ومهما يكن من شيء فإن سفيان قد تنبه إلى ذلك قبل فوات الفرصة، ففر إلى البصرة، وفيها اختبأ في منزل أحمد بن سعيد، وهناك نصح له بعض أصدقائه أن يحسن علاقته بالقصر، وبالفعل بدئ في المفاوضات بينه وبين بغداد، ولكنه مرض قبل تمامها، وتوفي في شعبان سنة 161ه/سنة 778م.
هذا هو ما يحدثنا به التاريخ عن ذلك المتنسك، ولكن حياته قد أحيطت بسياج من الخرافات.
ومن غرائب الأمور أن بعض المؤرخين يضعونه في الصف الأول ويقدمونه على مالك بن أنس، وأن الذهبي يدعوه بالحجة والثبت على الرغم من أنه كان من كبار المدلسين في عصره، فكان مثلا يعزو بعض الروايات في الحديث إلى شخصيات عظيمة لم يتلقها عنهم، بل تلقاها عن وثائق غير موثوق بها، وقد ذكر لنا الفهرست عددا من مؤلفاته كالجامع الكبير والجامع الصغير والفرائض، ولكن لم يبق شيء من هذه الكتب، ويروي بعض المؤرخين أن الثوري أنبه ضميره قبل موته على هذا التدليس فكلف أحد أصدقائه بإحراق كتبه.
كان سفيان من كبار فقهاء عصره، بل إنه حاول إنشاء مذهب، ولكنه لم يوفق في ذلك، وكان من أهل السنة الذين يؤمنون بالصفات وبأن القرآن غير مخلوق، وبأن علائم الإيمان القول والعمل والنية، وأنه يمكن أن يقوى ويضعف، وأن أبا بكر وعمر مقدمان على «علي»، وله آراء أخرى مثل قوله بصلاة الجمعة والعيدين خلف أي إمام، وبالعناية باختيار الإمام في الصلوات الأخرى، وقوله بتفضيل الإسرار بالبسملة على الجهر بها وبجواز المسح على الخفين بدون ضرورة وبوجوب الخضوع للسلطان عادلا كان أو ظالما.
على أنه لم يرتب أحد في أنه كان يباشر التصوف العملي بين جماعة من رفاقه، منهم السيدة رابعة العدوية المتوفاة بالبصرة في سنة 135ه. (2) المحاسبي
هو أبو عبد الله الحارث بن أسد العنزي، وقد ولد بالبصرة، ولم يحدد التاريخ الذي بين أيدينا سنة مولده، ولما نشأ تلقى الفقه على علماء الشافعية فكان أحد أعلامهم، وتبحر في علم الكلام وكان فيه من أنصار العقل، ولكنه كان يستخدم مفردات المعتزلة ومنطقهم لمهاجمتهم، وأخيرا اعتزل الحياة العامة، وألقى بنفسه بين أحضان التنسك، بعد أن تأمل ردحا من الزمن فيما هو قادم عليه، كما وصف ذلك بإسهاب في وصاياه، وقد اشتهر بالزهد القاصي في عصره، حتى لقد قيل: إنه كان إذا اشتهى لونا من ألوان الطعام ومد إليه يده، تحرك في أصبعه عرق إنذارا له، فيمتنع عنه، وقد أطلق عليه لفظ المحاسبي لكثرة محاسبته نفسه على ما يأتيه من أعمال.
غير أن هذا الزهد لم يحل بينه وبين الاستزادة من العلوم الظاهرية والارتواء منها، بل إن مؤلفاته ومناظراته في علم الكلام قد احتوت من النظريات والمجادلات ما أحنق عليه فقهاء عصره كما حنقوا على جميع علماء الكلام، وقد ظهر هذا الحنق في حملة أحمد بن حنبل وأنصاره على أولئك العلماء، تلك الحملة التي كان من نتائجها أن اضطهد المحاسبي وانقطع عن المجالس العلمية العامة في سنة 232ه واعتزل الحياة كلها زهاء عشرة أعوام، وأخيرا توفي في عزلته في سنة 243ه/سنة 857م.
أما مؤلفاته فمن أهمها ما يلي: (أ) «الرعاية لحقوق الله» وهو كتاب في المبادئ التي يجب على المتصوفة اتباعها، وهو واحد وستون فصلا في صورة نصائح مملاة على أحد المريدين، ويعد منهجا كاملا للإرشاد النفساني، وقد عكف الغزالي - قبل أن يؤلف كتاب الإحياء - على العمل بما فيه زمنا طويلا، وظلت تعاليمه ذائعة في بيئات الصوفية ولا سيما الطريقة الشاذلية عدة من قرون، رغم ما وجه إليه من حملات الخصوم، وهذا الكتاب يوجد في مصر. (ب) «رسالة في المبادئ العشرة الموصلة إلى السعادة»، ويوجد في برلين. (ج) «شرح المعادن وبذل النصيحة»، ويوجد في برلين. (د) «البعث والنشر»، ويوجد في باريس. (ه) «رسالة في الأخلاق»، وتوجد في مكتبة محمد علي باشا الإسلامبولي. (و) كتاب «التوهم». (ز) «ماهية العقل ومعناه». (ح) «رسالة في العظمة». (ي) «رسالة في فهم الصلاة».
شيء من آرائه:
يعد المحاسبي أول صوفي سني دلت مؤلفاته على ثقافته الواسعة في علم الكلام، ومن آيات هذه الثقافة ذلك المنهج الذي وضعه للبحوث النفسانية، والذي أظهر أنه من الممكن تحقيق صلة بين أفعال الأعضاء الخارجية ونيات القلوب، فأبان أن سلسلة الأحوال يمكن أن تنتهي إلى نقاء كامل على شرط أن يخضع الشخص لقاعدة الحياة التنسكية والأخلاقية، وأن هذه هي الرهبانية الحقة، وقد خالف بهذا الرأي أبا الهزيل وأكثر المتكلمين في عصره، فحملوا عليه، وانضم إليهم الفقهاء وأهل الحديث بحجة أنه ضل حين فرق بين الإيمان والمعرفة، وبين العلم والعقل، وحين أقر خلق اللفظ، وقال بأن المختارين في الجنة سيدعون إلى الاستمتاع بالذات الإلهية.
Shafi da ba'a sani ba