قراءته وكان يتحمل وجهًا آخر ممكنًا من القراءة، ورقمت الأبواب والقطع الشعرية بأرقام متسلسلة] .
[وقد راجعتها على المصادر، التي تهتم بإيراد نماذج من الشعر الأندلسي، مما أتاح لي تخريج بعض المقطوعات، واثبت هذه التخريجات في الحواشي؛ وأما الشعراء فقد تتبعت تراجمهم في مظانها، وخصصت لكل منهم دراسة موجزة تقع عند نهاية الكتاب، وقرنت بكل منهم أرقام المقطوعات الخاصة به، ولم تسعفني المصادر على الترجمة لبعضهم] .
إن غبطتي بإخراج هذا الكتاب لتفوق شعوري بالعجز عن حل معميات النسخة الوحيدة التي اعتمدتها في تحقيقه، غير أني لم أوفر جهدًا في سبيل ضبطه وتحريره، وإن كان ذلك جهد المقل العاجز، ولي في توجيه المحققين والدارسين ما يسدد الخطى ويحقق جانب الإصابة، والله ولي كل توفيق.
بيروت في غرة أيار (مايو) ١٩٦٦ إحسان عباس
1 / 20